حين يتناول فيلم سينمائي تلك الاختيارات الحياتية التي لا يمكن الجزم
بكونها
صحيحة أو خاطئة وانما تخضع بالاساس لقدرة من اختارها علي دفع
ثمنها يصبح الامر
مفتوحا علي احتمالات كثيرة لنهايات لا حصر لها لكن أجملها هي تلك النهاية
التي وصل
اليها "جيسون ريتمان" في فيلمه "عاليا في الهواء "وثمن الاختيار في الفيلم
هو "الموت
الاجتماعي " مقابل التوحش الفردي والعزلة الاختيارية التي تجعل من اختار
طريقا معينا للنجاح من خلالها يحلق وحيدا في سماء نجاحه دون
علاقة واحدة حقيقية
فيما ينحصر حضوره في وجوده المادي بعدما تخفف من امتداده العاطفي والروحي
في نفوس
الاخرين .
واذا كان من الصعب العثور علي شخص لا يرغب في النجاح في العالم فان
هذا النجاح تبقي له تجلياته الواضحة والمحددة في المجتمع
الامريكي الثري باختياراته
المتعددة كسبل للوصول الي هذا النجاح والتي تعتمد في اغلبها علي القدرة
والكفاءة
الفردية ولكن كثيرا من الحالات التي يصل خلالها الناجحون الي طريق مسدود
بعد توافر
كل تجليات النجاح واستحالة وجود السعادة تستحضر النكتة المصرية
المعروفة حول
الطبيب الصعيدي الذي خرج من غرفة عمليات الولادة ليواجه الزوج الذي ينتظر
طفله
وزوجته قائلا له : لقد اضطررنا الي التضحية بالام والجنين من أجل نجاح
العملية
!
ولكن أكثر ما يميز العقل الامريكي هو القدرة علي مراجعة الذات والقناعات
والثوابت مهما كان رسوخها في المجتمع ولعل فيلم "عاليا في
الهواء " الذي قدمه
المخرج الشاب جيسون ريتمان يندرج ضمن منظومة المراجعات الفنية
المتأملة للحالة
الامريكية من الداخل ولا يتعلق الامر هنا بنمط الحياة في المجتمع الرأسمالي
والذي
يحول الشخص الي مفترس أو ضحية بقدر ما يشير الي نمط حياة يتحول بموجبه
الانسان الي
جزيرة منعزلة لا وجود لها الا علي خريطة نفسه وبالتالي ينعدم
وجوده في حياة الاخرين
وهو حكم قاسي جدا بالاعدام الاجتماعي يصدره الشخص علي نفسه ولا ينفي فكرة
الافتراس
والتوحش في ثقافة تنظر في مراة ذاتها فقط فيملأ وجهها المراة ولا تري
غيرها في
الحياة .
ويعلن ريتمان منذ اللحظة الاولي لأحداث فيلمه عن نواياه تجاه بطله
الذي يصوره أنيقا جدا وجنتلمان لكنه الي تماما كما الميكانو
بمونتاج سريع وحركة
منتظمة ومحفوظة بكل تفاصيلها وبتكنيك تسجيلي تسرب اليه بمهارة وذكاء ونعومة
يحكي
البطل عن نفسه مجيبا علي سؤال استنكاري لواحد من ضحاياه حول هوية من يأتي
علي غير
انتظار ليفقد شخصا عمله وامله في الحياة
.
