|
ليست فكرة «الحلم الأميركي» جديدة على السينما العربية، بل لعلها أُشبعت
تناولاً عبر العديد من الأفلام، طويلها وقصيرها، ومن شتى الجوانب، ما بين
الجد والهزل، وما بين الوصول إلى البر الأميركي، أو التهويم بعيداً عنه، لا
فرق في هذا بين كبار السينمائيين العرب، وشبابهم، والمبتدئين والهواة
منهم..
ننتبه، فلا ننسى المساهمة المبكرة للمخرج يوسف شاهين، وهو يطلّ على تجربته
الشخصية «إسكندرية ليه»، ويبقى مشهد تمثال الحرية المنخورة الأسنان،
وضحكتها الهازئة منه ومن أحلامه، ريثما يأتي داود السيد وخيري ليقدما أيضاً
رصداً لشخصيات تتقطع بهما السبل على طريق الحلم ذاته، في فيلمي «أرض
الأحلام»، و«أمريكا شيكا بيكا»، على التوالي، وإن كانت سيدة الفيلم الأول
تتأبّى على الذهاب التحاقاً بولدها هناك، وتفضل البقاء هنا، فإن شخصيات
الفيلم الثاني سيدفعون كل ما يملكون، فيهانون ويذلون ويضربون، ويموتون، على
الطريق إليها.
في قراءة الأمر، قلنا إنه منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، على الأقل، بدأ
الحلم الأميركي يراود العديدين من أبناء الفئات الوسطى في المجتمع المصري،
وربما المجتمع العربي كله. وقد تعزّز هذا الحلم في تلك الفترة التي شهدت
تصاعداً لعصر الانفتاح، الذي عزَّز روح الاستهلاك والأحلام الفردية
بالتدرُّج على السلم الطبقي، ومراكمة الثروة.. وكان من المنطقي للسينما
المصرية وهي ترصد ما يدور في أحشاء المجتمع، وتحولاته وتطوراته، أن تتناول
هذا الحلم، وسياقاته ومصائره التي يذهب إليها.
يصل «يحيى» بطل يوسف شاهين إلى الشواطئ الأميركية، ولا تغادر بطلة «أرض
الأحلام» لداود السيد، مصر، وينتهي المطاف بأبطال «أمريكا شيكا بيكا» في
منتصف الطريق، في رومانيا.. سيصل عادل إمام بطريقته الهازلة إليها في «هاللو
أمريكا»، ويخترق الأسوار العالية للإدارة ببلاهته، ويضيع أخرون، كما في «تايه
في أمريكا» للمخرج رافي جرجس!.. وبين هذه التفاصيل وتلك، ستكون النهاية
ذاتها، والمرارة ذاتها، والفجيعة المتنوعة الألوان. فالحلم الأميركي، كما
يبدو في كثير من هذه الأفلام العربية على الأقل (ناهيك عن الأفلام
الأميركية اللاتينية)، وهمٌ معلّق في الهواء، وعلينا أن نبحث عن أحلامنا في
مكانها الحقيقي، الذي قطعاً ليس هو أميركا!.. فأميركا، وحتى بعيداً عن
سياسة إدارتها: «تلاعبك ع الشناكل.. وتخلي عاليكا واطيكا»..
السينما الفلسطينية، من جهتها أيضاً، لم تتخلف عن تناول الحلم الأميركي،
بصور متعددة، كان قد بدأها المخرج إيزيدور مسلم في فيلميه «ليالي الغربة»
عام 1990، و«الجنة قبل موتي» عام 1997، وفيهما سنجد محاولات فلسطينيين في
بلاد الغربة البعيدة، هناك على البر الأميركي، منهم من ينجح، ومنهم من
يفشل.
وسيعود فيلم «القيادة في زيغزيغلاند» مع المخرجة بيكول فاليبيان، والممثل
بشار دعاس، عام 2006، لتناول الموضوع ذاته. هنا ثمة شاب يهوى التثميل ويبحث
عن مكان له، يغادر القدس إلى أميركا، حيث لا يعرضون عليه إلا أداء دور
الإرهابي. وإذ تواجهه متطلبات الحياة، يعمل سائق تاكسي أجرة، وفي النهاية
نراه يعود إلى القدس، في دحض لوهمه الذي اعتقده ذات وقت.
تثير فكرة «الحلم الأميركي»، موضوع التحقق الفردي، والبحث عن الخلاص، خاصة
في بلدان طاردة لأبنائها، قامعة لطموحاتهم، ضيقة على أحلامهم.. وفي كل حال
قد يكون التحقّق الفردي صحيحاً، ولكن في حالات فردية محدَّدة، ولأسباب
وظروف، وربما مصادفات ما.. ولكن ماذا لو عزَّزنا هذه النزعة، وهذا الحلم
والأمل عند المجموع؟.. وترى أية ثقافة تقدمها السينما حينذاك؟.. وأية قضية
تتبناها؟.. إنه السؤال المفتوح الذي ينبغي للسينما الإجابة عنه، أو التفكير
به على الأقل..
