خلال التحضير لـ "مهرجان الخليج السينمائيّ"، والذي سوف تنعقدُ دورته
الثالثة في
دبيّ خلال الفترة من 8 وحتى 14 أبريل القادم، وفي إطار مهمتي المُتعلقة
بالقسم
الدوليّ بكافة برامجه، وصلني قرصٌ مُدمجٌ يحوي ستة أفلامٍ تتشاركُ في
تيمتها
الرئيسية المُعلنة "سينما القطار"، وهي استعادة لطريقةٍ
إخراجية متفردة، تُعيد إلى
الأذهان فكرةً اكتشفها مخرجو السينما التسجيلية الروسية فترة الثلاثينيّات،
وقادها
المخرج "ألكسندر مدفدكين".
كان هؤلاء يسافرون عبر "الإتحاد السوفييتيّ" السابق
في قطارٍ جُهزت بعض عرباته بما يلزم لإنجاز فيلم سينمائي، وعلى الرغم من
رغبة تصوير
الانجازات الصناعية للنظام وقتذاك، تمحور الهدف الأساسيّ حول منح
المُواطنين فرصة
التعبير عن أفكارهم، مشاعرهم، وحياتهم.
سنوات بعد تمزق "الإتحاد السوفييتي"
جغرافياً، وتجمّع الدول الأوروبية في "إتحادٍ أوروبي"، جاء الأحفاد
لاستعادة ثراء
فكرة الأجداد مع الاهتمام أكثر بمفهوم الحدود.
في شهر سبتمبر من عام 2008 ، بدأ
18
سينمائياً شاباً من دولٍ أوروبية مختلفة مهمة سينمائية استكشافية، حيث
استقلّ
هؤلاء "القطار السيبيريّ" الذي تستغرق رحلته من "موسكو" إلى"فلاديفوستوك"
أسبوعاً
كاملاً، يتوقف خلاله في 990 محطة، وتوزّعوا في ست مجموعاتٍ من ثلاثة أشخاص
لكلّ
واحدةٍ منها، وكانت الحصيلة ستة أفلام تمحورت حول التساؤل المُعاصر:
ـ هل عبرنا
الحدود الأوروبية ؟
وبعد 9288 كم من الطريق، عُرضت تلك الأفلام خلال الدورة
السادسة للمهرجان الدولي للسينما في"فلاديفوستوك".
أحدها بعنوان "بين
الأحلام"(10 دقائق، و34 ثانية) من إخراج جماعيّ : إيريس أولسون
(فنلندة)، ناتاشا
بافلاوسكايا (روسيا)، وديميتريس توليوس (اليونان)، فيلمٌ قصيرٌ يستقصي
أحلام
المُسافرين في "القطار السيبيريّ" الأسطوريّ، وتكشف مشاهدته بمفرده عن
بساطة
الفكرة، وخصوصية تجسيدها سينمائياً، بينما تمنح المُشاهدة المُتتابعة
للأفلام الستة
ثقلاً مضمونياً خاصاً تُثري التنويعات على التيمة الرئيسية،
وتمنحها زخماً، ومذاقاً
مختلفاً، وبالآن ذاته، تُجسّد إبداعاً سينمائياً فردياً، وجماعياً
.
فكرة إنجاز الأفلام حول تيمةٍ مُعينة، يُنجزها مخرجٌ واحدٌ، أو عددٌ
من
المخرجين، تُذكرنا بتجربةٍ فريدة من نوعها في تاريخ السينما، ماضياً،
حاضراً،
ورُبما مُستقبلاً، تخيّر لها مُبدعها الفرنسي "جيرار كوران"
عنوان "سينماتون"، هذا
المُثابر، ومنذ عام 1978 وحتى اليوم، يُنجز فيلماً واحداً ـ لم
ينتهِ بعد ـ يُعتبر
الأطول في تاريخ السينما على الإطلاق (151 ساعة) يتكون من سلسلة آلاف
الأفلام
القصيرة (2266 سينماتون، كلّ واحدٍ منها بطول ثلاثة دقائق، وبعض الثواني)
يمكن
مُشاهدتها منفردة، أو في إطار مجموعة مُنتقاة .
