"أبسط الكلمات تكتسب تألقاً اذا وُضعت في مكانها المناسب. بهذا التألق يجب
أن تشع الصور".
روبير بريسون
لم يغيّر واقع التجاهل الجماهيري التام لأفلامه شيئاً من موقعه. كما لم يمس
مكانته كأحد أعظم السينمائيين في العالم. ولكنه، اي التجاهل، صنع مفارقة
كبرى. فإذا كان من وصف او ميزة او ملمح لصيق بأعمال السينمائي الفرنسي
روبير بريسون، فإنه قدرتها على التقاط طبيعية الحياة، وربما سذاجتها، كما
لم تفعل السينما، قبله وبعده، بنفس التمكن والتألق. وما إعراض الجمهور
العريض عنها (وحتى الصحافة بشكل عام)، بهذا المعنى، سوى شكل من أشكال
التعبير عن الاتجاه العام السائد الى تفضيل نسخة متصنعة وأكثر إغواء وتفاهة
عن الوجود. بثلاثة عشر فيلماً طويلاً وواحد متوسط الطول، خاض بريسون نصف
قرن من الابداع السينمائي الخالص، تستعيده سينما "متروبوليس" أمبير- صوفيل
بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي في بيروت كاملاً. احتفالية لافتة، تحمل
اسم "روبير بريسون: الشريط المسحور"، انطلقت أمس وتستمر حتى الثامن عشر من
شباط/فبراير الجاري، وتستضيف الناقد السينمائي الفرنسي جان-ميشال فرودون
الذي سيتحدث في جلسة مفتوحة عن أعمال بريسون (السبت 6 شباط، السابعة
مساءً)، وتُختتم بفيلم المخرج الأميركي الأصل يوجين غرين (أحد أكثر
المخرجين المعاصرين تأثراً ببريسون) "الراهبة البرتغالية"
La Religieuse
Portugaise (2009).
المراحل الاولى
يختلف تاريخ ولادة بريسون بين مصدر وآخر. فبعضها يشير الى العام 1901
وبعضها الآخر الى 1907. ولكن وفاته في أواخر العام 1999، دفعت بكثيرين الى
اعتماد العام 1901، لما فيه من إيحاء رمزي، ينسجم مع هالة هذا السينمائي
ومكانته والأثر الذي تركه، باعتبار ولادته كانت مفتتحاً للقرن العشرين
ومماته اختتام له. ما يُعرف عن المراحل الأولى في حياته قليل جداً، أبرزه
امتهانه الرسم لبعض الوقت، الأمر الذي أكسبه سلوكاً سيتجلّى لاحقاً في
سينماه، بل سيصبح من ملامحها الاساسية وهو ما عبر عنه بكلماته الخاصة:
"...عدم صنع صور جميلة وانما ضرورية." ولكن بريسون كان السبّاق الى مناقضة
نفسه، ليس بكسر ذلك المفهوم، وانما بانتاجه الصورة الضرورية وفوق ذلك فائقة
الجماليات. الى الرسم، ثمة تجربتان أخريان أثرتا فيه عميقاً: تربيته
الكاثوليكية وتعرضه للاسر في المانيا ابان الحرب العالمية الثانية. في حين
لا يمكن الإكتفاء بوصف "التجربة" لتربيته الكاثوليكية التي رافقته طوال
حياته، يمكن الجزم بتأثيرها الكبير على أفلامه، متجلية في اشتغاله الدؤوب
على النفس البشرية والعالمين المادي والروحي واستحالة الخلاص.