ستحاول المخرجة الفلسطينية شيرين دعيبس في فيلمها «أمريكا» 2007، تقديم
مساهمتها في هذا المجال، ولكن هذه المرة نراها تبرز بوضوح ممارسات الاحتلال
الإسرائيلي، باعتبارها عاملاً مؤثراً في تحويل البلاد/ فلسطين إلى بيئة
طاردة، تدفع بالفلسطينيين للتحويم في العالم، باحثين عن حياة جديدة، وفرصة
أفضل.. أو على الأقل التخلص الفردي عن وطأة الاحتلال.
في فيلم «أمريكا» نتابع حكاية سيدة فلسطينية (تؤديها ببراعة الممثلة نسرين
فاعور)، هي «منى»، ابنة مدينة بيت لحم، والموظفة في بنك، وتعيش مع ابنها
الفتي اليافع «فادي»، بعد أن تركها زوجها، وهي البدينة، للاقتران بفتاة
ناحلة، ممشوقة القوام.
بعد فصل تمهيدي يمنحنا قدراً من الإطلالة على حياة هذه السيدة، ومعاناتها
في البيت والعمل، وخوفها الشديد على وحيدها، خاصة بعد حادثة عابرة على أحد
الحواجز الإسرائيلية.. تقرر السفر إلى أمريكا، بحثاً عن أفق لحياة جديدة،
يشجعها على ذلك وجود أختها هناك.
كل شيء سيجري على عجل؛ التحضيرات والسفر والوصول إلى «أرض الأحلام».. وكل
شيء سرعان ما يبدأ بالتفاعل: فقدانها لمالها الذي وفرته وخبأته بطريقة
ساذجة، وإدراك ضرورة الانخراط في العمل، خاصة مع معرفتها بمعاناة زوج
شقيقتها «د. نبيل»، وانفضاض المرضى عن عيادته منذ أحداث الحادي عشر من
سبتمبر، الأمر الذي جعله ينوء تحت حمل أعباء الحياة الأميركية.
تفاصيل يومية كثيرة يتابعها الفيلم، من مغامرات السيدة «منى» في البحث عن
عمل، والاضطرار للعمل في مطعم، بدل البنك، وإخفاء الأمر عن الأسرة، إلى
مغامرات الفتى «فادي» في مدرسته، وتحرش الطلبة به، بل وضربه أيضاً..
والمرور على معاناة العرب في أميركا، ما بين الحادي عشر من سبتمبر، وحتى
لحظة الاجتياح الأميركي للعراق، واحتلاله، والعزم على إلقاء القبض على
صدام.
العرب، حتى لو كانوا مسيحيين، كما يقول الفيلم، لن يكونوا بمنجاة من الخطر
المحيق بهم، والتهديدات العنصرية التي تصلهم من أصوات مجهولة، قادرة على
دبّ الرعب في الأوصال، وتحويل الليالي إلى لحظات خوف وهلع، من هجوم
محتمل!..
«زوار هناك، أحسن من مساجين ببلدنا».. يقول فادي لأمه، وهو يحاول إقناعها..
وها نحن نراهم جميعاً يتحولون إلى مساجين خوفهم، حتى في البلاد البعيدة عن
حواجز الاحتلال، وجداره العازل، وجنده المدججين بالأسلحة، والأوامر المذلة.
«خليها تروح برّا، تشوف وجه ربّها».. تقول الوالدة العجوز، قبيل السفر..
وها هي منى ترى في بلاد «برّا» صنوفاً متعددة من الخطر المحدق بابنها، مرة
أخرى، وتشهد ممارسات الاذلال والعنصرية، التي تصل بها إلى درجة الاطاحة بها
على البلاط الصلد لأرضية المطعم الزلق.. الاطاحة التي ستفضح أسرارها التي
حاولت مواراتها عن أفراد أسرتها الجديدة؛ الأخت وزوجها وبناتها الثلاث..
«ما أحلى ريحة البلاد»؟.. تقول شقيقتها «راغدة»، هي التي لن تتوانى عن
البوح في لحظة صفاء عن «المرض بالوطن»، والشوق إليه.. هذا الإحساس الذي لا
يموت.. تحكي لها عن الشجرة التي تُقتلع من جذورها، وتزرع في مكان آخر.. هذا
الإحساس الذي لم تقتله خمس عشرة سنة من الاقامة في أميركا..
