عصفت الايام والاحداث
بالنجم الاسترالي الاصل ميل غيبسون ورغم ذلك ظل متماسكا صلبا بعيدا عن
التصريحات
سواء تلك التي تعرضت لانفصاله من زوجته او ارتباطه بصديقتة المطربة
الروسية، وظل
مشغولا بحرفته واختياراته الفنية العالية الجودة، وأعترف أنني كنت قد تأخرت
في
مشاهدة فيلمه الاخير «حافة الظلام» لكثرة المهرجانات وازدحام السفر
والترحال شبه
اليومي بين مدن العالم ومهرجاناتها وأحداثها الفنية، لكن العودة للفيلم
وطروحاته
تبدو من الامور الاساسية لما يتمتع به ميل غيبسون عن بقية نجوم الحرفة
السينمائية
من مكانة وقيمة وتفرد. لهذا تعود اليه، مؤكدين على جملة من المفردات التي
يأتي في
مقدمتها ذلك الطرح السياسي الصريح وتجاوز ما يسمى بـ«المسكوت عنه»، وهو أمر
يبدو
شديد الحساسية حينما يكون الخصم هو المؤسسة السياسية في هذا البلد او ذاك
وتعالوا
نذهب الى صالة عرض «النهار» لنشاهد هذا الفيلم الجديد.
حيث ميل غيبسون الممثل
المتمكن من ادواته ومفرداته الفنية يداهمنا عبر شخصية جديدة ويؤدي في فيلم
«حافة
الظلام» الذي أعاده الى السينما بعد فترة توقف استمرت ثماني سنوات دوراً
مركباً
تتصارع فيه مشاعره كضابط شرطة وعواطفه كأب تجاه ابنته الوحيدة المدللة،
وهنا أحد
اسار المعادلة حيث العزف على أوتار العواطف.
وقد يفاجئ القارئ حينما يعرف بأن
الفيلم مأخوذ عن دراما تلفزيونية ناجحة بالعنوان نفسه، تم
تحويلها إلى فيلم سينمائي
عن قصة للكاتب تروي كيندي مارتن وانتاج
شركة وارنر وقناة «بي بي سي»، ولا شك في أن
أحداثها المثيرة أغرت غيبسون على تقديمها مرة أخرى، فقد وجد في دور المحقق
الجنائي
توماس كريفن امكانات للإبداع لا تحدها حدود، فكثير من المشاهد تتطلب منه
التعبير
بوجهه من دون أن ينطق كلمة واحدة حتى في أشد الانفعالات الإنسانية؛ الخوف،
البهجة،
الحزن، الحيرة، العجز، وأحياناً يتدخل أكثر من انفعال في وقت واحد، وقد
انتقل
غيبسون من انفعال الى آخر كما عبر عن أكثر من انفعال في العديد من المواقف
باقتدار
وتمكن واضحين. جسدا حالة التطور والنضج اللذين بلغهما هذا النجم الكبير.
منذ
اللحظة الاولى ياسرنا الفيلم بالنزعة العاطفية حيث تبدأ الأحداث بلقطات
مصورة لطفلة
صغيرة تجري وتقفز على شاطئ بحر، ثم تنقلنا الكاميرا إلى مطار بوسطن حيث
ينتظر «توماس
كرايفن» ابنته «إيما» التي كبرت ووصلت إلى العشرين من عمرها وتؤدي دورها (بوجانا
نوفاكوفيتش)، والتي تأتي في زيارة مفاجئة لوالدها هي الأولى منذ استقرارها
في مدينة مساتشوستس حيث تعمل في مجال الأبحاث النووية. الدقائق الأولى من
لقائهما
توحي بشيء من الفتور وتقدم «توماس» في شخصية منعزلة، تواجه صعوبة في
التواصل مع
ابنته الذي يعتقد بأنها حامل أو مصدومة في علاقة عاطفية، لاحقاً وأثناء
وجودهما في
المنزل، تعاني «إيما» من نزيف مفاجئ من الأنف وحالة شديدة من القيء، ووسط
هلعها
وطلبها الذهاب إلى طبيب، تتلفظ بكلمات حول ضرورة اطلاع والدها على سر ما،
ولكن
الموت يعالجها برصاصة يطلقها عليها مجهول أمام باب المنزل، وهنا تتولد في
نفس الأب
حالة من الانهيار العاطفي، تتبعها رغبة جارفة بالانتقام مهما كان الطريق
مشوباً
بالعقبات. رغم معرفته التامة بان الانتقام ليس طريق العدالة بل القانون هو
السبيل
ولكن تداعي الاحداث وطغيان الحس العاطفي الانساني يجعل المشاهد يبرر كم
الاحداث.
