لم يكن غريباً أن يفوز فيلم «اثنا عشر لبنانياً غاضباً»، للمخرجة اللبنانية
زينا دكاش، بجائزة مهرجاناتية كبرى، فهو قد أثبت ذلك من قبل، في مهرجان دبي
السينمائي الدولي السادس، عندما نال جائزة المهر العربي للأفلام التسيجيلية،
قبيل نهاية العام 2009. الغريب، ربما، أن هذا الفيلم سيقطف جائزة الجمهور
في دمشق، مع ختام مهرجان سينما الواقع
Dox Box متفوقاً بذلك على كل ما نافسه من أفلام تسجيلية سورية وعربية
وأجنبية، حاصداً النسبة الأعلى من أصوات الجمهور السوري.
ومع فوز المخرجة الفلسطينية لينا العبد، وفيلمها «نور الهدى»، بجائزة
«صورة» التي يقدمها المخرج حاتم علي، عبر شركته التي تحمل الاسم نفسه، إلى
أفضل فيلم تسجيلي سوري في المهرجان.. وفضلاًَ عما أمكن للجمهور السوري
مشاهدته من أفلام تسجيلية، غير متوفرة في غالبيتها، يمكن القول إن
Dox Box
يقدم نموذجاً لمهرجان سينمائي مستقل، نحتاج إليه حقاً.
واليوم، أيضاً، أراني أعود إلى شيء من حواراتي المتواصلة مع المخرج عروة
نيربية، مدير المهرجان، للإطلالة المتأنية على هذه التجربة المستقلة، التي
لم تشهد لها سوريا مثيلاً من قبل.. خاصة وأن هذه التجربة بدأت تتوطد، وتجد
لها امتدادات عربية وعالمية، وتستقطب جمهوراً من الشباب السينمائيين،
ومتشوقي التعرف إلى عالم السينما التسيجيلية.
·
[ كيف ولدت فكرة «سينما
الواقع»؟..
ـ نشأت الفكرة من داخل تجربتنا (المخرجة ديانا الجيرودي، وأنا)، حيث مع
انطلاق عملنا في إنتاج وتوزيع وعرض الأفلام التسجيلية، تعرفنا أكثر فأكثر
على السينما التسجيلية في العالم. تعرفنا على أفلام، وعلى مخرجين،
ومهرجانات، وعلى شرط الإنتاج الدولي، على المنح الدولية المختصة، وعلى
الانتاج الدولي المشترك..
وكان السؤال الحاضر أبداً هو غياب السينما التسجيلية في العالم العربي
عموماً، وفي سورية بشكل خاص.. ثم تطورت الفكرة بالتعاون والتشاور مع العديد
من السينمائيين المعنيين. لقد انطلقنا، كما فعل الجميع، من سلبية وتشاؤمية
إزاء القدرة على اختراق حصرية الانتاج السينمائي، وضيق حاله في بلدنا، ثم
بكل بساطة، اكتشفنا أن صناع السينما التسجيلية في كل أرجاء العالم يعانون
من صعوبات إنتاجية.
الجانب الآخر لنشوء الفكرة أو للاحساس بضرورتها، هو تقديم «السينما
التسجيلية» للجمهور في سوريا.. فهي تكاد تكون مجهولةً تماماً، وتغطي على
«السينما» فيها تلك الروائية حصرياً، وعلى «التسجيلي» فيها ذاك التلفزيوني
وحده.. السينما التسجيلية، بالمفردتين معاً، هي أقدم أجناس الإبداع
السينمائي، وهي بالمقام الأول فن سينمائي منفتح البنية واللغة، وباحثٌ
بطبيعته.
هذه الرغبة كانت سبباً في العمل على إطلاق مهرجان يختص بهذا الجنس، هو دفاع
عن مهنتنا، وعمل على تطويرها، وهي أيضاً رغبة في تقاسم المتعة السينمائية..
المختلفة!
·
[ لماذا «سينما الواقع»؟
ـ السينما التسجيلية (كما يحلو لنا أن ندعوها، لنفرد لها مساحة مختلفة عن
الأفلام والبرامج التلفزيونية الوثائقية)، هي مفتاح نؤمن به للتقدم
السينمائي والاجتماعي، معاً.