بدأت تجارب بريسون الأولى في الصورة عن طريق التصوير الفوتوغرافي الذي لم
يمتهنه طويلاً، منتقلاً الى السينما في الثلاثينات، كاتباً ومساعد مخرج في
البداية، قبل أن ينجز فيلمه الأول القصير "شؤون عامة"
Les Affaires Publiques
في العام 1934. قياساً على أعماله اللاحقة، سيبقى هذا الفيلم خارج فضاء
مسيرته لمزاجه الكوميدي الساخر، البعيد تماماً من عوالم أفلامه الأخرى. في
مطلع الاربعينات، قضى السينمائي عاماً كاملاً كأسير حرب في ألمانيا، في ما
هي تجربة ستلهم أفلاماً كاملة او مقاطع من أفلام لاحقة له، تتناول فكرة
"السجن"، معنوياً أو حسياً. ظهر ذلك جلياً في فيلمه الروائي الطويل الاول
"ملائكة الشارع"
Les Anges du Peche (1943)
الذي تدور أحداثه في دير دومينيكاني متخصص في إعادة تأهيل الخاطئات. فيلمه
التالي، "سيدات بوا دو بولون"
Les
Dames du Bois de Boulogne (1945)،
كان محطة ومنطلقاً. على حواراته، تعاون مع جان كوكتو، ولأسلوبه اختار
المسرحة، ولممثليه التجأ الى المحترفين. على الرغم من تألق الفيلم، الا ان
بريسون سينتهج بعده درباً مختلفة، مستبدلاً الممثلين المحترفين بأناس
عاديين والمسرحة ببحث دؤوب وجهد متواصل للتمييز بين السينما والمسرح. بعده،
أرسى السينمائي مقاربة خاصة للسينما، بعيدة من الفوتوغرافيا والمسرح، وأقرب
في روحيتها الى الرسم والشعر. اما ممثلوه، فسيتحولون "نماذج" أو "قوالب"
للشخصيات، تلقي حواراتها من دون عواطف وباسلوب اشبه بالشريط الصوتي
المرافق. ولكن مرة ثانية، سيناقض بريسون منهجيته في العمل حيث معظم
"قوالبه" (ممثليه)، ومن بينها الحمار "بالتازار"، ستقدم أداءات موجعة
بأحاسيسها لا تقل عظمة عن اي ممثل تراجيدي كلاسيكي.
العثور على الطريق
بعد تجربته الاخيرة مع الممثلين المحترفين، غاب بريسون ست سنوات، غالب الظن
انه كان خلالها يعيد التفكير في سينماه وأدواته، ليخرج الفيلم "البريسوني"
الاصيل (بمعنى انسجامه الكلي مع ملامح سينما بريسون الباقية) "يوميات كاهن
ريفي"
Journal dun Cure de Campagne (1950)
عن رواية لجورج برنانوس، الذي ستتناسل من رحمه الأعمال اللاحقة. في هذا
الفيلم المتقشف، تناول بريسون حكاية كاهن شاب في قرية صغيرة، يجاهد لكسب
ثقة أهلها وتعاطفهم. بين طيات تلك الحكاية، التقط السينمائي ما سيصبو اليه
في كل أفلامه: التجربة الروحانية. ومن اكتشافاته الأثيرة في هذا المجال،
تجريده تلك التجربة من العواطف (في وصف التجربة الروحية العميقة والحقيقية
تشل العواطف) وتأكيده على ان الروحانية تسمو على العاطفة. بهذا المعنى،
تقوم أفلام بريسون على درجة عالية من التطلّب والالحاح على كافة الأصعدة.
على صعيد الصنعة، ينحت مشاهده ويشحذها بالفراغ والصمت لتختزل الألم والعزلة
والقسوة، ويجرّد ممثليه، عبر الاعادة والتكرار، من كل مظاهر التمثيل، ليصل
بهم الى حالة من الحضور الخام والحاد والرقيق في آن على الشاشة. وعلى صعيد
المشاهدة، تستلزم أفلام بريسون درجة عالية من الاندماج الروحي لتحسس
خصوصيتها ولفهم علاقتها العميقة بالحياة. فأفلامه تلتقط بتفوق كبير تدفق
الحياة كما هي او كما يراها: بسيطة، مليئة بالصدف والتفاصيل التي تبدو غير
مهمة، ولكن التي يتبين انها المفاتيح الاساسية لمصير الانسان.