ويلتقط الفيلم خيطا خطيرا يتضمن مقدمات صحيحة علي مستوي الشكل طبقا للثقافة
الامريكية الحاسمة في سعيها نحو النجاح بالمعني المادي حيث
يحدد البطل "ريان بينجام
" -
ويقوم بدوره جورج كلوني – هدفا ويسعي اليه بكل اخلاص وهو الوصول الي
رقم محدد
في الطيران عبر الاراضي الامريكية وهو عشرة ملايين ميل ليكون بذلك سابع
أكثر
الاشخاص في العالم استخداما لخطوط الطيران وهو هدف يبدو كبيرا بل ومذهلا
بالنسبة
للاخرين ولكنه في حقيقته بلا معني خاصة اذا فقد في سبيل تحقيقه كل شيء
فالرجل يمكث
في منزله فترة لا تزيد عن شهرين او ثلاثة في العام ويقضي حياته
متنقلا عبر المطارات
المختلفة حتي انه يتصرف بالية واضحة وحسابات دقيقة تماما في المطارات ويفقد
دوره في
عائلته ولا يتزوج ولا يستطيع اقامة علاقة حقيقية واحدة في حياته ويقوم
بعمله بحرفية
وبلا احساس حيث يطرد الموظفين من شركاتهم نيابة عن مديريهم بحيث يقلل من
مخاطر
الدعاوي القضائية التي يمكن للمطرودين رفعها وفي الوقت ذاته
يحاول اقناعهم بامكانية
البدء من جديد في عمل اكثر امتاعا ومهما كان منطق مساعدة هؤلاء المطرودين
في اكتشاف
انفسهم يبدو الامر شبيها بانتقام يثأر بموجبه بينجام من الاخرين باعدامهم
اجتماعيا
وانسانيا فحيث تفقد عملك تفقد هدفك الحقيقي في الحياة لتصبح
بينجام اخر والفكرة
هنا تستدعي الافلام التي تدور حول مجرم متسلسل تعرض لازمة تركته مشوها
ومريضا فاصبح
سفاحا يثأر من المجتمع بالقتل والتعذيب المستمرين لضحايا لا يملكون من
امرهم شيئا
واذا كان بينجام في هذه الحالة مجرم ومريض بشكل قانوني تماما
فان شرعيته تحوله الي
مفترس حقيقي في ظل الية عمل فيصبح سمكة كبيرة كلما افترس اسماكا أكثر وفي
المحاضرات
التي يلقيها يؤكد ذلك بعبارة صريحة مشيرا الي ان الناجحون يجب ان يكونوا
مثل سمكة
القرش
.
وفي هذه النقطة بالتحديد يكشف نص الحوار الذي وضعه المخرج والكاتب جيسون
رايتمان عن شفرة جديدة لمجتمع يحكمه القانون وبالتالي يحميه من
التحول الي غابة بلا
قوانين لكنه يحوله الي "قاع محيط " بكل ما في قاع المحيط من قوانين تجعل
السمكة
الكبيرة تزداد حجما وقدرة علي الافتراس فيما يزداد السمكة الصغير صغرا
ويفقد هدفه
في محاولته للهروب من الافتراس ورغم اناقة وجمال مشاهد رايتمان الا ان
الصورة
الحقيقية خلف هذه المشاهد دموية بالضرورة ومرعبة وباردة خاصة
وقد فقد البطل بينجام
روحه وتحول الي الة منفردة ومنعزلة ولكن لانه قانون النجاح علي جثث الاخرين
فان
الدوائر تدور علي الجميع بما فيهم بينجام الذي يحذره مديره قائلا "احذر
فانت لم
تتحول الي ديناصور بعد " لذا يأتي دور الصغيرة القادمة من
الجامعة (ناتالي ) –
وتقوم بدورها انا كندريك - بفكرة جديدة تنتمي لعالم اكثر برودة والية
وانعزالية ولا
تمثل بفكرتها الجديدة - التي تتلخص في استخدام الاتصال المرئي لفصل
الموظفين خطرا
علي تحقيق هدفه الرئيسي وهو السفر لعشرة ملايين ميل فقط –
ولكنها ايضا تمثل خطرا
علي مهنته بالكامل وهنا لا يجد بينجام سوي ملجأ واحدا .. انها تلك المرأة (اليكس ) –
وتقوم بدورها فيرا فينجام - التي تشبهه في كل شيء من نمط الحياة الي
مفردات
الاثارة الجنسية التي تحدث من خلال الكروت البلاستيكية التي يحملها كل
منهما سواء
تلك الخاصة بالامتيازات في شركات الطيران أو الفنادق أو شركات
السيارات وهي علاقة
غير مسئولة بالمرة وليس لأي طرف فيها حق علي الاخر يتم الاتفاق فيها علي
اللقاء –
فقط – في الوقت المتاح او التراسل عبر
الايميل اذا كان هناك وقت فراغ وبلغة جنسية
اقرب الي الفجاجة لكنها مريحة لطرفين يلبي كل منهما احتياجه في
لحظة لينسي بعدها
يلجأ بينجام الي المرأة التي تقاربه في العمر – الاثنان في منتصف
الثلاثينات –
ويذهب اليها في بيتها ليكتشف الحقيقة المرة
فالمرأة التي اعتقد انها بلا حياة
حقيقية – مثله – لديها بيت وأطفال وزوج وهي نفسها تفتح باب
المنزل له حين يرن الجرس
فيسألها زوجها من الداخل عن الطارق فتلخص حالة بينجام بكلمة واحدة قائلة :
انه شخص
تائه !.