وتتفجر الاحداث والمغامرات حيث يغرق المشاهد من لحظة القتل في دوامة الشك
حول
الشخص المستهدف من وراء هذه الجريمة، كل المؤشرات تذهب في اتجاه المحقق
توماس، ولا
يصدق ما ادعاه أصدقاؤه العاملون في التحريات من أن أحد العملاء أراد قتله
فأخطأه
وأصاب ابنته وتعامل مع القضية على أنها اغتيال لابنته الغالية، وأن عليه
الانتقام
من القاتل مهما كان وضمن أي ظروف، وتتصاعد الأحداث لتفاجئنا بأن موت «ايما»
بالفعل
ليس حادث قتل عادي، خصوصاً عندما يكتشف الأب أن ابنته إيما كانت تخبئ
مسدساً تعود
ملكيته الى صديقها دافيد «شون روبرتس»، فيبدأ في عملية بحث مضنية عن
الدوافع التي
قادت لمقتل ابنته أمام عينيه. وهو الشاهد الوحيد على تلك العملية الغادرة.
وضمن
مسيرته للمواجهه والكشف عن ظروف الحادث، يتوصل »توماس« إلى حقائق تثبت تورط
الحكومة
وبعض رجالاتها وأجهزتها بعملية تصنيع أسلحة نووية لحساب دول أخرى، من خلال
شركة «نورثمور»
التي كانت تعمل فيها ابنته، مرة واحدة فقط يذكر أحدهم في الفيلم شيئاً عن
أن تلك الأسلحة هدفها تمويل الجهاديين لخوض حروبهم التخريبية في منطقة
الشرق
الأوسط، ولكن حتى من دون تلك المعلومة، يمكن للمشاهد استنتاج تلك النقطة
غير
المخفية؛ لأنها السبب الرئيسي الذي يجعل إعادة تقديم هذه الحكاية مجدداً
عملية
مربوطة بالواقع السياسي في عالم ما بعد 11 سبتمبر. والذي شكل محورا أساسيا
في اعادة
صياغة الكثير من الاعمال الدرامية.
ومنذ اللحظة التى يكتشف بها توماس تلك
الحقائق تبدأ
احداث الفيلم فى الذهاب بعيدا في مساراتها
ودلالاتها حيث تأخذ أبعاداً
تتسق مع عنوان الفيلم «حافة الظلام»؛
فالخصوم الذين يواجههم خطيرون ويمثلون قوى
كبيرة في السلطة الأميركية، وكذلك التحريات التي يجريها تجعله عرضة للقتل
بين لحظة
وأخرى، كل ذلك ضمن تداخل للأحداث يجعل الطريق أمامه مظلماً، ويضع الحقيقة
في مكان
مجهول صعب الاقتراب منه أو مواجهته. الخيط الذي يقود المحقق توماس للانتقام
من قاتل
ابنته اعتراف أحد رجال الشرطة بأنه على علاقة بمؤامرة حيكت لاغتيال الفتاة،
وكانت
تستهدف أيضاً قتل توماس، ويلعب المحقق «جيدبيرغ ـ راي وينستون» دوراً في
تصعيب
اكتشاف الحقيقة، لكن المحقق توماس يصل إلى غايته بعد صراع مع القوى
السياسية التي
تسيطر على المجتمع الأميركي وتدير مصالحه ويكون مصيرها الموت والفضيحة وكشف
المسكوت
عنه، حيث يختار «توماس» إرسال الفيلم الذي صورته ابنته قبيل مقتلها والذي
يكشف عن
نشاط شركة «نورثمور» غير القانوني إلى صحافية ناشئة في تلفزيون «فوكس»
للإعلان عن
تفاصيل المؤامرة، ربما لأنها تذكره بابنته. ونشير هنا الى ان الفيلم من
إخراج مارتن
كامبل، وهو مخرج نيوزيلندي أخرج اثنين من أفضل أفلام العميل السري
الإنكليزي «جيمس
بوند»، وهما «العين الذهبية» (1995) من بطولة بروس بروسنان، و«كازينو رويال»
(2006)
لدانيال كريغ، كما قام بإخراج الفيلمين الأخيرين من سلسلة أفلام زورو من
بطولة
أنتونيو بانيدراس وكاترين زيتا جونز، وهما «قناع زورو» (1998) و«أسطورة
زورو» (2005).
