قوة هذا الفيلم في أنه يعبر عن أفكار عميقة من خلال حكاية شديدة
البساطة وشخصيات رسمت معالمها ببراعة،
ربما لا يكون من الأفلام الضخمة إنتاجية
مثل آفاتار، وربما يغلب عليه الحوار، وقد يكون في حاجة أكبر للخيال وللابتكار،
ولكنه بالتأكيد فيلم مختلف عن الأفلام الأمريكية التقليدية،
وهناك اجتهاد حقيقي
في عناصر كثيرة مما سمح له أن يرشح لست جوائز أوسكار، و6 جوائز جولدن جلوب
فاز
منها بجائزة أفضل سيناريو، ورشح أيضاً لست جوائز بافتا،
وكلها مؤشرات علي أنه
فيلم مختلف رغم مظهره البسيط.
الكلام عن فيلم
UP IN The AIR
لمخرجه جيسون ويتمان والترجمة الحرفية هي عالياً
في الهواء
وهي الأقرب
لمعني الفيلم والأكثر تعبيراً عن حياة بطله الذي يطوف أمريكا بالطائرة بحكم
العمل، وفي المعني الأعمق فإنه ينظر إلي العالم وإلي
البشر من مسافة بعيدة جداً
مما يجعله وحيداً ومعزولاً، أما الترجمة
التجارية للفيلم عند عرضه في
الصالات المصرية فهي ذهب مع الهواء
التي تبدو استيحاء من الاسم المعروف لفيلم
شهير ذهب مع الريح في الحالتين ما يعنينا هو مضمون الفيلم الذي يطرح عدة
تساؤلات
مثل:
هل البشر مهن ووظائف أم أنهم حياة ومشاعر
وأحاسيس؟ هل يمكن أن تكون مشغولا
بالعمل طوال الوقت ولكنك تعيش حياة فارغة وخاوية؟
هل يمكن أن تكتشف أنك
أخطأت الطريق بعد عمر طويل وبعد أن احترفت لسنوات مهنة إسداء النصائح
للآخرين،
جمال الفيلم في أنه لا يطرح ذلك بشكل مباشر فج، ولكن معناه يتسلل إليك من خلال
تقديم شخصيات حية وعادية تماماً، ورغم أن تلك النماذج بها معالم
تراجيدية واضحة
إلا أن السيناريو الذي كتبه المخرج جيسون ويتمان
مع شيلدون تيرنر عن رواية
كتبها والتر كيرن وجد من المواقف ما يطلق بعض الابتسامات بسبب التناقض في
حياة
شخصياته، الشخصية المحورية التي تقدم نفسها منذ البداية
مشغولة بعملها الغريب
ولكن حياتها خاوية تماماً، ويزيد المأساة والمفارقة أنه لن يدرك ذلك إلا في مشاهد
النهاية، اسمه ريان بينجام (جورج كلوني)
ووظيفته شديدة الغرابة،
أنه الشخص
المكلف بابلاغ عشرات الموظفين بفصلهم
من العمل بسبب الأزمة
الاقتصادية التي
عانت منها الشركات الأمريكية، وهو لا يكتفي بابلاغ الخبر للشخص المفصول ولكنه
يحاول أن يخفف عنه،
وأن يقنعه ببدء حياة جديدة بعد فصله،
يقول لزميلته ضمن
الأحداث:
نحن نلقي الناس في البحر ونجعلهم يسبحون!
يمكنك أيضاً أن تعتبره
خبيراً في خلق الحوافز لدي الموظفين، أو متخصصاً
في التنمية البشرية ولذلك
سنجده يلقي محاضرات ونصائح محورها أن عليك أن تفرغ
حقيقة حياتك من كل المسئوليات
والعلاقات والهموم، وأن تؤمن بأن الحياة هي الحركة،
وهو يترجم ذلك في حياته
لدرجة أنه ينتقل طوال الوقت بالطائرة من مدينة أمريكية لأخري لابلاغ
الموظفين
بقرارات الفصل، كما أنه بلا علاقة عاطفية مستقرة،
ويرفض فكرة الزواج،
باختصار
نحن أمام شخص غير منتم إلا لنفسه، حياته وسط السحاب حيث يشاهد الناس من أعلي،
ليست لديه أهداف كبيرة سوي أن يكمل الأميال التي قطعها
بالطائرة لتصل إلي
10
ملايين ميل في رقم قياسي يجعله السابع بين البشر علي الكرة الأرضية. ليس
لديه
الوقت لكي يتأمل التناقض الذي وضعه فيه عمله:
هو مشغول طوال الوقت بمنع الآخرين
أن يكونوا مشغولين بعد فصلهم من العمل،
هو أيضاً
يقدم نصائح في المحاضرات ومع
المفصولين بوسائل الإدارة والاستفادة من الحياة في
حين تبدو حياته نفسها خاوية
وفقيرة ومختزلة في تلك البطاقات التي تتيح له الإقامة في أفخم الفنادق،
والحجز في
أعلي الفئات داخل الطائرات، وهناك تناقض آخر لم يفطن إليه هو أنه رغم التقائه
بحكم العمل والسفر بالمئات إلا أنه وحيد ومنعزل، بل إن علاقته بأختيه
كارا
وجولي - التي تستعد للزواج -
شديدة السطحية.
