في مطلع فيلم »تسعة« للمخرج الأمريكي روب مارشال يقول المخرج بطل الفيلم
هذه المرة في مؤتمره الصحفي الذي يسبق التصوير..
ان الفيلم هو حلم لصاحبه..
يحبسه عند التنفيذ في »علبة«
ثم ينطلق مرة أخري عند العرض..
ليصبح حلما مشتركا لكل من يشاهده بعيدا تماما عن صاحبه الذي حلم ـبه.هذه
الجملة الرائعة هي ما قالها أيضا العبقري السينمائي فدريكو فيليني قبل ان
يصور رائعته »ثمانية ونصف« التي كانت الاساس الفني الذي يبني عليه مارشال
فيلمه الموسيقي الكبير وجند له أشهر نجمات السينما في العالم..
إلي جانب ممثل انجليزي عبقري هو
»داني دي لويس« الحائز علي الأوسكار..
والذي رشح له أكثر من مرة لأكثر من فيلم.
فيلم مارشال يجمع بين نيكول كيدمان الاسترالية وبنلوبي كروز الاسبانية
وجودي دنش الانجليزية وماريون كوكارد الفرنسية وصوفيا لورين الايطالية
وكلهن يحملن جوائز سابقة للأوسكار إلي جانب ممثلات أخريات »مدهشات«
في ادوار مساعدة.
»ثمانية ونصف« كان يصف عجز مخرج عن كتابة واخراج فيلمه..
واحساسه بأن نبض الموهبة في روحه قد اختفي..
وانه يواجه عجزه الفني وعدم قدرته علي الاستمرار لذلك يلجأ إلي أحلامه
وذكرياته واحداث طفولته وصباه وشبابه وعلاقته بأسرته وبالنساء اللائي مررن
في حياته.. لكي يستمد منهن الالهام..
وينجح أخيرا في أن يجعل من قصة هذا العجز وهذا البحث..
وهذا الخلاص المؤقت من الأزمة موضوعا للفيلم الذي يخرجه..
أي أن »ثمانية ونصف« هو فيلم عن السينما..
داخل السينما..
عن رجالها..
وكوابيسها وجوانبها الخفية والظاهرة..
أنه فيلم نابع من قلب صاحبه..
يقطر دما ودمعا وموهبة تتخلله..
مواقف يسيطر فيها الحلم بكل ألوانه الزاهية والقوس
قزحية..
ويعود الواقع بوجهه الصارم ليضع الخطوط السوداء القاتمة حول
هذه الألوان الشاحبة القرمزية.
»ثمانية ونصف« كان حدثا سينمائيا خارقا في عالم فيلبني خاصة في عالم
السينما عامة.. تكلم فيه المخرج وقال من خلاله كل ما يمكن لرجل وفنان
وسينمائي ان يقوله.. عن طفولته.
وعن القمع الديني والأخلاقي الذي واجهه في مدرسته الأولي..
عن اكتشافه للحرية والجنس..
عن علاقته المتعددة بالنساء..
عن حبه لزوجته وعن خيانته لها..
عن عشيقته التافهة..
عن النجمة الكبيرة التي عقد معها صلة خاطفة مدهشة..
في ليلة مقمرة من ليالي روما..
وفي أزقتها الضيقة وأمام تماثيلها الشامخة..
وينابيع مياهها الموحية..
والمزينة بالتماثيل،
وعن ملهمته النورانية التي تبدو له بين حين وآخر بابتسامتها الملائكية
ووجهها الشفاف لتقوده إلي ضفاف الجنة الموعودة.
الدين والجنس والفن والزواج والمرأة والسينما والمال والحب والعشق والخيانة
والإلهام والوحي والعبقرية.. وهذا الخط من النور الشاحب الذي يندفع من
الكرة الصغيرة في أعلي المسرح.. ينطلق علي الشاشة..
وجدا وعشقا وثورة وتمردا وهمسا وضجيجا وحياة وموتا.
كل هذا قاله فيليني في فيلمه الرائع الذي سيظل منارة فنية شاهقة تقود كل
السفن التائهة في بحر السينما.. الي بر الأمان، وهذا ما حاول روبي مارشال أن يقوله في اعداده الموسيقي والغنائي لهذا
الفيلم الكبير الذي لا ينسي.
وليست هذه هي المرة الأولي التي ينقل فيها عمل درامي لفيليني الي السينما
الامريكية بأسلوب غنائي راقص.. فقد سبق لبوب توس أن اقتبس رائعة فيليني
الاخري »ليالي كابيريا«
الذي يروي مغامرات مومس رومانية من الدرجة العاشرة..
طيبة القلب الي درجة السذاجة..
مؤمنة بعدالة السماء لدرجة الوله..
في غابات المدينة ووحشية الرجال، وقد حول
»فوس« هذه المغامرة الايطالية الصرفة إلي مغامرة أمريكية..
تحمل اسم »شاريتي الحلوة«
ولعبت القديرة شيرلي ماكلين الدور الذي لعبته العبقرية جوليتا
ماسينا »زوجة فيليني«
والذي كتب الفيلم من أجلها.
لم يعلق فيليني بشيء علي فيلم »شاريتي الحلوة«
كما لم يتسن له الوقت الكافي لمشاهدة العرض
المسرحي في برودواي لمسرحية »تسعة«
التي ينقلها مارشال الآن للسينما.