يدرُج كثيراً أن تُعدّ (السينما التسجيلية) مرحلةً أولى في فيلموغرافيا
المخرجين الشباب. يقول عمر أميرالاي عن هذه النظرة إلى التسجيلي: «يرونها
ممسحةً أمام باب معبد السينما الروائية»، في حين أن العمل الجدي والمحترف
على بناء فيلم سينمائي تسجيلي، لا يقل مشقة، بأي حال من الأحوال، عن الفيلم
الروائي، من حيث كونه تحدياً إبداعياً صعباً ومتطلباً.
الفيلم السينمائي التسجيلي فيلم ذو بنية سردية، وسياق درامي، برغم أنه قائم
على مواد مصورة من الواقع. هو عمل مضنٍ مليءٌ بالمفاجآت، وغير قابل للضمان
أو للتوقع، وهو محفوف بالمساءلات الأخلاقية العميقة. وهذا ما يسمح له
بالتطور المستمر، ويجعل «سينما المؤلف» في التسجيلي حاضرة بقوة كبيرة
وصامدة في وجه أغوال التوزيع والإنتاج.
ثمة أهمية تقدمية كبيرة كذلك، إذ أعتقد أن فقدان الذاكرة مرض شائع حول
العالم الثالث، وللعمل السينمائي القدرة على المساهمة هنا!.. له القدرة
أيضاً على المساهمة في تطوير «نقد الذات»، وهو مفهوم كاد يفقد معناه عندنا،
لكن ذلك لا يفقده أهميته الحضارية، بأي حال.
يبقى أن السينما التسجيلية ليست سينما برّاقة، هي لا تصنع نجوماً، ولا تحدد
قوالب وأيقونات، هي لا تروج قصّة شعر، ولا تبيع بضائع، وبالتالي يكون أكبر
أعلامها العالميين أبسط وأقرب وأشد تواضعاً من أصغر «نجوم المسلسلات
السورية».. وهذا يدفعنا للإيمان بها!
كما أنها من الناحية التقنية/ الإقتصادية صناعةٌ ممكنة!.. إذ برغم العديد
من العوائق والمحددات الأخرى، يظل التحدي القائم في تمويل فيلم تسجيلي أبسط
من ذاك الروائي!.. الفارق في الميزانيات هو واحد إلى عشرة بمعدله العام
(وليس واحداً إلى مئة كما يشيع)!.. وهذا ليس أمراً ثانوياً. السينما
التسجيلية قادرة على تقديم سوريا، المبدعين السوريين، الهموم السورية،
المشاكل السورية، التجارب السورية، وعلى تطوير حضور دولي فعلي، وعلى
المساهمة في تطوير سورية أيضاً!.. وبدون أن ينظر إلى ذلك بوصفه مهمة هائلة،
من حيث تطلبها الاقتصادي.
لابد أخيراً من القول إن محدودية النظرة الرقابية مشكلة معوقة قائمة
لدينا.. وأن تجاوز وتطوير العقلية الرقابية واجب لا مهرب منه.
·
[ما أبرز الصعوبات، وكيف
تلافيتموها؟
ـ الصعوبة الأساسية هي غياب القوانين الناظمة للعمل الثقافي المستقل بشكل
عام، ما لا يزودنا بآلية عمل واضحة، من حيث التعامل مع مختلف الجهات
الحكومية، وتحصيل الموافقات، وما شابه. نقص الخبرة في العمل التطوعي، وفي
إدارة النشاطات الثقافية، وفي عمل المهرجانات المستقلة، كان صعوبةً كذلك،
ونتلافاه بالتشاور والتعاون مع غير مهرجانات، وبمراكمة خبرة فريق المهرجان.
المحدوديات الرقابية مشكلة لا يمكن تجاوزها اليوم أيضاً، وإن كان على المرء
أن يقول إن أيام سينما الواقع لم يتعرض لأي «مشاكل» رقابية، بل إن اللجان
الرقابية كانت متعاونة تماماً، بل حريصة على نجاح التجربة.