الحياة الفارغة
ليست فقط من نصيب بينجام، ولكنها أيضا
- في تنويعة أخري-
تحاصر البطلتين
أليكس (فيراميجا)، وناتالي (آنا كيندريك)، الأولي في العقد الثالث من
عمرها، تلتقي بـبينجام
صدفة في أحد الفنادق، وتبدو كما لو كانت قد وجدت فيه
فرحته لخوض مغامرة مختلفة، تحدثه بكلمات مكشوفة عن حياتها الجنسية،
في البداية
يراها امرأة علي طريق طويل من السفر المتواصل، ولكنه يحبها ويهتم بها ويطلب أن
تصحبه لحفل زواج اخته جولي، وعندما يقرر أنه لا يستطيع الاستغناء عنها،
يكتشف أنها سيدة متزوجة ولديها أطفال أرادت فقط الهروب من حياتها الفارغة
بمغامرة
عاطفية سريعة، وعند المواجهة لا تتردد في أن تصفه بأنه مجرد جملة اعتراضية
في
حياتها.
أما
ناتالي
فهي شابة في العقد الثاني من عمرها تبدو لأول وهلة
امرأة عملية لا يعنيها فقط سوي كسب إعجاب مديريها في العمل، ولذلك تقترح
فصل
الموظفين من خلال الفيديو كونفرانس
وليس من خلال اللقاء المباشر كما يفعل
بينجام، ثم يقرر المدير أن يقوم بينجام
باصطحبها معه في جولة لفصل الموظفين
حتي تتعلم وتستفيد من خبرته،
وخلال ذلك نكتشف وجها عاطفيا محبوباً، لقد اختارت
وظيفة ابلاغ الموظفين بفصلهم لأنها ستجعله في نفس المدينة
التي يعيش فيها الشاب
الذي احبته، وعندما يتخلي عنها تبكي مثل الطفلة، وتدريجيا ينتصر داخلها جانب
المشاعر والاحساسيس فتترك عملها بعد أن صدمتها ردود أفعال
المفصولين ومنهم سيدة
قامت بالانتحار من أقرب جسر!.
بينجام
سيكتشف متأخرا جدا كم كانت
حياته فارغة مع أنها مشغولة،
سيتغير تحت تأثير علاقته بـأليكس
وزميلته
ناتالي
وبحضوره مناسبة زواج أخته الصغري، ولكنه تغيير بعد فوات الآوان،
أليكس واجهته
بحياتها الحقيقية، وناتالي تركته إلي وظيفة أخري، ورغم تحقيقه العشرة ملايين
ميل إلا أنه لم يعد سعيدا بعد أن اكتشف وحدته وخواء حياته،
أما عقابه الأكثر قسوة
فهو أن يستمر في رحلاته الجوية يبلغ المزيد من الموظفين بقرارات الفصل،
بالأمس
كان الأمر مجرد وظيفة، أما الآن فهو عقاب بعد أن أدرك أن البشر ليسوا مهنا
وأرقاماً ووظائف ولكنهم مشاعر وأحاسيس،
وبعد أن اكتشف أن التعامل مع الحياة
والمحيطين به كحقبة خاوية هو أمر صعب ومستحيل.
نجح السيناريو في
تقديم هذا المزيج بين الجدية والسخرية، بين لقطات المفصولين المتتالية وردود
أفعالهم وصدمتهم، وبين ذلك القناع الذي يرتديه
بينجام
وزميلته وتكرارهم لنفس
العبارات بطريقة آلية مضحكة، هناك مشاهد بأكملها تثير الابتسامات مثل محاولة
بينجام
اقناع عريس اخته باتمام الزفاف مع أن
بينجام
نفسه ضد الزواج،
ومثل
مشهد انهيار ناتالي المفاجئ وبكائها بعد هجر صديقها السريع، الحقيقة أن الفيلم
وإن كان متعاطفا مع الذين يفقدون وظائفهم،
إلا أنه لا يربط الحياة الخاوية بالعمل
وإنما يربط بافتقاد الاحساس بالآخر وباصطناع حياة مزيفة مثل تلك الصور
المفبركة
التي كان يلتقطها بينجام لنموذج يمثل اخته وعريسها أمام معالم سياحية
مختلفة.
الفراغ
هنا عاطفي وليس ماديا ولذلك سيظهر بعض المفصولين
وهم يتحدثون عن أنهم فقدوا عملهم ولكنهم لم يفقدوا أبناءهم أو حياتهم
العائلية
الدافئة، الفيلم أتاح لـجورج
كلوني تقديم دور شديد التمييز والصعوبة،
في مشاهد
ابلاغ قرارات الفصل نجح في اصطناع قناع جامد ثم أخذها
القناع يلين قرب النهاية
وهو يكتشف مشاعره واحساسيه، ولكن ظلت في كل الأحوال هذه النظرة الحزينة
الدفينة
التي تكشف روحه من الداخل رغم التنقل بين أفخم الأماكن، وتميزت أيضا فيرا
ميجا
في دور المرأة الباحثة عن المغامرة، وإن كانت آناكنيدريك
الأكثر حضورا لثراء
شخصية ناتالي التي تعاني صراعا بين النجاح في العمل بأي ثمن،
والنجاح في
الحب، وفي كل الأحوال تبين للجميع أن النظر من أعلي إلي البشر لا يجعلك
الأكثر
وحدة وتعاسة!.
روز اليوسف اليومية في
24/02/2010 |