لم يكن يدور في ذهن المؤلف الأمريكي الشهير هوارد فاست عندما كتب قصته
عن سبارتاكوس قائد أول ثورة قام بها العبيد ضد حكامهم ومستعبديهم،
ودفع حياته ثمناً لهذه الثورة التي بقيت حتي اليوم تحمل اسمه كأول بطل حقيقي نادي
بتحرر الإنسان والدفاع عن كرامته وعن الثورة علي أن يحكم إنسان إنساناً
آخر مهما كانت الدوافع والأسباب.
وسرعان ما تلقي المخرج السينمائي الكبير ستانلي كوبريك هذه الرسالة
الإنسانية التي أطلقها الكاتب اليساري الأمريكي ليصنع منها فيلماً
ملحمياً مدهشاً ضم كبار الممثلين والنجوم آنذاك من لورنس أوليفيه إلي توني
كورتيس وشارل لوتون وجون جيلجود وسواهم من العمالقة.
ولحقت الباليه بتعبيراتها الجسدية وبالإمكانيات الراقصة المبهرة التي
يمكن أن يوفرها هذا الموضوع..
مشاهد المعارك بين الرومان والعبيد..
نشهد الحب بين سبارتاكوس وحبيبته مشاهد الثورة والانتقام من خلال رقصات
مدهشة يمكن أن تفتح باب الخيال واسعاً
أمام مصمم الرقصات وأمام الموسيقي الذي سيكتب
موسيقي هذه الملحمة.
وهكذا كان مسرح البولشوي أول من قدم هذه الباليه التي كتب موسيقاها
خصيصاً الموسيقار الكبير ارام فاشادوريان..
وتلتقط فرق الباليه العالمية الأخري هذه الفرصة لتقدم قصة سبارتاكوس من
وجهة نظر مختلفة... تعتمد أساساً علي المهارات الجسدية الهائلة المطلوبة
لمثل هذا الموضوع والقدرة علي خلق تكوينات جماعية مبهرة لتجسيد مشاهد
المعارك والثورة وديكورات مدهشة لتصور الجو الروماني الباذخ الذي تدور فيه
الأحداث.
وهكذا جاء الدور أخيراً
إلي فرقة الباليه المصرية التابعة للأوبرا بإدارة د.
عبدالمنعم كامل لتقدم هذا العرض الكبير..
بعد أن توفر لها طاقم رائع من الراقصين والراقصات القادرين علي تجسيد أحداث
وشخصيات هذه الملحمة التي تصور صراع الإنسان في سبيل استرداد كرامته
وانسانيته ولنقلها منذ البداية..
وقبل أن نخوض في التفاصيل فإن دار الأوبرا قد قدمت لنا من خلال (سبارتاكوس)
عرض فوق العادة..
بل انني ودون أدني مبالغة أستطيع أن أقول إنه تفوق بكثير علي عرض
(سبارتاكوس) الذي قدمته إحدي الفرق الروسية الكبري علي مسارحنا العام
الماضي.
منذ رفع الستار..
نحن أمام ستارة مدهشة رسمها محمود حجاج
تعطي من خلال نظرة واحدة الانطباع الرئيسي الذي يهدف إليه العرض،
وتنفرج الستارة عن ديكور فخم لساحة رومانية مزينة بالتماثيل العملاقة حيث
يستعرض القائد الروماني كراسيوس جنوده وقد امتلأ بالعزة والفخر والكبرياء
المغلفة بالغرور، ويلعب الدور الراقص الطاقشندي (زوراب ميكلادزي)
في أداء أقل ما يمكن أن أقول عنه إنه أداء معجز..
خفة في الحركة وليونة خارقة
في الأعضاء، وقدرة مذهلة علي الطيران..
وإحساس تمثيلي بالدور يجعلنا نحس أنه ممثل كبير قدر ما هو راقص
متميز.
وتتوالي الأحداث..
انتظارالرومان،
وموكب الأسري الذي يضم سبارتاكوس وحبيبته الجميلة (فريجيا)
ويتسلي القائد القاسي برؤية الأسري الأقوياء الأجسام- ومن بينهم طبعاً سبارتاكوس-
يتصارعون وقد وضعت علي وجوههم الأقنعة..
وعندما يرفع سبارتاكوس قناعه بعد انتهاء المعركة..
يجد أنه قد قاتل وجرح أصدقاء عمره ورفاقه في السلاح وفي العبودية.