سلبية المخرجين الشباب السوريين صعوبة جوهرية، يمكن للمرء أن يناقشها
مطولاً.. لكن النقطة الأساسية التي يستشعرها المرء، حتى اليوم، هي أن أغلب
الشباب السينمائي في سوريا اليوم يهاب فرص العمل الفعلية.. يرى نفسه أمام
امتحان إثبات الذات، بدل الاستمرار في الشكوى من مرارة الواقع وغياب
الفرص.. وهذه في الأرجح مرحلة انتقالية لا مهرب منها. مثال ذلك، أن يحصل
مخرج شاب على فرصة اللقاء بمستشار دولي معروف، فيتأخر عن الموعد، أو أن
يستغرب مخرج في أول الدرب، أن عليه ملء استمارة المشاركة، برغم أنه معروف..
مشاكل مثل هذه ستحتاج عملاً مطولاً، كي نتجاوزها. وهي تفسر الإقبال الأوسع
على التسجيل في ورشات العمل من العالم العربي، مقارنة بالإقبال من قبل
الشباب السوري، برغم أن الشباب السوري يشكو باستمرار من غياب ورشات العمل
التخصصية!.. وهذا يحيلنا إلى ضرورة إنشاء مدرسة سينما وطنية!
ثمة صعوبات لا يمكننا تلافيها بالطبع! من ذلك مشكلة التمويل المحلي. عدم
وجود نظام إعفاء ضريبي وطني، مثلاً، أسوةً بالعديد من دول العالم.. نظام
كذلك قادر على دفع العمل الثقافي الوطني أشواطاً إلى الأمام، وهو يرفع
جزءاً من المسؤولية، أو الواجب، عن كاهل مؤسسات الدولة. أي بإرساء قوانين
تحذف (كلاً أو جزءاً) مساهمة شركة ما في تمويل نشاط للنفع العام (والثقافي
منه!) من المستحقات الضريبية على الشركة.. قانون كهذا سيشجع الشركات
السورية الرابحة على المساهمة مالياً في تمويل العمل الثقافي. لا نستطيع
تجاوز هذه الصعوبة، مثلاً..
·
[ إلى أين يمكن أن تصل فكرة
«سينما الواقع»؟
ـ ثمة اتجاهان في تطور المهرجان.. أحدهما أسرع من الآخر:
الاتجاه الأول: الأبطأ حكماً، هو الوصول إلى تكريس المهرجان منصة اتصال بين
التسجيليين العرب، وبينهم وبين البيئة التسجيلية الدولية.. وبالتالي
المساهمة في تنمية البيئة الانتاجية العربية نوعاً وكماً.
الاتجاه الثاني: هو تعميم الاستفادة من الجهد التنظيمي والتمويلي السنوي
للمهرجان، إذ نؤمن بأن العمل المضني لتحضير المهرجان كل سنة، بما في ذلك
انتقاء الأفلام وجمع وتحرير المعلومات والحصول على أذون العرض وعلى عناوين
السينمائيين وتطوير العلاقات معهم، بالإضافة إلى النقطة الأهم، وهي ترجمة
جميع أفلام المهرجان إلى العربية، بما في كل ذلك من جهد وتكاليف، تجعل من
حصر المهرجان بمدنه الحالية الثلاث (دمشق، حمص، طرطوس)، قصوراً، إن لم نقل
عيباً.. ولذا نطمح لإضافة غير مدن سورية، بل ولإضافة غير مدن عربية.. من
هنا أتى اسم المهرجان بالانكليزية
DOX BOX
حيث هو بطبيعته مهرجان متنقل.
التعاون العربي بين المؤسسات الثقافية غير الربحية ممكن تماماً، فمؤسسات
مثل سينما متروبوليس ببيروت، سينماتيك طنجة بالمغرب، مسرح البلد بعمان،
جمعية كريزاليد بالجزائر، والعديد سواها، هي مؤسسات مثيرة للإعجاب. جميعها
قامت على مبادرات مستقلة، وعلى امكانيات شحيحة، وكل منها يقدم اليوم نشاطات
ثقافية ممتازة.. أيام سينما الواقع يعتزم، بكل جدية، التعاون مع هذه
المؤسسات، بحيث يحل ضيفاً عليها، ويدعو أية مؤسسات عربية أخرى مهتمة
للتعاون كذلك.
المستقبل اللبنانية في
21/03/2010 |