"ما
أنا إلا رئيس واحد، ولن أكون الأخير، ومن
بعدي لن يضطر الرؤساء إلى الانتحار، لن يكون ذلك ضرورياً... لن يكون
ضرورياً" هذا
ما قاله الرئيس "سلفادور إللندي" قبل أن يوجه فوهة الرشاش إلى عنقه مردياً
نفسه بعد
الحصار، كي لا يحظى به دكتاتور تشيلي القادم "بينوشيه" في 11 أيلول 1973.
قبل
ذلك بربع قرن، قال الأب الروحي لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية
CIA "وليام
دونو نوفان" إنه يجب أن تكون لوكالة المخابرات المركزية سلطة القيام
بعمليات
تخريبية في الخارج.
واليوم يقول المخرج "باتريسيو غوسمان" إن ثلاثية معركة تشيلي
عاشت لأكثر من ثلاثين عاماً حتى الآن؛ بسبب شهرة إللندي والملحمة التي قام
بها، في
العالم، وبسبب طريقة بناء الفيلم.
ليس من المستبعد، بل إنه من الواجب
ربما، وللأمانة لغوسمان نفسه، أن تختلط السياسة مع التاريخ بل
والجغرافيا وفن
الفيلم التسجيلي عند الحديث عن رائعته ثلاثية معركة تشيلي، أو عند إجراء
حوار شخصي
معه.
ربما لولا ما أسس له عراب المخابرات المركزية الأمريكية، ما كانت
مأثرة
سلفادور إللندي وما كانت ملحمة غوسمان، ولربما نهضت تشيلي وانتصر فيها خيار
الشعب
في الأصقاع التي كانت تدعى "بلاد نهاية الأرض" الممتدة على جزء من الشريط
الساحلي
الغربي لأمريكا الجنوبية.
منظورات وذاكرة
هل تغير
الإقبال الجماهيري على ثلاثية غوسمان عبر العقود الثلاثة الماضية في العروض
والمهرجانات حول العالم تبعاً للتغيرات السياسية العظيمة ونكبات شعوب أخرى،
وهو
الفيلم السياسي بامتياز؟... يجيب غوسمان بسرعة وكأنه سؤل هذا
السؤال عشرات المرات "لا
فرق، الإقبال كان دائماً بمستوى واحد، بسبب شهرة اللندي وما قام به في
تشيلي،
وبسبب طبيعة بناء الفيلم. صُنعتْ أفلام كثيرة عن تشلي ولم تلقَ الإقبال
عينه..
تشيلي كان فيها تصادم بين طبقتين البورجوازيون من جهة، وبقية الشعب من جهة
أخرى
الذين هم مع إللندي بشكل عام.. وأنا أدرت الفيلم بين الطرفين ما جعله
ديناميكياً
مظهراً الآراء المتناقضة"
ربما هي الديناميكية ذاتها التي المبتغاة من إللندي،
الذي أصر على الديمقراطية، نابذاً كل خيارات العنف لإنجاز الانتقال إلى
الاشتراكية،
وهو التوجه الفذ في حينه والمثير للجدل حتى يومنا هذا.
في فيلم "إللندي"
لغوسمان المنتج في العام 2004 ومن خلال مشهد نرى فيه
إزالة الدهان عن جدار قديم بحكه ليظهر لونه الأصلي، يؤكد المخرج على إيقاظ
الذاكرة
لاسترجاع ماضٍ تم طمسه. هل كان الفريق الذي أنجز ثلاثية معركة تشيلي أثناء
حكم
إللندي (1970-1973) يخزن ذاكرة للمستقبل، هل كانوا يعون ذلك؟
"لا، مطلقاً، كنا
مولعين بما يحدث، كان شيئاً عظيماً جداً وفريداً على مستوى العالم، كأنه
الحدث
الوحيد.. كيف يمكن ألا أصور في هذه الظروف، إنها الغريزة السينمائية
البحتة! لذلك
كنا نعمل عشر ساعات يومياً لمدة عام ونصف حتى في أيام الآحاد.
كانت المرة الأولى
التي يقوم فيها فريق سينمائي بالتصوير يوماً وراء يوم.. لا الكوبيين قاموا
بذلك ولا
حدث في نيكاراغوا على سبيل المثال.. أثناء قيامي بمونتاج الفيلم في كوبا،
دهش
الكوبيون لأنهم لم يقوموا بشيء مماثل أثناء ثورتهم، أنا فخور
بذلك، لكنني في وقتها
لم أكن أدرك أهمية ما أقوم به للمستقبل، لم أكن أعرف أنه سيحصل انقلاب،
ثورة أو حرب
أهلية... لكن وبمرور السنوات أدركت أنني حفظتُ في "قرص" ذاكرة شعب بأكمله".