كما تُعيد إلى الأذهان أيضاً
مفهوم "الانطولوجيا" في السينما، حيث يجمع فيلمٌ طويلٌ واحدُ
عدداً من الأفلام
القصيرة حول تيمةٍ مشتركة، كحال الفيلم الهنديّ
(Darna Zaroori Hai/الخوف ضروريّ)
المُنتج عام 2006، ويتكوّن من ست قصصٍٍ قصيرة تحكيها سيدةٌ عجوز تعيش في
بيتٍ
مهجور، ويكتشف المُتفرج لاحقاً، بأنها شبح امرأةٍ ماتت منذ سنوات، وقد
اشتركَ في
كتابتها ثلاثة مؤلفين : مانيش كوبتا، ساجد خان، رام غوبال
فارما، وأنجزها ستةٌ من
أهمّ مخرجي بوليوود : ج.د.شاكرافارتي، مانيش كوبتا، ساجد خان، براوال
رامان، فايفيك
شاه، رام غوبال فارما.
"سينما
القطار"، بساطة الأفلام، العمل الجماعيّ، والفرديّ، ...وغيرها من
الأسباب، أثارت فضولي لمعرفة تاريخ هذه التجربة، طبيعتها، ومساراتها
الاحترافية،
ولهذا الغرض، اتصلتُ بالمُؤسّسة المُنتجة (Nisi Masa)
بهدف الحصول على نسخةٍ
مُترجمة إلى الفرنسية، وأفضت تلك المُكالمة الهاتفية إلى موعدٍ بالغ
الثراء، تعرفتُ
خلاله على تفاصيل مبادرةٍ سينمائية أوروبية، نادرة، ناضجة،
ومتطورة، موجهة تحديداً
للسينمائيين الشباب، تجمعوا في جمعياتٍ، وأنجزوا أفلاماً تسجيلية مُبهرة
.
كانت هديتي من ذلك اللقاء، حصولي على بعض تلك المجموعات الفيلمية التي
تمّ
إنجازها في مدنٍ أوروبية عديدة حول تيماتٍ متنوعة (لا تخطر على بال
السينمائييّن
العرب)، وانشغالي ببعض الانطباعات الشخصية :
ـ العمل الجماعيّ بين شبابٍ من
أوروبا على رغم المسافات الجغرافية التي تفصلهم عن بعضهم،
واختلاف لغاتهم،
مُعتقداتهم الدينية، وأفكارهم السياسية.
ـ الإبداع السينمائيّ في إطار مجموعاتٍ
صغيرة، وإنجاز أفلامٍ حول تيماتٍ ثرية شكلاً، ومضموناً.
ـ نضج التجربة،
واحترافيتها .
ـ المُستوى النوعيّ للأفلام، وطزاجة تجسيدها سينمائياً.
ـ
تيمة القطار التي أعادتني إلى تلك الوثيقة السينمائية "وصول القطار إلى
محطة لا
سيوتا"(45 ثانية) والتي صورها "الأخوين لوميير" في عام 1895، والتي تُعتبر
أول فيلم
في تاريخ السينما تمّ عرضه جماهيرياً .
وأيضاً، مئات الأفلام التي كانت المحطات،
والقطارات موضوعاً أساسياً لها.
وفي السينما العربية، لا يمكن نسيان الفيلم
الروائيّ الطويل باب الحديد/1958ـ يوسف شاهين، ومن الأفلام
القصيرة : قطار الساعة
السادسة/1999 ـ للمخرجة المصرية كاملة أبو ذكرى، القطار/1999،
والعابر/2003، ـ
للمخرج العراقي قتيبة الجنابي، إنهم كانوا هنا/2000 ـ للمخرج السوري عمار
البيك،
وين السكة ؟/1999 ـ للمخرجة اللبنانية رانيا ستيفان،....
