لا يكاد أحد أن يتحدث عن السينما السويدية ، الا و كان المخرج ( انغمار
برغمان ) حاضراً في الذاكرة ، حتى و أن لم يُذكر اسمه . فهذا المخرج
السويدي ( 1918 ـ 2007) الذي اخرج أول أفلامه في العام 1957 ، ظل ـ و ما
يزال ـ حاضراً ، ليس في تاريخ السينما السويدية حسب بل السينما العالمية
أيضاً ، منذ الستينيات و حتى اليوم ، فغطت شهرته العالمية و سطوع نجمه
كمخرج سويدي ، على جميع أسماء المخرجين السينمائيين السويديين ، على الرغم
من رفعة مواهبهم و رقي أفلامهم . و من هؤلاء أحد اهم مجايليه المخرج البارع
( جان تروول ) مخرج فيلم ( لحظات أبدية ) الذي ترشح كأفضل فيلم أجنبي
لأوسكار 2009 ، و صُنف في مقدمة أفضل عشرة أفلام للعام ذاته . و هذا الفيلم
هو آخر أعمال هذا المخرج الدؤوب ، الذي مازال يواصل عمله السينمائي على
الرغم من اقترابه من سن الثمانين . وقد يكون ( جان تروول ) مجهولاً لدى
الكثيرين ، و خاصة في البلاد العربية ، ولكنه مخرج عرفته هوليوود منذ فترة
السبعينيات عندما أخرج لها فيلمين لفتا اليه الأنتباه ، هما : ( المهاجرون
) و ( عروس زندي ) .
و بالترافق مع ترشيح فيلم ( لحظات أبدية ) للأوسكار ، و تصنيفه كأفضل فيلم
للعام 2009 ، فقد حظي بثناء النقاد و الصحافة العالمية عليه ، فترك بصمة
ايجابية ليس في سجل المخرج حسب ، بل وفي سجل السينما السويدية أيضاً ، مما
أعاد التذكير بها ، و أعادها الى منطقة الضوء ، في الأقل لدى النخبة
السينمائية التي تتعامل مع فيلم كهذا باعتباره ايقونة ابداعية تصنف في خانة
المُنتـَج الثقافي الجاد والعميق ، و ليس عملاً يهدف الى الولوج في سوق
السينما من جهة الهالات الكاذبة التي تصنعها مافيات السينما لأفلام ٍ
مبهرجة .
يستفيد الفيلم من قصة حقيقية، وهي قصة امرأة سويدية ( ماريا ) تفوز ذات يوم
بآلة كاميرا ، و تحتفظ بها لفترة طويلة ، حتى جاءت الحاجة الى بيعها
لمواجهة الظرف العائلي الصعب الذي يكون الإحتفاظ، حياله، بكاميرا.. ضرباً
من البطر. ولكن صاحب استوديو التصوير المصور بيدرسن ( جيسبر كريستنسن )
ينصحها بالإحتفاظ بها ، ويشجعها على استخدامها ، بل و يعلمها طريقة
الإستخدام ، فضلاً عن تزويدها ببعض ألواح التصوير التي كانت تـُستخدم في
ذلك الوقت ، حيث تبدأ أحداث الفيلم في العام 1907 . . ومن هذه النصيحة ،
يبدأ التطور الدرامي في حياة هذه المرأة ( ماريا هييسكانن ) التي ستجد في
كاميرتها تعويضاً و وسيلة قوة ٍ في مواجهة ظرفها النفسي الصعب الذي يسببه
لها زوجها سيغموند ( مايكل بيرسبراند ) ، والظرف الإقتصادي القاسي لعائلتها
، فضلاً عن الظرف الإجتماعي الصعب الذي كانت تعيشه المرأة السويدية في ذلك
الوقت، والذي لم تكن قد حصلت فيه على حقوقها، بعد .
يبدأ الفيلم بحديث راوية ٍ تخبرنا بأن أمها كانت قد فازت بكاميرا في احدى
المسابقات بعد اسبوع من تعرفها على ( سيغموند ) ، الذي اعتقدَ بأنه سيكون
مشاركاً في ملكية الكاميرا لأنه كان مساهماً في شراء البطاقة الفائزة ،
ولكن ( ماريا ) تشترط عليه أن يتزوجها أولاً كشرط لقبول مشاركته في ملكية
الكاميرا . وعلى هذا الأساس تم زواجهما . هذه الراوية هي بنتهما ( مايا ) ،
و يعتمد السيناريو على روايتها للأحداث على مر مراحل حياتها ، مما يقدم
صيغة منطقية و مقبولة لتطور دراما الفيلم . ولقد تعاقبت ثلاث فتيات ممثلات
على الإضطلاع بدور ( مايا ) الراوية ، وهن : ( كاللين أورفال : للمرحلة من
سن الثامنة حتى العاشرة ) . ( نيللي المغرين : للمرحلة من سن الخامسة عشرة
حتى الثانية والعشرين ) . وأخيراً ( بيرت هيريبر ستون: التي تستمر روايتها
حتى نهاية القصة ) .