«حافة
الظلام» دراما بوليسية في ساعة و48 دقيقة، جمعت بين السياسة
والتشويق فيما يشبه البحث الميداني، وعلى الرغم من اعتمادها على الحبكة
التي تفرج
عن المعلومات ببطء تدريجي وتميز أعمال هوليوود، فإن براعة التصوير وطول
اللقطة
الواحدة واختلاف زوايا تصويرها جعلت الفيلم جذاباً ولافتاً للانتباه.
ونخلص ... «حافة
الظلام» عودة ذكية لميل غيبسون وتماس حقيقى مع المسكوت عنه في فيلم يقول
الكثير بل أبعد من حدود الصورة ودلالاتها وهنا الافلام التى لا تفارقنا
مهما
ابتعدت.
Anaji_kuwait@hotmail.com
النهار الكويتية في
23/03/2010
(المنطقة الخضراء)..
هوليوود تدنو من أسئلة الحرب في العراق
عمان - ناجح حسن
يقتحم الفيلم الاميركي البريطاني المشترك (المنطقة الخضراء) للمخرج
البريطاني بول غرينغراس، طوفان هوليوود السينمائي حول الحرب التي شنت على
العراق، ويقدم سؤاله الخاص حول الدوافع التي قادت القوات الاميركية إلى
احتلال العراق .
يأتي (المنطقة الخضراء) داخل الجدل الدائر بشكل متواصل داخل كواليس
هوليوود، التي أنجزت طوال السنوات الأخيرة العديد من الأفلام التي تحاكي
محطات ومواقف وصور من هذه الحرب.. سواء بشكل مباشر أو على نحو فيه من
الاشارات والإحالات، التي تشي بانعكاسات هذه الحرب على أفراد وجماعات،
بحيث أثارت ولا زالت الكثير من الجدل داخل المجتمع الاميركي .
اشتغل غرينغراس صاحب الفيلم المعنون (الرحلة يونايتد93) وسلسلة أفلام
(هوية بورن) البوليسية التشويقية، التي اضطلع بها نجمه المفضل مات دامون
الذي اسند إليه الدور الرئيسي بفيلمه (المنطقة الخضراء) في اتكاء على كتاب
لإعلامي اميركي قدم فيه جوانب من الخفايا التي كانت تحكم الإدارة
الاميركية إبان حقبة الرئيس جورج بوش في التصميم على الحرب، وذلك من خلال
جندي اميركي أوكلت إليه مهمة التفتيش على أسلحة الدمار الشامل التي كانت
الإدارة الاميركية كانت تزعم إنها بحوزة العراق، بيد أن هذا الجندي الذي
يؤدي دوره مات دامون يصطدم مع زملائه في وحدات أخرى هدفها وأد أي دليل على
إن العراق كان يخلو من أسلحة الدمار الشامل، بذريعة المحافظة على تأييد
المجتمع الاميركي لهذه الحرب ودوافعها.
يختار الفيلم تضمين أحداث فيلمه بمشاهد وثائقية للرئيس بوش وهو يخاطب من
على مدمرة اميركية بان الحرب قد انتهت، في حين يبرز الفيلم في مشاهد تالية
والبعض منها يأتي على لسان شخصيات الفيلم من باب الهزء والسخرية خاصة
عندما تظهر الصور على ارض الواقع جنود أميركا ما زالوا يواجهون النيران
في سائر المناطق العراقية.
بذل المخرج إمكانيات إنتاجية ضخمة في بلوغ فيلم حربي أشبه بالملحمي وهو
يقترب من تصوير ما يجري في العراق من أحداث عنف جانب منها يعود إلى خلافات
بين أطراف عراقية حيث يحتشد الفيلم بأجواء الحرب وهي تقدم مشاهد القصف
الجوي والتتبع للأهداف وعمليات الاقتحام باليات عسكرية المجهزة بأحدث
التقنيات الكومبيوترية .