و«منى» ستتعرف إلى الأستاذ «نوفونسكي».. اليهودي البولوني، الذي فرّ والده
إبان الحرب العالمية الثانية، في استعادة ذات دلالة، سواء للمحرقة، أو
لصورة اليهودي الطيب، خاصة وأن هذا الأستاذ سيبدو لطيفاً، يعرض عليها
المساعدة.. وسيكون أسرع لمعرفة طبيعة عملها؛ في مطعم وليس في بنك، كما
يعتقد أهلها جميعهم. ونتساءل ببراءة عن أهمية هذا التفصيل، وماذا لو كان
صينياً أو يابانياً أو أفريقياً.. بل ماذا لو كان قادماً من أصل هندي
أحمر؟.. لماذا يهودي، من نسل الناجين من المحرقة، تحديداً؟.. ما الضرورة
الدرامية لذلك؟..
على كل حال، هو يعتقد أنها مسلمة، لأنها عربية، ولكنها تخبره بأنها مسيحية،
مرددة عبارة: «أقلية هنا.. أقلية هناك».. والحوارات بينهما تتدفق، دون أي
حواجز نفسية، وتتدرج حتى الوصول إلى حافة الصداقة، ومشاركة الأسرة في
احتفالها الأخير، على أنغام مرسيل خليفة!
قبل ذلك، وما بين «منى»، وابنها «فادي»، تتبدل المواقع، فقد بات هو يرغب
بالعودة، بعد أن تعرض للضرب من فتيان أميركيين.. بينما هي تريد البقاء
معلنة: «إحنا إلنا الحق نكون هون».. وصوت الوالدة يأتيها من البعيد، ليقول
لها إنها لاتحب أميركا، ولا سياسة أميركا.. وتوصيها: «إذا شفتي الرئيس،
قولي له يحلّ عنا.. خلينا نعيش»..
«خلينا نعيش».. نداء يذهب، يتردد صدى، في هذا الفيلم الذي حقنته المخرجة
بمقتطفات من أغنيات وقطع الموسيقى، من فيروز إلى مرسيل خليفة، وما بينها من
استعادات لزمن النغم العربي، تزخرف من خلالها المشهدية البصرية للفيلم،
وتعزز الحالة النفسية للشخصيات، وهي تخوض تجاربها الفردية، باحثة عن
خلاصها.
في فيلم «أمريكا»، تطارد المخرجة وكاتبة السيناريو، شيرين دعيبس، الحكاية.
تقتفي أثرها. تمرّ على العديد مما كان ينبغي التوقف أمامه، والغوص فيه؛
فهمه وتحليله.. أو تقديم مستوى آخر من تناوله..
لم تشأ المخرجة الادّعاء بأنها تريد تقديم مطالعة، أو محاكمة لشخصياتها،
وخياراتهم، ومصائرهم.. إنها تتعامل مع الوقائع باعتبارهاً واقعاً.. واقع
الاحتلال، واقع الأقلية هنا وهناك، واقع الخلاص الفردي، واقع أميركا، واقع
العرب فيها.. هذا الواقع الذي يبقى كما لو أنه إطار خارجي، لا ينفذ إلى عمق
الشخصيات، ولا يغير من مساراتها، وهي ممعنة فيه، ذاهبة إلى آخر مدياته..
فيلم «أمريكا»، وهو أحد نتاجات ملتقى دبي السينمائي، ينتمي إلى تلك السينما
التي تتغذَّى من الحلم الأميركي، الذي سيبقى يراود الكثيرين، طالما أن هناك
بلاد طاردة لأبنائها، وطالما أن هناك من لا يستطيع تحقيق أحلامه في وطنه،
فينشدها وراء البحار.. بل في أميركا تحديداً.. ولكنها أيضاً السينما التي
ترصد هذا الوهم، دون أن تفكّر في تفكيكه.
المستقبل اللبنانية في
07/03/2010
«داخل
الحلقة»
للبريطاني أرماندو إيانوتشي
الكاميرا بتوتر
وسرعة سياسيين
نديم جرجورة
فيلم سياسي. مرآة صادمة
لواقع العمل السياسي في الكواليس الرسمية. سرد يوميات صنع القرارات
المصيرية في
الدول المتحكّمة بشؤون الدنيا وشجونها. تصوير حادّ ونقدي
للتفاصيل المصنوعة في
الغرف المغلقة داخل أروقة الإدارات الدولية. هذا كلّه موجودٌ. وغيره موجود
أيضاً،
بكثافة. لكن العنوان العام واحدٌ: تعرية السياسة وآليات عملها في الدول
الكبرى. بل
أكثر: التوغّل في تلك الكواليس المضمرة، بتصوير مُتعِب، وحركة كاميرا لا
تهدأ.