أكثر ما يلفت الانتباه على الأقل في الجزأين
الأول والثاني القضية التالية: في تلك الأيام كان الصراع
محتدماً على المستوى
العالمي كما على مستوى تشيلي "الخاص" وفي مثل هذه الظروف يصعب الحفاظ على
مسافات
متساوية من الأطراف، وهو ربما أهم ما حققه الفيلم، والذي زاد هذه المفارقة
وهجاً،
تعرض فريق الفيلم للأذى، ومقتل المصور الأرجنتيني من قبل أفراد
من الجيش في
المحاولة الانقلابية الأولى 29 تموز 1973، وفوق ذلك عرضْ هذه اللقطة في
نهاية
الفيلم (الجزء الأول) المعنون بثورة البورجوازية.. ما خلفية بنية غوسمان
الفكرية؟
المختلفة عن عقلية تحزب يساريي الماضي؟ من أي الطبقات أتى؟ ما
الذي كان
يجري؟
"أنا من طبقة بورجوازية، الطبقة الوسطى، درست الفلسفة
والتاريخ.. فريق
العمل المؤلف من خمسة أشخاص كان من الاشتراكين متنوعي الانتماءات: مثلاً من
حزب "المير"
اليسار المتطرف، وآخرون شيوعيون... ومع أنني متفق مع اليسار بشكل عام، إلا
أنني لست مناضلاً. ومع أنني كنت مولعاً بإللندي والثورة، إلا أنني رفضت
الدخول في
حزب بأجندة محددة، كانت لدي شكوك. الكل كانوا متفقين، والمناخ
العام مع الثورة مع
وجود فروقات صغيرة، ولكن تلك الفروق لم تكن مهمة.. المهم هو المستقبل، نهضة
تشيلي،
وهكذا وجدت داخل فريق العمل فروقات صغيرة أيضاً ودارت نقاشات، وفي النتيجة
نجحت في
فرض رأيي ووجهة نظري أخيراً؛ وبالمناسبة كانت نصف الطبقة
المتوسطة من اليسار.. أمر
غريب.. لكن الأغرب، أن نصف الكنيسة كانت مع إللندي، وصادف وجود بابا تقدمي
في
الفاتيكان قام بثورة إصلاحية أثر تأثيراً كبيراً في الناس... جبهة متعددة
بشكل غريب
كانت تدعم إللندي! وهي حالة استثنائية في التاريخ"
إذاً وتبعاً لكل ذلك يبدو أن
لغوسمان رأي حاسم حول الموضوعية في الفيلم التسجيلي وهي قضية
تثير الكثير من الجدل؛
عند البعض الموضوعية تعني شبح طمس الرأي الشخصي وتقييد لحرية السينمائي،
وهو ما
وجدنا نتائجه في التجارب الأقل نضجاً. "إنها نقطة أساسية" يقول غوسمان "لقد
أخذت
موقفاً حيادياً، وفي المقابل أخذ علي الكثيرون من الأصدقاء الحياد كتهمة،
إن فيلمي
مع إللندي، ولكن ما الذي كان سيحصل لو أنني أخذت رأياً واحداً فقط، وماذا
حصل من
جهة أخرى عندما أعطيت الكلام لليمين... ليست المسألة أن تكون
موضوعياً أو ذاتياً،
بل هو مدى قربك من الحقيقة... الأفلام ذاتية دائماً"
هل انعدام الموضوعية بهذا
المعنى يقيد ويفقد الفيلم التسجيلي "الفنية" ويحد من أبعاده الجمالية ؟
"بل
أكثر من ذلك، هو في النتيجة تقييد وتحييد للسينما المناضلة، يجب أن نتجاوز
هذا
الأمر لنعمل فيلم يستمر عبر الزمن... لذلك ترى فيلماً يعيش أربع أو خمس
سنوات فقط..
ولذلك منع فيلمي في تشيلي.. بل منعت أفلامي جميعها هناك حتى
الآن".