كما يتخذ الفيلم خيوطا درامية تبدأ من خطة إحضار قائد عسكري عراقي في
الجيش الذي جرى حله، قيل انه تفاوض في السابق مع مسؤولين اميركان أكد لهم
إن العراق لا يحوز مثل هذا النوع من الأسلحة بعد أن تخلص منها وقام
بتدميرها، لكن أطراف في الإدارة الاميركية تبحث عن هذا القائد العسكري
العراقي من اجل قتله، وبعد مطاردات مثيرة يتخللها الكثير من العنف والحركة
في أجواء ليلية داخل أزقة وبيوتات عراقية بسيطة تنتهي المطاردة بعد أن
يقوم احد المواطنين العراقيين الذي يقوم بمهمة الترجمة - بترت ساقه إبان
الحرب العراقية الإيرانية _ بقتل القائد العراقي السابق كنوع من ثأر قديم
! .
رغم تلك الرؤية التي تبدو محايدة لصناع الفيلم في تقديم عمل سينمائي مبهر
ضخم الإنتاج عن الحرب على العراق، إلا انه ظل قابعا في دائرة ضيقة اتخذها
من عمليات التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، دون أن يعمل على شروط الفيلم
السياسي، في إجراء تحقيق مشهدي يندرج بإيقاع هاديء ورصين مفعم بتلك
الشهادات للمفتشين الدوليين كتلك التي أخذت في الآونة الأخيرة تناقشها
بلدان مثل إنكلترا في تحقيق شامل حول الدوافع التي قادت إلى إعلان الحرب
على العراق.
طالما حافظت هذه النوعية من الأفلام على رفد السينما بعناوين عديدة وهي
تسلّط الضوء مصحوبة بلغة سينمائية ودرامية جذابة في عناق مع القضايا
الإنسانية المتباينة في أتون الحرب.
واضح بشكل جلي لا لبس فيه أن هوليوود لم تكن في وارد إن تبقى محايدة في
الاقتراب من موضوع مثل الحرب في العراق، وأنها إزاء ما أفرزته الحرب من
نتائج وخيمة، عملت على المزيد من الأفلام، بعضها لا زال في طور الإنتاج،
وجميعها ترسم صُوَراً مختلفة بأساليب جمالية وفكرية متفاوتة، طالما ظلت
هوليوود بين حقبة وأخرى تعمل على ترسيخها في ذاكرة وخيال عشاق الفن
السابع.
الرأي الأردنية في
23/03/2010
« المنطقة الخضراء».. بحثاً عن الضحية
غرينغراس يصقل مهارته في الموازنة بين الفوضى والوضوح
إعداد - مالك عسّاف
«نحن هنا لتأدية مهمة»، يقول جندي أميركي بعد مضي شهر على الغزو الأميركي
للعراق، في فيلم «المنطقة الخضراء»، الذي يأخذنا فيه المخرج بول غرينغراس
ضمن جولة سريعة على المجازر والكذب الرسمي. ثم يضيف: «الأسباب لا تهم».
«إنها تهمني»، يقول كبير ضباط الصف، روي ميلر، الذي يؤدي دوره النجم مات
دامون في منتهى البراعة. وبعدما يقوده بحثه عن أسلحة الدمار الشامل إلى
الكشف عن تلك السلسلة من الأكاذيب والدجل، يقوم ميلر بإضافة عبارة أخرى
لتلطيف المعنى، قائلاً: «أسباب ذهابنا إلى الحرب دائماً تهم.. دائماً تهم».
كلمات ميلر تضعه في مواجهة مع بعض رفاقه، ومع تلك الثقافة العسكرية التي
تمنع عناصر الجيش من إثارة أسئلة حول نوعية المهمة الموكلة إليهم. لكن
شخصية ميلر الجادة تُعتبر نقدا لاذعا، وإن بشكلٍ غير مباشر، للكثير من
أفلام الحرب التي ظهرت مؤخراً، والتي تعمَّدت عدم التطرق إلى الأسئلة
السياسية، والتركيز بدلاً من ذلك على ضغوط ومخاطر الحرب.
يحتوي فيلم «المنطقة الخضراء» على الكثير من مشاهد القتال والعنف. وبدءاً
من فيلم «الأحد الدامي»، وصولاً إلى النسختين الثانية والثالثة من سلسلة «بورن»،
تمكَّن المخرج غرينغراس من صقل مهارته في الموازنة بين الفوضى والوضوح.