خمس سنوات أخرى مرت قبل ان يقدم بريسون "رجل هارب"
Un Condamne a Mort
sest Echappe (1956) بما يمكن وصفه بالثمن الطبيعي لمسيرة سينمائية
عنيدة، لم يخضع صاحبها لتسوية او مساومة. هنا، عاد بريسون الى تجربة السجن
بشكل مباشر، في حكاية الملازم "فونتين" الذي يتم اعتقاله على يد "الغستابو"
ويُحكم عليه بالموت. بعد محاولة هرب فاشلة، يتقرب من بعض رفاق السجن من دون
ان يتخلى عن خطة الهرب. يطرح بريسون فكرة الخلاص من خلال العثور على هدف.
المشهد الافتتاحي ليدي "فونتين" محاولاً الوصول الى مسكة الباب والهرب،
يتحول شبه لازمة في الفيلم حيث اللقطات المقربة للأيدي تتكرر بما يجسد على
صعيد غير محسوس فكرة العطاء الانساني كمخر وحيد لخلاص الروح. إزاء حجز
حرياتهم وترصّد الموت بحيواتهم، لا يملك السجناء سوى العثور على هدف ولو
صغير لمتابعة الصراع، قاطعين على سجّانيهم طريق النصر على أرواحهم.
على خطى رحلة التأمل الروحي لكاهن القرية والسجين الفرنسي، سار بريسون في
فيلمه التالي "نشّال"
Pickpocket،
منغمساً في العوالم النفسية والروحية لشاب، ترك التعليم وفرص العمل في سبيل
تمكين مهاراته في النشل. وكما في فيلم السجين، تتواتر لقطات الايدي هنا
انما لتبرز صدعاً أخلاقياً في روح النشال، هي في جوهرها تعبير عميق عن
الهوة الكبرى التي تفصل بين طموحاته وأفكاره وحياته العادية غير المهمة.
ولعل هذا ما يبرر انجذابه الى عالم الجريمة بعيد انكشافه في محاولة أخيرة
مستميتة للتعويض عن ادراكه انه ليس "الرجل غير العادي" الذي ظنّه.
خلال الستينات، قدم بريسون أربعة أفلام هي: "محاكمة جاندارك"
Proces de Jeanne dArc (1962)، "بالتازار"
Au Hazard Balthazar (1966)، "موشيت"
Mouchette (1967)
و "إمرأة رقيقة"
Une Femme Douce (1969). في الأول، سلك الاتجاه المعاكس لكارل ثيودور دراير في أفلمته
لتدوينات محاكمة "جاندارك" في فيلمه "ألم جاندارك" (1928). بعيداً من
العواطف والبطولة، يقوم اقتباس بريسون على كبت الأحاسيس ويستعير من
بيروقراطية المحاكمة ومنهجيتها. في الجوهر، يعمل الفيلم على الربط، بصرياً،
بين خلاص "جاندارك" ومصيرها، او بين عالميها، المادي والروحي. وكما في معظم
أفلامه، حيث يبني بريسون مشاهده ويراكمها وصولاً الى مشهد أخير أيقوني:
خطوات "جاندارك" المتسارعة خلال اقتيادها الى الحرق تخلق صورة معاكسة للجسد
الاسير وللألم وتسمو بها الى مرتبة النقاء والخلاص الروحي والابدية.
"بالتازار" هو في عيون كثيرين من السينمائيين من محبي بريسون تحفته النادرة
التي لم تصل السينما في اختزالها وفطنتها وتكثيفها الى مرتبته. انه فيلم
بطله "حمار"، تُروى الأحداث من وجهة نظره. وثمة من يعتبر ان بريسون في هذا
الفيلم، أسقط على الحمار تجربة الكاهن في "يوميات كاهن ريفي". وإذا كانت
أفلام بريسون مقسومة في نظرتها الى العالم بين استدعاء الحياة وامكانية
الخلاص من جهة واعلان العالم مرقداً ابدياً للبؤس والشقاء، فإن "بالتازار"
يلائم النظرة الأخيرة من خلال ما يجسده من قسوة الانسان الغريزية ودوافعه
المدمرة.