غوسمان
إذاً لنعد ونبحث عن غوسمان في
كل ذلك الصخب متعدد الأوجه، ماذا بقي من المخرج، والكاميرا
ترصد كل شيء لتدع الناس
يقولون كل ما عندهم في ذروة توتر متشابك ومعقد، ابتداءً من القاعدة
وانتهاءً
بالقمة؟... ربما هي لقطة ساحرة في الجزء الثالث (قوة الشعب) لعامل يكاد
يطير راكضاً
وهو يجر عربة مترعة بالأغراض المتراكمة فوق بعضها يجلس فوقها
كلها رجل آخر اللقطة "البطيئة"
تطول
وتطول وكأنها بلا نهاية... ربما أكثر من ذلك: في الجزء/الفيلم
الأول؛ اللقطة الأكثر تأثيراً في الأجزاء الثلاثة... مقتل
المصور.. المأخوذ بما
يصوره.. الرصاصة الموجهة إليه هي مصوبة إلينا.. إنها اللقطة الأخيرة في
الفيلم...
ولكن كيف بدأه غوسمان؟ لقد قرر أن يبدأ فيلمه بلقطات قصف البرلمان،
نهاية الحكاية
التي بدأت بانتصار الإرادة الشعبية المناصرة لإللندي في الانتخابات
البرلمانية آذار 1973
، ونهاية "كل شيء" يبدو أنه بدأ من القمة، من الظاهر، والمعلن، القضاء على
اللندي مادياً، إذاً هذا التأطير، وتناظريته، المرآة، لا بد ربط بين ما جرى
في قمة
الهرم (اللندي وسلطته السياسية المنتخبة ديمقراطياً) بتعارضها مع قيادة
الجيش
"المنتصر" المدعوم من واشنطن وCIA
وبين ما جرى في الشارع في اللقطة الأخيرة،
والمعنى: إللندي يمثل الشارع. والطعنة موجهة إلى كليهما.. ما الدور الذي
لعبه
المونتاج؟ لا سيما وأن الأجزاء الثلاثة أخذت من مادة فيلمية أصلية (التي
هرّبت إلى
خارج تشيلي بعد الإنقلاب) لا تتجاوز مدتها 18 ساعة فقط؟ "إنه
احترام طبيعة المادة
الأصلية" يوضح غوسمان "انطلاقاً من هذا الأمر نستطيع القيام بأشياء كثيرة،
هكذا تم
العمل على المونتاج لسنوات طويلة من العام 1972 إلى العام 1979" ولكن
المصور؟!
لماذا بقي "يسجل" مصوباً الكاميرا نحو الجندي المصوب سلاحه إليه
مطلقاً النار مرة
تلو الأخرى... بينما الناس يهربون؟ "كل المصورين يشعرون أن الكاميرا حاجز
بينهم
وبين الحقيقة، المصور يرى كل شيء من خلال الكاميرا كالمتلصص، وكأنه في عالم
وما
يجري في عالم آخر، شعور خادع، وبكاميرا تلك الأيام كان يضع
سماعاتٍ على أذنيه
منشغلاً في نفس الوقت بضبط جهاز تسجيل الصوت المعلق عند خصره ومؤشراته،
كأنه رجل من
المريخ، يقوم بمعركة مع البوليس، ويسجل الصورة، ويعد الصوت... كان رفيقه
إلى جواره
يقول له: انتبه نحن مكشوفون، ويشدّه، لكنه مفصول عن العالم..
ولكن في المقابل، ربما
أدى كل ذلك إلى (وجسد) تماهٍ دمجَ المصور مع ما يجري، بأكثر مما حصل مع
الآخرين".
طوباوية من يتحدث عنها غوسمان؟
في الجزء الثاني "الانقلاب" عُرضتْ
لقطة طويلة لعامل يلقي خطاباً بشكل محموم في اجتماع للعمال،
يلوم فيه الرئيس إللندي
والحكومة لعدم السماح للعمال بالمواجهة، مشككاً بثقة القيادة بقدرة العمال
على
الحسم، تنتهي اللقطة بتصفيق محموم من قبل العمال الآخرين، مثلما ينتاب
الحضور في
صالة السينما رغبة في التصفيق أيضاً... يبدو أن هذا هو رأي
غوسمان الضمني، هل يلوم
القيادة على عدم التحرك وتسليح الشعب؟ هل يلوم تلك الطوباوية التي طالما
نعت بها
ذاك الحراك؟ "لا.. كنت ومازلت مع رأي إللندي" يفاجؤنا غوسمان مجدداً
"الثورات
طوباوية، إذا حللنا الثورة الكوبية مثلاً، كان هناك حفنة من الناجين من
مجموعة
أبحرت على قارب لأن جيش باتيستا قضى على الباقين، وبعد ثلاث
سنوات ربحوا المعركة..
كيف يمكن أن نتخيل ذلك!! هل من الممكن الجزم بانتصار ثورة أكتوبر في روسيا
بعد
الثورة1905 الأولى؟ إللندي فتح آفاقاً للحماس كبيرة جداً".