وباستخدام مواقع تصوير في كلٍّ من المغرب وإسبانيا، بعد إدخال شيء من
التعديل عليها، لتكون مماثلة لبيئة بغداد، يقوم غرينغراس بتصميم مطاردات
راجلة ومواجهات مسلَّحة تشبه في سرعتها وتعقيدها ودقتها إحدى مقطوعات باخ
عندما تُعزف بمنتهى السرعة.
لكن كما هو حال كبار صناع أفلام الحركة، لم يسبق لغرينغراس أن أبدى اهتمامه
في التقنية لأجل التقنية. فالتمثيل تحت الضغوط، بالنسبة له، يمثل اختباراً
وكشفاً للشخصية. وقد ساهم فيلما «هيمنة بورن» وإنذار بورن الأخير» في صقل
هذا المبدأ ومنحه بعداً فلسفياً. والشخصية التي أداها دامون في هذين
الفيلمين، لم تكن تعرف هويتها قبل مشاهدتها نتائج أفعالها.
بالطبع ميلر محارب عادي، وليس مجرد قاتل مأجور مصاب بفقدان الذاكرة، لكن
مشكلته لا تختلف كثيراً عن مشكلة جايسون بورن. إذ إن دوافعه تصبح واضحةً في
نظره فقط لحظة اتخاذه القرار، وكلما زادت ضبابية الموقف، كان عليه أن
يستجيب بسرعة أكبر.
المشكلة التي يواجهها ميلر أخلاقية أكثر مما هي وجودية. في البداية يتم
تكليفه بمهمة مباشرة وخطيرة تتمثل في الاستيلاء على المواقع التي يُعتقد أن
صدام حسين يخبئ أسلحة الدمار الشامل داخلها. لكن يعود رجاله من مهمتهم
خالين الوفاض- حيث يعرِّضون حياتهم للخطر عبر الإغارة على مستودعات فارغة
ومعامل مهجورة- يكتشف ميلر أن العمل الحقيقي الذي يقوم به يتمثل في الكشف
عن تاريخ خفي من التلاعب والخداع. والأسئلة البسيطة التي يثيرها حول
المشاكل التي انطوت عليها التقارير الاستخباراتية المتعلقة بالأسلحة، تقوده
إلى داخل صالة مليئة بالمرايا، وإلى صراعات أكثر تعقيداً من مجرد تلك
المعركة البسيطة والسطحية التي تدور بين الديمقراطية والاستبداد.
بالنسبة لأي شخص كان يتابع الأحداث خلال العام 2003 والأعوام التي تلته،
يبدو الأمر مألوفاً. يقوم غرينغراس وكاتب السيناريو برايان هيلجلاند بغربلة
واختصار وتبسيط الوثائق التاريخية بشكلٍ يتوافق مع ضرورات العمل السينمائي.
كما يبدو واضحاً أنهما درسا جميع التقارير الصحافية المتعلقة بالأيام
الأولى للحرب، ومع أن الصورة التي يقدمانها عن الاقتتال داخل صفوف
الأميركيين، وتنامي التعصب الحزبي بين العراقيين، قد لا تكون دقيقة في كل
تفاصيلها، لكن هذا لا يعني أنها لا تتمتع بسلطة مستقاة من حقيقتها
الروائية.
الأسئلة التي يثيرها ميلر حول التقارير الاستخباراتية غير الموثوقة يتم
تجاهلها من قبل القيادات العليا، وخاصة من قبل أحد ضباط مخابرات الجيش،
ويُدعى باوندستون، الذي يؤدي دوره النجم غريغ كينيار. باوندستون، الذي
يمتلك خطاً مباشراً مع البيت الأبيض، كما يتقن استخدام المصطلحات المتداولة
داخله، يمثل في هذا الفيلم دور عدد من الأشخاص الحقيقيين، الذين لا يتم ذكر
أسماء معظمهم، لأنه لا توجد حاجة إلى ذلك.