تكتمل خيوط الازمة للرجل الذي بدأ الفيلم متألقا في عمله كاملا في حياة
الاحلام التي يعيشها كما يتصور الكثيرون فهو يكتشف انه تائه
ويصدق فقط في تلك
اللحظة ما قالته الفتاة التي تنتمي لعالم اكثر توحشا وبرودة لكنها تملك
دفئا
وايمانا بالاسرة العلاقات الانسانية الحقيقية ويصدق ثورتها علي حياته
الخالية من أي
صلة بشرية ويلتفت لكلمات الشقيقة عن كونه مجرد اسم في العائلة بلا وجود
حقيقي
ويحاول ان يقوم بدور ما حيث يتردد زوج اخته الصغري في الزواج
منها في ليلة الزواج
نفسها وعلي حافة المأساة تصارحه الاخت الكبري بالحقيقة قائلة :اذا كنت تريد
دورا في
حياة شقيقتك فهي فرصتك ويقنع بينجام عريس الاخت في حوار ملهم بجدوي الزواج
وكأنه
يحاول ان يقنع نفسه وهو الكافر بهذه المؤسسة من البداية وهو
المحاضر البارع حول
التخفف من اوزان العلاقات في حقيبة السفر عبر مشوار الحياة ويسعد بدوره في
الزواج
ويأتيه الخبر بانتحار احدي المطرودات من قبل المتدربة الجديدة التي استقالت
فور
علمها بالخبر ليعاد النظر في نظام الطرد عن بعد مرة أخري
ويستعيد بينجام عمله علي
جثة المنتحرة ويحقق حلم العشرة ملايين ميل ليكتشف في النهاية ان ذلك الهدف
او الحلم
كان بلا معني فيشرع بالتبرع به لشقيقته وزوجها لكن عودته للسفر تحول دون
ذلك فقد
حان الوقت لاستئناف الرحيل من قبل شخص وصل لحد التورط حياة
المطارات ببساطة
شديدة وبلاغة بصرية لا تتضمن أي تكلف او افتعال او غموض قدم الشاب "ريتمان
" فيلمه
الثالث بعد "شكرا علي عدم التدخين" و"جونو" وان اعترف هو نفسه في حوارات
صحفية ان "عاليا
في الهواء " مشروعه الاول من حيث الاهتمام وبدء الكتابة وهو مأخوذ عن رواية
للروائي الامريكي والتر كيرن بنفس الاسم وقد رشح المخرج الشاب (33عاما )
لاوسكار
احسن مخرج سابقا وهو مرشح الان لاوسكار احسن مخرج واحسن
سيناريست عن الفيلم نفسه
بالاضافة الي تواتر ترشيح جورج كولوني كأحسن ممثل عن دوره في العمل
.
الجزيرة الوثائقية في
01/02/2010 |