"في ذلك الوقت كنت
قريباً من العامل الذي يخطب في الاجتماع، وشعورنا أننا يجب أن
نحقق شيئاً، لكن
إللندي كان في وضع مغلق، ومحاطاً بمشاكل كثيرة جداً، ولو أمر –فرضاً-
بتدريبات
عسكرية في بعض المصانع أو الريف، فإن سلطات الجيش كانت ستتهم إللندي بتشكيل
جيش
موازٍ وفي اليوم التالي ستقوم بانقلاب.. ما الحل؟" واسترسل
غوسمان "...اللندي لم
يكن يريد الحرب الأهلية، كان يقول: هذا ليس طريقي. ناضل أربعين سنة وخاض
الانتخابات
ثلاث مرات في الخمسينات والستينات ليفوز في المرة الرابعة 1970، لكنه ليس
مسلحاً،
هذا لا يعني أنه لم يكن شجاعاً. هو رجل –بقياس طبيعي- عادي،
لكنه شامخ وشجاع وصاحب
قرار. حتى نهايته في القصر الرئاسي. فضل الصمود مع ثلاثين شخصاً، وعندما
عرف نهاية
مصيره، صرفهم جميعاً وانتحر بالرشاش كيلا يقدم نفسه هدية لبينوشيه..
الديكتاتور
الذي يدعي أنه حرر البلد.. آخر كلام لإللندي غير معقول، لا
يصدق، كالشعر، كان
محاصراً والخوذة على رأسه مع رشاش ويتكلم عبر الهاتف مودعاً الناس.. لم أرَ
مثل
ذلك، بطل تراجيدي، إنه كالإسكندر الكبير.. بل هوَ بطل من أي زاوية نظرت
إليه منها..
ليس له مثيل.. هل هو انتحر أم مات مناضلاً إنه تناقض يدعو إلى السخرية!
دفعناه إلى
الموت! ....."
الترجمة الفورية عن الفرنسية: د.منتجب صقر
ساعدت في الترجمة الآنسة
مايا المالكي
الجزيرة الوثائقية في
18/03/2010
"روح
السينما" .. وثائقي يجعل بغداد تبتسم
الوثائقية
خاص - بغداد
سيعرض الفيلم العراقي "روح السينما" للناقد
والباحث في السينما العراقية علي هاشم في مهرجان الفيلم الشرقي في العاصمة
السويسرية جينيف. ويتتبع الفيلم يوميات المصور السينمائي
العراقي الشهير مجيد حميد.
يتجول مجيد بكاميرته بين أسواق بغداد وشوارعها ويلتقط صورا لناسها
وحركة
شوارعها وفوضى المكان الذي يعكس الفوضى التي دخلت فيها عاصمة الرشيد منذ
الغزو
الأمريكي في 2003. ولكن عدسة مجيد حميد تلتقط أيضا بذور الحياة وبيارق
الأمل في
وجدان شعب يأبى السقوط.
عبق
بغداد..
يقيم الفيلم الوثائقي الذي ينتمي إلى نوع الدوكي
دراما علاقة وثيقة بين ماضي السينما العراقية وانتعاشتها وحاضر المجتمع
المأزوم حيث
السينما عليلة بهذا الحاضر. ومن خلال شخصية مجيد حميد الذي
يصور الحاضر تارة ويقلب
صفحات الماضي تارة أخرى مستخرجا صورا بديعة من ذاكرة صلبة وندية..
بين هذا وذاك
يصبح المصور جسرا ممكنا بين جيلين جيل مؤسس وجيل قدره أن يصلح ما فسد.
فيتقاسم كلا
الجيلين مجد التأسيس مرتين مرة بإعادة بناء المجتمع ومرة بإعادة تشغيل
السينما.
ولعل المتأمل في الحركة السينمائية العراقية اليوم يلاحظ هذا العزم لدى
الشباب
الجديد على تحدي مصاعب الحياة اليومية بحياة أخرى في السينما وتعويض صوت
الرصاص
بصوت الصورة.
وتستمر
الحياة في عين الفنان..
فيلم "روح السينما" رسالة من جيل إلى جيل
مفادها أن بغداد لا تموت وأن الصورة كفيلة بأن تبعث الحياة في الدمار
وحينها يبدأ
البناء. هكذا خاطب مجيد حميد جيل المخرجين العراقيين الجدد دون
أن يتكلم أو يصرخ ..
لقد صور ..
الجزيرة الوثائقية في
18/03/2010 |