وينتهي الفصل الأول بتجمع الأسري العبيد..
وإحساسهم بالقهر، وبدء ظهور بذور التمرد في أعماقهم وإحساسهم بماف يهم إلي زعيم يقودهم..
وأن هذا الزعيم لن يكون سوي سبارتاكوس.
تشكيلات بديعة..
وإضاءة واعية، وأجساد رشيقة مرنة تؤكد أن فرقة الباليه المصرية قد أصبحت تمتلك
جهازاً راقصاً
يحق لها أن تفخر به وأن تنافس به أكبر فرق العالم
شهرة.
ويفتتح الفصل الثاني-
وهو أهم فصول الباليه وأكثرها شعبية
وجمالاً-
عن ستارة مسرحية ثانية تمثل أسداً
غاضباً.. ترتفع به بعد ذلك لترينا ديكوراً
يقطع الأنفاس لقاعة كبري في قصر كراسيوس..
حيث يعيش هذا القائد مع الجواري والراقصات، وقد بلغ
به الثمل والسُكر مبلغاً كبيراً..
ويشهد هازئاً
ساخراً صراع عبدين عملاقين وضعت علي أعينهم كمامات سوداء يتقاتلون حتي
الموت.. بينما يرقص هو رقصة ثلاثية مع اثنين من الغانيات في تشكيل بديع
وشديد الابتكار.. ومرة أخري يتألق زوراب ميكلادزي ممثلاً بحيوية خارقة وأداء تمثيلي حقيقي يجمع بين الرقص
والانفعال الدرامي خالقاً جواً
خارقاً من العبث الأسود المختلط بسادية جنسية عرف الراقص الماهر كيف يعبر
عنها بعفوية مدهشة.. قبل أن يصل إلي مشهد محاولة اغتصاب فريجيا بينما يهم
قواده باغتصاب باقي الأميرات، وهنا تبلغ (اولجاديردا) القمة في رقصها وفي
ليونتها وفي تعبيرها..
وكأنها ريشة طائر أو جناح فراشة،
وتأتي الحركة الثانية بين سبارتاكوس الذي يحاول إنقاذ حبيبته من القائد
الذي أعمي الكبرياء والانتصار والزهو الفارغ عيناه،
فأصبح آلة بشرية للقتل والوحشية..
لا يقف في وجهه حائل،
وينتهي الفصل بدويتو العشق الشهير عن سبارتاكوس وفريجيا علي أنغام سماوية
ربما كانت من أجمل ما لحن الموسيقي الكبير خاشادوريان، ومن خلال تصميم راقص
»معجز« صنعه (فالنتين ايليزاريف)
فتفوق علي نفسه وعلي فريق الباليه الروسي الذي كان يقوده.
في هذا الدويتو الذي يقطر عشقاً
وصبابة وحناناً وألماً
وشجناً..
تفوق الراقصان وبدا هاني حسن الذي يلعب دور سبارتاكوس وكأنه آلة من الأولمب
بجسده القوي ووجهه الذي يقطر حزناً وكبرياء، وحركاته الملكية،
وقفزاته التي تشبه قفزات النسور،
وأدائه الداخلي الذي لا يقل قوة عن قوة رقصه
وإجادته..
وأني لأعجب حقاً
كيف لا تحاول السينما المصرية وهي التي تبحث بكل قوتها عن الوجوه الجديد أن
تجتذب هذا النجم الراقص الكبير إلي الشاشة كما اجتذب من قبله يوسف شاهين
الراقص الأول في الفرقة أحمد يحيي ومنحه البطولة المطلقة لأحد أفلامه..
كيف تهدر سينمانا فرصة استغلال هذه الموهبة
الفذة وهذا الحضور المسيطر،
وهذا الوجه الجذاب المعبر وكل هذه الرشاقة والليونة..
وتلجأ إلي وجوه جديدة لا تملك رقماً
واحداً من موهبة هاني، ويكفي أن أدلل علي كلامي بسولو
(التأمل) الذي يؤديه هاني بمفرده ويعبر فيه عن مختلف عواطفه بعفوية وقدرة
تمثيلية متمكنة.
في دويتو العشق هذا..
تصل الباليه إلي أقصي درجات تعبيرها عن
العشق والهوي..
عن الألم والشجن..