في "موشيت"، مقتبساً جورج برنانوس مرة ثانية، محاولة أخرى، أكثر قسوة،
ونداء أكثر يأساً في ما يخص الظرف الانساني. بطلة الفيلم هنا مراهقة،
أهملتها امها المريضة ووالدها السكير وتركاها لحياة، تبدو في البداية انها
لا يمكن ان تزداد سوءاً. ولكن تعاقب الأحداث سيقود الفتاة الى مواجهة لا
خلاص منها مع عالم شديد العنف والقسوة. لقطات بريسون المبتورة المتكررة
تظهير للنفس البشرية المصدّعة، في ما عزلة "موشيت" موجعة، تبحث عن القبول
والتوتاصل فلا تُقابل الا بالغدر مرغمة على الاستسلام لمصيرها.
في "إمرأة رقيقة"، يواجه بريسون بين عالمي المرأة والرجل، من دون إسقاط
بحثه النفسي العميق. الفيلم الذي يبدأ بلقطة صادمة لامرأة ترمي بنفسها من
شرفة منزلها، يرصد عبر سلسلة من الـ"فلاشباك" علاقة زوجين في تقلباتها.
ولكن الاساس الذي ينطلق منه بريسون هو التنافر بين شخصية الزوجة الشغوفة
والمعطاءة وشخصية الزوج المادية ورغبته في امتلاكها. والواقع انه في
النهاية يمتلك جسدها بالكامل ولكنه يخسر روحها.
الى العلاقة بين المرأة والرجل سيعود بريسون في فيلمه "أربع ليالٍ للحالم"
Quatre Nuits dun Reveur مقتبساً فيودور دوستويفسكي للمرة الثالثة (بعد
"نشّال" و"امرأة ناعمة"). ولكن في هذه التجربة سيشتغل السينمائي على تفكيك
اسطورة الحب الرومنسي من خلال حكاية رسام حالم، يلتقي ذات ليلة شابة تحاول
رمي نفسها من على جسر "بون نوف" فيردعها. سيشكل ذلك اللقاء الليلة الأولى
من اربع ليالٍ سيقضيانها معاً، يجمعهما بحثهما عن حب بعيد المنال. لعله
أكثر أفلام بريسون خفة ولكنه لا يقطع مع عوالمه، بل انه يجسد إحدى أفكاره
عن دور الفنان كصانع صور وعن بحثه عن اللامحسوس.
عاد بريسون الى موضوعاته الأثيرة (البحث عن الخلاص والفشل) بشكل مباشر في
فليمه التالي "لانسلوت"
Lancelot du Lac (1974) من خلال أسطورة الكأس المقدسة. ولكن يختار
السينمائي ان يبدأ الحكاية من آخرها مع عودة الفرسان من رحلة البحث عن
"الكأس المقدسة" خالي الوفاض، كأنه يقول ان رحلة الانسان نحو الخلاص محكومة
بالفشل.
في "الشيطان، ربما"
Le Diable Probablement (1976)،
طرق بريسون مجدداً موضوع الانتحار في ما يمكن ان يكون أكثر افلامه نقداً
للحياة العصرية ولانحلال الفرد. عن الانتحار، يقول: "بالنسبة إلي، هناك شيء
يجعل الانتحار ممكناً لا بل ضروري. إنه رؤية الفراغ، الاحساس بالفراغ الذي
لا يُحتمل."
سبع سنوات ستمر قبل ان ينجز فيلمه الاخير "المال"
Largent (1983)
مقتبساً تولستوي هذه المرة، وبانياً على نفس النظرة التي اسس لها في
"الشيطان ربما" لجهة تصوير الحياة العصرية مختزلة بـ"الجشع".
