فلم "عايشين"
الذي أخرجه نيكولا
فاديموف وهو من إنتاج قطري سويسري، كان من أهم الأفلام الوثائقية الحاضرة
في قسم
"فوروم" في الدورة الستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي التي انتهت
منذ فترة.
ويبدو أنه لقي نجاحا محترما فأقيم له عرض ثالث في قاعة بعيدة نسبيا عن مركز
المهرجان في قاعة كبيرة في القسم الشرقي للعاصمة الالمانية.
وكان من المفاجئ أن ترى
القاعة ملأى بالمشاهدين والأكثر مفاجأة أن ترى قسما كبيرا من هؤلاء
المشاهدين يبقى
بعد العرض لحضور نقاش مع مخرج العمل دام طويلا.
لابد بادىء ذي بدء أن نعطي كل ذي حق حقه، فلقد كان
للكثيرين احتراز على الفلم قبل مشاهدته. كانت الفكرة السائدة تقول الآتي:"
فلم آخر
عن غزة ومرة أخرى يكتب مخرج غير عربي صفحة من صفحات تاريخ هذه الأرض ومرة
أخرى
ستكون غزة وفلسطين محل متاجرة بآلام شعبها".
ذهبنا إذن إلى ما كان يعرف ببرلين
الشرقية وكنا نراقب امتلاء القاعة تدريجيا متفحصين أوجه
الواردين وأغلبهم من الشباب
وهو شيء لافت للنظر فكثير ما يعتقد أن الشباب الغربي لا يهتم بالقضايا
الإنسانية
متى تعلق الأمر بما يدور خارج أوروبا.
بدأ العرض وساد الفضاء صمت قدسي أمام صورة
بليغة الفصاحة. لا شيء من كل تلك المخاوف التي كانت تراود
الكثير منا والتي تبددت
بمرور زمن المشاهدة.
قدم الفلم رسميا على أنه تقريرعن الحالة الإنسانية في قطاع
غزة في شباط / فبراير 2009 ، شهر واحد فقط بعد انتهاء الهجوم العسكري
الإسرائيلي.
الدمار في كل مكان وغزة أصبحت مدينة أشباح. تتجول الكامرا بهدوء وسط
الأنقاض والحزن
واليأس، ودون تحليل أو تحريض أو تصريح بموقف. ولكن في هذاالحطام أشخاص
يرفضون
الاستسلام ويواصلون العيش حالمين بالبناء. وهنا موقع المقاربة
الطريفة للألم وسبر
أغواره.
صمود
خلف الخراب
الفيلم يوضح ما تعنيه رغبة إعادة بناء الحياة
اليومية في منطقة دمرت بالقصف وما يعنيه العبث في أن تعي بأن
البناء الذي يتم تحت
الحصار المستمر وتحت الضغوطات الخارجية والداخلية مصيره حتما دمار متجدد.
هنا يكمن
البعد التراجيدي للفلم بالمعنى الفلسفي للكلمة أي أن يصور الفناء كمصير
حتمي
للانسان الذي يعي كل الوعي أن مآله الموت وأن كل ما يبنيه
سيدمر. ومع ذلك يظل
كسيزيف يعاود التشييد من جديد متحديا غطرسة الاستعمار وظلم الحصار وجهل
الساسة وقمع
الحريات.
في هذا الجو العام يعمد الفلم الى أن ينقل
انطباعات متنوعة وأصوات مختلفة وصارخة ولكن بهدوء من غزة : أطفال فقدوا
أقاربهم
يتعلمون استعادةالأمل. شباب يرفظ تقييد الأيدي رغم كل العوائق
من تكبيل سياسي
وحرمان من المعرفة، مهرجون على الرغم من انفجارات الصواريخ المتواصلة
لايزالون
قادرون على جعل الأطفال يضحكون ، فريق الراب يكتب موسيقى ثائرة متمردة
وصارخة.