عن البهجة واللقاء.. عن الإحساس بقوة القدر والرغبة الهائلة بالتمرد علي
هذا القدر. كل هذا عرف الراقصان كيف يعبران عنه بسهولة وتدفق وإيقاع سحري
خلاب.. يترك أثراً في الذاكرة لا أظن أنه من السهل نسيانه..نأتي إلي الفصل الثالث الذي يصور ثورة
العبيد..
وكيف تم القضاء عليها بقسوة ووحشية من قبل جنود كراسيوس..
مشاهد معارك عرف المصمم كيف يهندسها ببراعة مستغلاً
كل طاقات الجسد البشري خاصة حركات الذراع لدي الفتيات التي وصلت إلي درجة
تشبه خفقات جناح اليمام الأبيض.. تتحرك.. وتنثني وترتفع وفق موسيقي داخلية
تحرك الجسد كله.. متوازنة علي موسيقي خاشادوريان التي تملأ خشبة المسرح،
بحيث يبدو وكأن راقصونا يرقصون علي لحنين معاً
لحن الداخل ولحن من الخارج.
ويعود كراسيسو (زوراب)
بكل عنفوانه وفتوته، ليقود المعركة النهائية ضد سبارتاكوس،
بعد أن نجح في قتل جميع مريديه وأتباعه، بما في ذلك العبيد الذين استسلموا له أخضعهم هم
أيضاً للإبادة قبل أن يفتك جنوده العشرون بسبارتاكوس وحيداً في مشهد خرافي
لعبت في الإضاءة دوراً فعالاً.
ويسقط جسد سبارتاكوس أرضاً،
ويمر طيف فريجيا محلقاً بين الجثث ساقطاً فوق الجسد الميت كأنه يحاول بعثه للحياة،
ويخيم ظلام الموت علي أطباق العرائس والحور البيض الذين يتراقصون كالفراشات
المحترقة حول الأجساد الممددة علي الأرض..ولكن الباليه لا تنتهي بهذا المشهد
المأساوي الذي يقضي علي الأمل في القلوب،
لأن الستارة ما كادت تسدل حتي ترتفع مرة أخري، لنري سبارتاكوس وقد نهض من جديد..
ليقف أمام الجميع وفي صدر المسرح رمزاً حياً
لحرية لا تموت ولانتفاضة لم تحقق غرضها تجاه القوة الغاشمة التي هزتها،
ولكنها كانت درساً وأمثولة لعشرات من الانتفاضات بعدها..
تقدم بها كل الشعوب المغلوبة علي أمرها ضد الطغيان والديكتاتورية والتعسف
والظلم..
انتفاضة لابد لها أن تنتظر آخر الأمر،
رغم الضحايا الذين يتساقطون والدم الذي يسيل، والجثث التي تتراكم،
والدمار الذي يخيم علي كل شيء.
سبارتاكوس..
كما تقدمها فرقة الباليه المصرية التابعة
للأوبرا..
درس في السياسة وفي الفن وفي الأداء..
يثبت قدرة الفن علي مواكبة الأحداث، وعلي أن التاريخ يمكن أن يصبح مادة مرنة بين
أصابعنا..
نقول من خلاله ما نريد أن نقول لأجيال تريد أن تسمع وأن تري.
المتعة التي يقدمها هذا الباليه سواء فكرياً
أو بصرياً متعة لا تعادلها متعة أخري..
إنها متعة الفن الحقيقي الذي علينا أن ننهل منه
جميعاً دون أن نرتوي.
عمل يعيد الاعتبار لفنانينا الكبار ولقدرتنا علي التفوق..
ولإصرارنا علي تقديم فن نزهو به أمام العالم كله..
مادام لدينا فنانين مصريين من أمثال هاني حسن، وفنانين ضيوف من أمثال زوراب ميكلادزي،
وأولجا ديردا.. قادرين علي أن يرفعونا معهم إلي آفاق طالما حلمنا بالوصول
إليها.. وهانحن نراها أمامنا..
باقة من زهور الزنبق البيضاء تتحرك أمامنا وتملأ أجواءنا عطراً وموهبة وجمالاً.
لقد شعرت بعد رؤيتي لما فعلته فرقتنا الراقصة في باليه سبارتاكوس..
وهذا التفوق المذهل الذي وصلت إليه وحققته..
أن المستحيل أصبح ممكناً،
وأن أصابعنا يمكن لها حقاً..
أن تلمس السحاب.
أخبار النجوم المصرية في
25/02/2010 |