عالم بريسون
بعد "المال"، دخل بريسون في مرحلة تقاعد طويلة، استمرت حتى وفاته في 18
كانون الأول/ديسمبر 1999، على الرغم من مشروعه الكبير، "سفر التكوين"
Genesis، الذي ظل يراوده من دون أن يتحقق. ولكن أفلامه الثلاثة عشر كانت أكثر
من كافية لتكريس موقعه الطليعي كأحد أبرز سينمائيي القرن العشرين وكملهمٍ
لأجيال لاحقة من السينمائيين ليس أقلهم رواد الموجة الفرنسية الجديدة الذين
اعتبروه، لا سيما جان-لوك غودار وفرونسوا تروفو، مثالهم الأعلى في السينما.
على الرغم من وجود سينمائيين معاصرين كثيرين اليوم متأثرين بأسلوب بريسون،
الا ان تأثيره الأعمق، حتى في السينمائيين ذوي المقاربات والاساليب
المختلفة عنه جذرياً، يكمن في تحوله بكليته مثالاً على إمكانية السينمائي
العثور على صوته الخاص وعلى الذهاب أبعد مما كان يتخيل. بريسون خالف النظرة
السائدة للسينما. فإذا كانت السينما في عيون كثيرين قائمة على الحركة
والتعاطف، فإن الأمرين اللذين تحاشاهما بريسون في سينماه هما الحركة
والتعاطف.
الى أفلامه تلك، كثّف بريسون رؤيته للسينما وشرحها في كتابه "ملاحظات حول
السينماتوغرافيا"، صدر في العام 1975، وفيه طرح مفهوماً خاصاً لمفردة
"السينماتوغرافيا" كوظيفة أعلى من "السينما". فبينما لا تتعدى الاخيرة
بالنسبة اليه "مسرحاً مصوراً"، يعتبر "السينماتوغرافيا" محاولة خلق لغة
جديدة بالصورة والصوت. وإذا كان التقاط التجربة الروحانية اساس عمل بريسون،
فإن طريقه الى ذلك لم يكن الذهن كما قد توحي أفلامه العميقة بل حدسه:
"لا أفكر كثيراً في ما أفعله عندما أعمل، ولكنني أحاول ان أحس شيئاً، أن
أرى من دون أن أفسر، أن ألتقطه بقدر المستطاع. هذا كل شيء. التفكير عدو
رهيب. عليك ان تحاول العمل ليس من خلال إدراكك، وانما بحواسك وقلبك.
بحدسك."
سينما بريسون لم تتطوّر بالمعنى الذي نقع عليه في تجارب سينمائيين آخرين،
تسجّل أفلامهم تحولات فكرية وأسلوبية. فمنذ عثوره على لغته وخطه مع "يوميات
كاهن ريفي"، كان بريسون قد صنع مجده بالفعل، بخصوصية سينماه وقدرتها
الفائقة على التكثيف وايضاً في انغلاقها وفي جرأتها على الذهاب الى أماكن
بعيدة في استكشاف النفس البشرية. بهذا المعنى، كان بريسون يحفر في كل فيلم
عمقاً جديداً ويفتح نافذة أخرى في قدرته على الامساك بشيء متدفق غير ثابت
يخص الحياة والانسان. لذلك ربما ينطبق على أفلامه وصف "خارج الزمان
والمكان" لأنها اختزلت روح السينما وروح الحياة وروح الانسان.
هكذا تأثرت ببريسون
تتضمن احتفالية بريسون الكاملة فيلماً من خارج مسيرة السينمائي الكبير هو
"الراهبة البرتغالية"
La Religieuse Portugaise
للمخرج الفرنسي يوجين غرين الذي وُصف مراراً بـ"وريث بريسون". بعيداً من
تلك النظرية، ثمة بصمة "بريسونية" واضحة في أعمال غرين، ليس من خلال تقليد
اسلوبه او استلهام صوره، وانما من حيث ان سينما يوجين غرين قائمة على سعي
حثيث، مشابه لسعي بريسون، الى جمالية سينمائية لا هوادة فيها ورفض قاطع
للتسوية او المساومة.