بالطبع ومن أبسط الأمور ألا نقارن بين الفيلمين لأن كل منهما قد اتخذ
أسلوبا مختلفا للتعبير عن الفكرة الأساسية التي طرحها فيليني ولكن من الحق
والعدل الاعتراف بأن الجهد الذي بذله مارشال في هذا الفيلم كان جهدا خارقا
للعادة استغل فيه كل ذكائه ومهارته في عالم الاستعراض السينمائي ليقدم لنا »ابهارا«
مصيريا علي الطريقة الامريكية وليحاول استغلال قدرة ممثلاته علي تقديم
جوانب أخري شبه مجهولة من متحفي الكبير.
بينلوبي كروز.. في دور العاشقة العالية الساذجة..
التي تعميها عواطفها عن رؤية واقعها والتي
تمثل الحساسية الشعبية العفوية في الحب والتصرف..
كان لها قصب السبق في دورها المليء بالانفعالات والاحاسيس.. وحتي في
»نمرتها« الراقصة الشديدة الحسية والتي تفنن مارشال في اظهارها عن طريق
مونتاج شديد البراعة واضاءة عبقرية تعابير كروز..
بعد محاولة انتحارها..
وانكسار عينيها..
ولهفة عشقها..
من أجل ما قدمه الفيلم من مشاهد الي جانب
مشاهد »ماريون كويكارد«
التي سبق أن ادهشت عندما جسدت دور »اريث ببان«
هي تدهشنا اليوم بدور زوجة المخرج الذي
لعبته في السينما »انوك ايميه«
والتي تتراوح عواطفها بين الفنان الذي تعشقه والزوج الذي ترفضه.. اداء
عبقري آخر..
لممثلة تصعد درجات المجد بقوة وتحكم.
صوفيا لورين.. تعود في دور الأم..
وتقدم مشهدا غنائيا..
تضيئه الشموع يؤكد أن النجوم الحقة..
من الصعب أن ينطفيء بريقها..
مهما اشتدت الأنوار الأخري حولها كيدمان..
تقدم جسدها الممشوق..
ووجهها المشتعل في حارات روما الضيقة لتضيء شهاب آخر في هذا الليل الطويل.
الحقيقة أن كل من النساء السبعة..
اللائي احطن بالمخرج في أزمته..
كن مشاعلا حارة تبعث الدفء والحرارة والقوة في هذا »الديكور
الكبير« الذي احاط به المخرج نفسه وجعله منطلقا لأحلامه وعجزه وأمله
الصريع.
ورغم أننا أمام فيلم تلعب الموسيقي والغناء فيه الدور الأول ويشكل
الاستعراض العمود الفقري الحقيقي له.. فان روب مارشال نجح في أن يقدم لنا
خطوطا قوية وساحة عن عالم السينما وكواليسه وظروفه.. وكل ما يحيط به.
بالطبع فنحن لسنا أمام معالجة درامية شبيهة مثلا بالمعالجة الكبيرة لعالم
السينما التي قدمها »فنسنت مينللي« في رائعته الشهيرة »الشرير والجميلة«
الذي اعتبره أهم وثيقة فنية قدمت عن هوليوود وعالمها الأسود..
المختلط بالزرقة والدم.
انما نحن أمام فيلم موسيقي غنائي في آخر الأمر..
اعتمد علي وقائع واحداث فيلم كبير يعتبر من
التحف السينمائية التي لا تنسي.
ومن وجهة النظر هذه يمكن الاشادة دون تحفظ بنجاح هذا الفيلم..
ومحاولته الشجاعة لتقديم معادل
»موسيقي« مقنع.. لكل القضايا الدرامية والانسانية العامة التي طرحها فيلم
فيليني.
بقي أن اتوقف أمام اداء »داني دي لويس« واحد من أعظم ممثلي عصره وأكثرهم
التزاما وفنية وموهبة والذي قدم في طريقة ادائه تحية خاصة بأسلوبه لكل من
مارسيلو ماستروياني الذي لعب دور البطولة في الفيلم الدرامي.. وإلي فدريكو
فيلبني نفسه..
باداء ذكي بارع..
يؤكد حقا أن داني دي لويس واحد من أهم ممثلي جيله..
ان لم يكن أهمهم جميعا.
تسعة فيلم يجمع بين المتعة والفن يطرح أفكار ويقدم رؤي..
ويتيح لنا رؤية أعظم
نجوم السينما في العالم اليوم وفق منظار خاص ومختلف دون أن يسيء لحظة
واحدة.. الي كبار الممثلات اللائي لعبت الادوار هذه الادوار في الفيلم
السابق.
ويبقي أن أقول تحفظا واحدا..
ربما كان ينطلق من معيار شخصي..
وهي أن ما من مخرج في الدنيا أو ممثلة في العالم يمكنهم أن يقدموا لنا
مشهد اكتشاف أطفال الكنيسة لمفهوم الجنس علي شاطيء البحر من خلال العاهرة
العجوز البدينة التي ترقص أمامهم رقصة نشوانة وهم يصفقون مهللين صارخين
باسمها »ساراجينا«.
ساراجينا هذه.. كما قدمه فيلبني ستبقي ساراجينا الي الأبد في ذاكرتنا وفي
روحنا وفي أحساسنا، ولا يمكن لأي عبقري سينمائي مهما اشتدت موهبته ان
ينسينا اياها.. ستظل ساراجينا مرتبطة بفيلبني وسينماه..
ولن تستطيع كل أنوار السينما في العالم أن
تطفيء وهجها أو ذكراها.
أخبار النجوم المصرية في
04/02/2010 |