قد يتعرض الفلم أيضا الى أماكن مثل معابر
الحدود مع مصر، والحياة في المستشفى، ومركز الأمم المتحدة
لتوزيع الاغذية وأنفاق
المهربين ومخيمات اللاجئين... كل هذا مألوف. ولكن أن يصور المخرج الشاطئ
أين يغدو
بعض الناس لاهين مداعبين الأمواج فهذا غير مألوف في غزة التي كتب عليها أن
تكون
حزينة في أذهان الناطقين باسمها. رغم أن مشهد الشاطئ يعتبر غير
ذي بال في أنحاء
أخرى من العالم. ولكن في غزة, نحن أمام أشخاص كانوا محرومين من هذه الجولة
البحرية
البسيطة كل حياتهم قبل الانسحاب الاسرائيلي من القطاع. تأخذ الصور بعدا لا
يقاس
وتعجز الكلمة عن وصفه حتى لكأن مجرد المشي على الشاطيء ومداعبة
الماء يكتسي معنى
الصمود وينقل للمشاهد الشعور بالثورة ضد كل المظالم.
هدير
البحر .. أخيرا يسمع في غزة
ولعل عمق الفلم يكمن في قلة الكلام.
اختارالمخرج أن لا يرافق الصور بتعليق يفسرها أو يحصرها في معان مقولبة.
وهو خيار
زاد العمل عمقا وثراء. فلا يكفي أن تصف حقل زيتون قد اجتثت كل أشجاره من
قبل آلات
الدمار وأضحى كصحراء قاحلة .بل أن تريه وأن تصور الفلاح يعيد
غرس أغصان الزيتون وهو
يعلم أن الآلة ستعود يوما وتقتلع الأشجار من جديد هنا تكمن العبارة الصارخة
بكل
معاني الثورة لا ككلمة تسمع بل صورة تغوص في أعماق المتفرج وتتمكن من كل
ملكاته حتى
لكأنه يحس بالألم في كل عضو من جسمه.
الفلم مبني على فكرة بسيطة ولكنها بالغة
العمق ألا وهي أن الصورة قد تكون أفصح من آلاف الكلمات. وإلا
فما المعنى لحديقة
حوانات قد تحنطت حيواناتها لأنها ماتت بعد أن تآكلت في ما بينها لانعدام
الطعام.
أن ترى صور المستشفيات والمباني المحطمة وآثار القسف شيئ ولكن أن ترى
بأم عينيك أن ما هو عادي وبسيط في زمن السلم وفي مجتمعات هانئة كارتياد
حديقة
الحيوانات أوالتجوال على الشاطئ يبدو مستحيلا ولا يمكن حتى
تخيله. ففي حين تعمر
حدائق الحوانات الأوروبية بالأسماك الحية يعمد فريق من الأطفال الى اعادة
بناء هيكل
عظمي لحوت ألقى البحر بجثته على الشاطيء.
كائن
بحري على شواطئ غزة .. فحديقة الحيوان مقفرة
فقد تبدو الصورة للوهلة الأولى دون معنى وقد تكون
مجرد لهو لو أن ذلك حدث في شاطئ أوروبي ولكن أن تشاهد ذلك في غزة وبعد شهر
من الغزو
الذي تعرضت له المنطقة من قبل آلة أتت على الأخضر واليابس
وطالت حتى الحوت في الماء
لا تملك إلا أن تعطي للصورة معان وأبعادا لا توصف. وقد يدفعك انعدام الكلمة
الى
الصراخ في وجه القدر والظلم.
من هنا يبدو هذا الفلم تصحيحا للصورة المتناقلة من
قبل وسائل الاعلام العادية لا فقط من ناحية الخطاب بل أيضا من ناحية
الخيارات
الجمالية. ولعل هذا ما يجعل نيكولا فاديموف وريثا لتقليد
سينمائي بناه مخرجون تركوا
بصماتهم في تاريخ الفن السابع وتاريخ الفلم الوثائقي في تعاملهم مع
التراجيديا
الفلسطينية. فمن بين المخرجين غيرالعرب الذين اعتنوا بالتوثيق لآلام
الفلسطينيين
بتجرد نجد الايطالي بيار باواو بازوليني والهولندي يوهان فان
دير كوكن وحتى من
الاسرائيليين آيال سيفان. يبدو أن نيكولا فاديموف من طينة هؤلاء المخرجين
المؤمنين
بأن الفلم الوثائقي يمكن أن يكون مساحة نضال لا كخطاب مباشر بل كتسجييل
لصراع
الانسان ضد عبث الأقدار وجهل الحكام وغرق العالم في صراعات
تضرب بقيمة البشر عرض
الحائط.
الجزيرة الوثائقية في
17/03/2010 |