في العام 2007، نشرت مجلة "سايت أند ساوند" البريطانية في عددها لشهر تشرين
الثاني/نوفمبر، مقابلة مع خمسة مخرجين حول تأثير بريسون فيهم. كان يوجين
غرين أحد هؤلاء اضافة الى اوليفييه اساياس وبرونو دومون وبول شرايدر وآكي
كاوريزماكي. هنا نص المقابلة مع غرين الذي يوضح الصلة بينه وبين بريسون.
·
ما هي أهمية بريسون بالنسبة اليك؟
بريسون هو السينمائي الذي استطاع أكثر من اي سينمائي آخر اكتشاف طبيعة
السينما، محدداً ما هو خاص بها تحديداً دوناً عن سائر الفنون الأخرى. هو
المخرج الذي حملني على التفكير في ماهية الفيلم عندما كنت في التاسعة عشرة
وشاهدت "يوميات كاهن ريفي" في "بليكر ستريت سينما" في نيويورك. لم أكن
وقتها أعرف من هو بريسون. كان معي بطاقة لثلاثة أفلام وفيلمه كان الأخير.
حتى أنني ما عدت أذكر الفيلمين الآخرين. عندما جئت الى فرنسا، شاهدت أفلامه
مراراً. وكان لدي الوقت الكافي للتفكير في ما أريد ان أعمله قبل ان أبدأ
بصنع أفلامي. وظني انه كان لبريسون دور كبير في ذلك، في أن اصبح مخرجاً.
·
ما هو فيلمك البريسوني المفضل
ولماذا؟
أعتقد ان الفيلمين اللذين يؤثران فيّ كثيراً اليوم هما "بالتازار"
و"الشيطان، ربما" الذي لعبت فيه دور كومبارس في مشهد حشود. عندما شاهدته
أول مرة، شعرت انه لا يعبر تماماً عما كان يعنيه ان تكون شاباً في ذلك
الوقت. ولكن اليوم أعتقد انه قبض على ذلك الواقع بامتياز.
·
ماذا استعرت من بريسون؟
في الاسلوب، لم استعر الكثير من سينما بريسون. ولكنني أخذت منه المفهوم وهو
ان جوهر السينما هو إظهار الروح من خلال اكتشاف المادة. هذه صلة قوية جداً
تربطني به: انه مخرج يعبر عن أشياء روحانية.
·
ما هو برأيك إرث بريسون الحقيقي؟
معظم السينمائيين الجادين اليوم يكنون الاحترام الكبير لبريسون وهذا ما لم
يكن صحيحاً خلال حياته. كنت أذهب لمشاهدة أفلامه في عروضها الصباحية
لأتحاشى حشود المشاهدين الليلية وتعليقاتهم الساخرة على حوارات أبطاله.
اليوم ما إن يظهر فيلم متقشف صارم حتى يوصف بـ"البريسوني"، وهو ما لا أجده
صحيحاً. أهم شيء هو إرثه الروحي. أحدهم قال لي قبل فترة ان بريسون مخرج
للمراهقين ولكنني لا اوافقه الرأي. بالنسبة إليّ، يعبر بريسون عن بعض
الاشياء الذي هو في طبيعة المراهقة، وهذا ما اتشاركه معه، كما ان معظم
شخصياته مراهقون. ولكن يمكنك ان تقدر بريسون في اي سن. لا أعتقد انه تقدّم
كمخرج. فيلمه الاخير "المال" أكثر أفلامه يأساً ولكنه أقل فيلم اشاهده. انه
واحد من هؤلاء المخرجين الذي تتحسس في أعمالهم نوعاً من التطور، ولكن الذي
يمتلك شيئاً جوهرياً واساسياً حافظ عليه من فيلمه الاول وحتى فيلمه الأخير.
المستقبل اللبنانية في
05/02/2010 |