بمعنى آخر يمثل باوندستون دور الانتهازي والمتدين في الوقت ذاته، حيث يقوم
بإطلاق المواعظ المثالية الطنانة في الوقت الذي يحمل فيه خنجراً مكيافيلياً
ساماً. عدوه اللدود هو مارتن براون (يؤدي دوره بريندان غليسون)، رجل السي
آي إيه الذي تدفعه خبرته في هذه المنطقة إلى التنبؤ بحدوث اقتتال طائفي
وشلل سياسي. يصبح ميلر جزءاً من الصراع على السلطة بين باوندستون وبراون
والوكالتين اللتين ينتميان إليهما، كما يبدأ بالتواصل مع الصحافية لوري
داين (تؤدي دورها إيمي رايان) التي تقوم بنشر معلومات مضلِّلة تأتيها عن
طريق باوندستون الذي يستقيها بدوره من مصدر عراقي غامض. ومع أنها في الفيلم
تعمل لصالح صحيفة «وول ستريت جورنال»، إلا أنها تذكِّرنا بجوديث ميلر،
المراسلة السابقة لصحيفة «نيويورك تايمز»، التي تعرضت لانتقادات شديدة بعد
الغزو على خلفية التقارير التي أعدتها، والتي ساهمت في تعزيز الحجج التي
استندت إليها إدارة بوش.
الأميركيون المتواجدون في بغداد تسود بينهم روح التناحر والعداوة والطعن في
الظهر، كما يبدو من خلال الفيلم. لكن الوضع بالنسبة للعراقيين أسوأ بكثير،
علماً أن فيلم «المنطقة الخضراء» يرفض تحويلهم إلى مجرد لاعبين ثانويين في
مصير دولتهم. فهناك الجنرال البعثي الذي يُدعى الراوي، والذي يمثل ركناً
أساسياً ضمن الجهود الأميركية لإعادة بناء البلاد، أو ربما عقبة خطيرة في
وجه تلك الجهود. وهناك أيضاً الشخص العراقي الذي يعمل برفقة ميلر، حيث يطلق
عليه هذا الأخير اسم فريدي (ويؤدي دوره الممثل خالد عبدالله)، والذي يؤدي
دور المخبر والمترجم، وهو الدور الذي يعبِّر من خلاله عن ذلك الصراع العميق
الذي يدور داخل المواطنين العراقيين- الذين يختلط لديهم الشعور بالأمل
والخيبة والغضب- بسبب المعاناة التي واجهوها في ظل حكم صدام حسين من جهة،
ولكونهم لايزالون غير متأكدين إلى أي مدى يمكنهم أن يثقوا بمحرريهم
الأميركيين من جهة أخرى.
«لستَ أنتَ من يقرر ما الذي يحدث هنا»، يقول فريدي لميلر في أحد مشاهد
الفيلم. ومع أن هذه الجملة تتمتع بطابع أيديولوجي موجَّه، فإنها لا تخرج عن
حدود المقبول والمبرَّر. بعبارة أخرى، يُعتبر فيلم «المنطقة الخضراء» من
الأعمال السينمائية التي تعمل على تبسيط تعقيدات الواقع دون أن يصل الأمر
بها إلى حدود التشويه.
بعض المتحذلقين يعترضون على المقاطع الخاصة بالمطاردات والتغييرات المفاجئة
في الحبكة، بوصفها تؤدي إلى تشويه الحقائق، في حين يرى الباحثون عن الإثارة
أن السياسة تتدخل في التفجيرات وتبادل إطلاق النار، وتعمل على ترويضها.
فضلاً عن ذلك أُثيرت مؤخراً موجة من الانتقادات التي تقول إن الفيلم يقوم
على أجندة يسارية معادية لأميركا.
كل هذا يشير إلى أن القضايا التي أثارتها نسخة 2003 من هذا الفيلم لاتزال
مطروحة بعد مضي سبع سنوات، كما أنها لاتزال في حاجة إلى من يطرحها بصدق
وبشكلٍ يجعلها في متناول الجميع. وهذا ما يحاول فيلم «المنطقة الخضراء»
القيام به دون أن يتخلى عن وظيفته المتمثلة في الإمتاع والتسلية. عندما
أطلق غرينغراس في العام 2006 فيلم «يونايتد 93»، الذي قدم فيه رؤيته لأحداث
11 سبتمبر، اعتبر البعض أن ذلك العمل جاء قبل أوانه. قد يكون ذلك صحيحاً،
لكن فيلم «المنطقة الخضراء» جاء في وقته تماماً.
عن صحيفة
«نيويورك تايمز» الأميركية
أوان الكويتية في
23/03/2010 |