وهنا، أنتهزها فرصة
للتذكير بذاك البرنامج الضخم الذي توليّتُ برمجته مع "مسعود أمر الله" تحت
عنوان "سينما
الطريق" في إطار الدورة السادسة لـ "مسابقة أفلام من الإمارات"/أبو ظبي (7 - 13
مارس 2007).
ومن المُفيد التذكير أيضاً بواحدٍ من المهرجانات السينمائية
النادرة في فرنسا، والعالم، والذي تخيّر القطار، والسكك الحديدية تيمة
أساسية له،
ويستعدّ للاحتفاء بدورته الـ 18 والتي سوف تنعقد في باريس خلال الفترة من 2
وحتى 9
مارس 2010.
وُفق المعلومات المُتوفرة في موقعها، تتلخصّ الأهداف الرئيسية لجمعية (Nisi Masa)
باكتشاف مواهب جديدة، تطوير مشروعاتٍ سينمائية متعددة الثقافات، تشجيع وعيّ
أوروبيّ من خلال السينما، وتأسيس منصة للتبادل بين السينمائيين
الأوروبيين
.
يتمحور نشاطها الرئيسي إذاً حول الإبداع السمعيّ/البصريّ، بالتركيز
على
التبادل الثقافي، اللقاءات، الندوات المُنتظمة في داخل، أو خارج الحدود
الأوروبية،
وغالباً بالتعاون مع مهرجاناتٍ سينمائية عالمية
.
ويتجسّد ذلك عن طريق تنظيم
مسابقة أوروبية لسيناريوهات الأفلام القصيرة، ورشات كتابة،
وإخراج، عقد لقاءات،
وندوات، وتنظيم عروض سينمائية،..
كما تُصدر الجمعية أقراصاً مُدمجة، وكتباً
تُوثق فيها نشاطاتها النظرية، والعملية، ومجلة شهرية، ويومية
بمُناسبة مهرجاناتٍ
سينمائية أوروبية مختلفة، ومنها مهرجان كان الأشهر.
يتولى الإشراف على كلّ
مشروع، جمعية، أو عدداً من الجمعيات يُنسّق نشاطاتها مكتبٌ أوروبيّ صغير
المساحة،
يُديره شابٌ فرنسيّ بمُساعدة بعض المُتطوعين القادمين من دولٍ أوروبية
مختلفة.
تكوّنت الجمعية في عام 2001 عن طريق ثلاثة أصدقاء شغوفين بالسينما،
أرادوا تأسيس منصة أوروبية بهدف التعاون بين المخرجين الشباب في أوروبا،
وبعد تسع
سنوات، وصل عدد البلدان الأعضاء في الشبكة إلى 19 بلداً من الاتحاد
الأوروبيّ
:
ألمانيا، النمسا، بلجيكا، بلغاريا، إسبانيا، فنلندة، فرنسا، هنغاريا،
إيطاليا،
هولندة، بولونيا، تشيكيا، رومانيا، والسويد.
وبعض
جيرانه : كرواتيا، مقدونيا، كوسوفو، تركيا، وروسيا الاتحادية.
استوحى المؤسّسون
اسم الجمعية من جملةٍ حوارية جاءت في واحدٍ من كلاسيكيات السينما
الأوروبية، "ثمانية،
ونصف" للمخرج الإيطالي الراحل "فيدريكو فلليني"، عندما كان "مارتشيللو
ماستروياني" يُكرر في أحد المشاهد كلماتٍ غير مفهومة
: (Asa Nisi Masa).
هذه
الجملة بالذات، والتي لا تنتمي إلى أيّ لغة، تحولت إلى تعويذة، وأصبحت تعكس
الروح
السينمائية، والتعددية الثقافية لشبكةٍ تتكون من عشرين جمعية، تجمع فيها
آلاف
الأعضاء، ويُشرف عليها شبابٌ من المُحترفين، الهواة، الطلبة،
والمُتطوعين، يتقاسمون
عشقاً واحداً: "السينما الأوروبية".
الجزيرة الوثائقية في
22/02/2010 |