العصب الرئيس الذي بات يتحكم في حياة ( ماريا ) يتمثل في سلوك زوجها (
سيغموند)، الذي يُعرف عادة ً بإسم ( سيغ ) ، وهو رجل وسيم ، ولكنه حاد
الطباع ، يعاقر الخمرة باستمرار ، على الرغم من فقر حال العائلة التي تكاثر
أفرادها . و كثيراً ما كان الرجل يُقاد الى المنزل مخموراً ، فبات يسبب
للزوجة احراجاً ، بسلوكه ، أمام جيرانها و أهلها، وفوق هذا وذاك راح الرجل
يخونها مع عاملة البار، وهذه الغانية هي التي تنبهه ، في حالة جذل ذات مرة
، الى صورة زوجته المعروضة ، كنموذج ، لدى استوديو المصور ( بيدرسن ) ،
فيدخل الأستوديو محتداً ، ليأخذ الصورة عنوة ، ومن ثم يذهب كي يعنف زوجته
بقسوةٍ يتوّجها بالضرب . ولم تعد ثمة حدود لمعاناة ( ماريا ) مع هذا الزوج
، ففضلاً عن التفاصيل المؤذية الكثيرة التي سببها لها ، فقد دخل السجن مرة
بسبب مشاركته في إضراب عمالي ، و ترك مسؤولية العائلة على عاتقها وحدها ،
ولكنها ـ على الرغم من ذلك ـ استقبلته عند باب السجن حين اُطلق سراحه ،
وعادت معه و هي تتظاهر أمام الجيران بالمودة التي تجمعهما ، وعندما اندلعت
الحرب العالمية الأولى وانخرط في صفوف المحاربين، عادت فتحملت مسؤولية
العائلة لوحدها .. من جديد . وفي احدى حالات حنقها من تصرفاته معها ، تلجأ
الى محاولة اجهاض نفسها عن طريق صعود الطاولة و القفز منها واعادة تكرار
ذلك عدة مرات .
ويبدو أن مشكلة ( ماريا ) لم تكن محصورة في غياب الإرادة و الحرية والحقوق
الشخصية التي تتمتع بها المرأة السويدية اليوم ، حسب، بل في التقاليد
الإجتماعية العامة، ذاتها ، التي غيبت تلك الحقوق أصلاً و منحت الرجل ، في
ذلك الوقت ، الحظوة الأولى والأكبر . هذا فضلاً عن الإلتزام الأخلاقي
والعائلي الذي كانت ( ماريا ) مقيدة به شخصياً . ففي إحدى المرات ، تجد أن
لا ملاذ لها من قسوة زوجها غير ابيها ، فتذهب اليه وعلى وجهها آثار كدمات
أحدثها لها الزوج الأهوج ، لكن الأب يقول لها : (عودي الى بيت زوجك .. فليس
لك غيره ، أما أنا فذاهب الى أمك) ، فتقول له : ( أمي ميتة ) . ولكنه لا
يلقي بالاً لقولها ، دلالة أنه راحل ليلتحق بإمها .. أي: إعتمدي على نفسك ،
فلم يعد لديك ظهير. وإذ تجد ( ماريا ) نفسها في مواجهة الحقيقة القاسية ،
فأن هذه الحقيقة ذاتها توجد للكاميرا حيزاً في حياتها ، كي تمنحها بعض
التعويض ، أو القوة الخفية الشفافة ، حتى و إن كانت على شكل تسلية ، و بذلك
فأن هذه الكاميرا تحوز على دور لها في الفيلم إن لم نقل أنها اضطلعت ببطولة
غير ظاهرة ، وتقاسمتها مع ( ماريا) . وهذا الدور ما كان ليبين أثره لولا
رواية البنت ( مايا ) للأحداث ، و التي على الرغم من أن دورها لم يكن
فاعلاً في العائلة في مواجهة الدور الرجولي القاسي للأب الذي هيمن ، بقسوة
، حتى على دور أخوتها الذكور ، إلا أن دورها الأساس قد تمثل في تخزين
الأحداث في ذاكرتها ، ومن ثم سردها .. كما رسم السيناريو لها ذلك .
بعد سنوات، تعثر ( مايا ) على لوح تصوير لم يمسسه أحد ، تبين أنه يحمل صورة
خاصة للأم (ماريا) ، وكانت قد التقطتها ـ ذات يوم ـ وهي جالسة أمام المرآة
. وتقول (مايا): ( كانت هذه هي الصورة الوحيدة التي التقطتها أمي لنفسها )
. ثم تتساءل : ( لا أدري ما الذي كان يجعل أمي مرتبطة بأبي رغم كل ما عانته
منه ) .. وتجيب : ( أعتقد إنه الحب ) .
إن فيلم ( لحظات أبدية ) ، بقدر ما يؤرخ فنياً لمرحلة من مراحل الحياة
الإجتماعية في السويد مطلع القرن العشرين ، فأنه ـ ومن خلال صنعة سينمائية
باهرة ـ يعيد تذكيرنا بالسينما السويدية التي تتسم ، عادة ً، بعمقها الفكري
وبشاعرية طرحها . وربما كان هذا الفيلم إسقاطاً ـ أيضاً ـ لعلاقة المخرج (
جان تروول ) نفسه بالكاميرا ، فالمعروف عنه أن علاقته بها قد بدأت منذ أن
كان في الرابعة عشرة من عمره ، كمصور هاو ٍ ، ثم تعمق ولعه بهذه الآلة مع
تعميقه لتجربته الفنية الثرة ، الى درجة أنه يقوم بتصوير أفلامه بنفسه ،
كما هو الحال مع فيلمه الجميل هذا: ( لحظات أبدية ).
خاص "أدب فن"
أدب وفن في
17/02/2010 |