تشريح البنى الأساسية العاملة على رسم الخطوط العريضة والتفاصيل الجانبية
في
السياسات الدولية، رافقه توليف حاد أضاف الى الجماليتين الفنية والدرامية
إحساساً
بالتوتر الكامن، أصلاً، في فضاءات الغرف نفسها، كما في نفوس
العاملين فيها.
تبدو حكاية الفيلم البريطاني «داخل الحلقة» لأرماندو إيانوتشي (صالة سينما
«متروبوليس/
أمبير صوفيل» في الأشرفية) بسيطة وعادية: مجموعة من الموظّفين الرسميين
الكبار في الإدارتين البريطانية والأميركية، أبرز أعضائها البريطاني مالكوم
تاكر
(بيتر
كابالدي) والأميركي لينتون بارويك (ديفيد راش)، تعمل على التحضير «السرّي»
لغزو عسكري على منطقة الشرق الأوسط. وزير
بريطاني يُدعى سيمون فوستر (توم هولاّندر)
أخطأ في القول، في حوار إعلامي، إن هناك حرباً «غير مرئية» يُعدّ لها
حالياً. تصريح «عفوي» (خطأ غير مقصود، أم زلّة لسان
مطلوبة؟) أفضى إلى سلسلة أحداث متتالية، مليئة
بالعنف الكلامي والضغط النفسي والتوتر السياسي. مليئة، أيضاً،
بالتلاعب والمواجهات،
وبالتفريط بأناس من أجل المصلحة العليا للدولة. مليئة بالنزاعات الداخلية،
والصدامات المؤدّية إلى كَمّ هائل من الأكاذيب والشتائم والإفرازات اللفظية
القميئة، بالإضافة إلى تعليقات ساخرة، بل موغلة في سخريتها.
الجنرال الأميركي ميلر
(جيمس
غوندولفيني) أحد هؤلاء الكبار. أداؤه شخصية عسكريّ لم يُحارب منذ خمسة عشر
عاماً، مهمّ ومدعاة للسخرية في آن واحد. بدا شبيهاً بجنرالات العالم
الثالث،
الحاكمين بلدانهم بقبضات من حديد ودم.
مسلسل
مأخوذ من مسلسل تلفزيوني
بريطاني حديث الإنتاج بعنوان «اللاعب الغليظ» (ترجمة غير حرفية للعنوان
الأصلي
The Thick Of It)، المعروض على شاشات «بي. بي. سي.» منذ
العام 2005؛ نقل «داخل الحلقة»
أجواء العمل في «10 داونينغ ستريت» (مقرّ رئاسة الوزارة البريطانية) إلى
آفاق أوسع،
لربط الأحداث السينمائية باللحظة المعيشة حالياً. كأن الصورة الملتقطة
للشاشة
الكبيرة، بتوترها وسرعة ملاحقتها التطوّرات الحاصلة آنياً،
انعكاس طبيعي للتوتر
الحاصل في المناخ السياسي الدولي، جرّاء تنامي الأحداث العامة منذ مطلع
القرن
الواحد والعشرين على الأقلّ. ضخّ كَمّ هائل من المعلومات، والسرعة الغريبة
في
التلفّظ بالحوارات، والتوليف الناجح الذي أنجزه الثنائي آنت
بويز وبيلي سندون،
والأداء الجميل والمؤثّر للغالبية الساحقة من الممثلين، التقت كلّها في
المسافة
المطلوبة لإثارة الحماسة والحثّ على مطاردة الشخصيات وأفعالها، وعلى ملاحقة
السياق
العام للأحداث ومنعرجاتها ومتاهاتها.
منذ اللحظات الأولى، يظهر مالكوم تاكر
بشخصيته الفظّة، وحدّته في التعامل مع موظّفيه. استياؤه من سيمون فوستر
كبير. عند
هذه النقطة، تنفجر الأمور كلّها. لقاءات بين الطرفين البريطاني والأميركي
للبحث في
مسائل متعلّقة بهذا التصريح الإعلامي العابر. نزاعات و«شدّ حبال». مواجهات
لا ترحم.
لعبة الكواليس خطرة. لا مكان للصداقة. لا
وجود لاتفاقات دائمة. العداوة كالصداقة،
موقّتة. المصالح الخاصّة بالدولتين الكبريين أهمّ من الأشخاص.
التصوير رائع.
الألوان المستخدمة أحياناً. الإضاءة. حركة الكاميرا. أمور مشغولة بحرفية
لافتة
للانتباه، تتلاءم والنصّ الانتقادي الفجّ. عالم السياسة مكشوفٌ
هنا أمام مشاهدين
مهتمّين بهذا النمط من العمل السينمائي. الفيلم سجالي. مفتوح هو على نقاش
يطال
آليات الاشتغال في الكواليس الأخطر.
السفير اللبنانية في
07/03/2010 |
