على الرغم من أنها تكاد تكون اللفظة الأكثر شيوعاً في كل ما يجري الآن على
الساحة الفلسطينية، سواء لجهة علاقة قطاع غزة بالعالم، أو المشكلات التي
تثيرها مع الجارة الشقيقة مصر، أو لناحية الشكوى الدائمة لدولة الإحتلال
منها، فإن «الأنفاق»، لم تجد لها مكاناً ملحوظاً بعد، في عموم الإنتاج
السينمائي الفلسطيني، سواء تفسيراً أو تحليلاً، أو تبريراً، وحتى دفاعاً أو
نقداً أو رفضاً، وهو أمر يثير الاستغراب حقاً!
ليست «الأنفاق» سراً، أو أنها لم تعد كذلك، ولا هي قيد الشك، أو الانكار،
ولو للحظة، ومن أيّ أحد. فالجميع يتفق على وجودها، وتعددها، وتنوعها،
وتشابكها.. وإن كانوا لا يتفقون على أهميتها وضرورتها وإيجابياتها، أو
سلبيتها وخطورتها، ومقدار وشكل تأثيرها على الحياة في قطاع غزة، الذي يبدو
ظناً وعياناً، على السواء، أنه يعاني من حصارات متعددة ومتراكبة.
يعرف الفلسطينيون «الأنفاق»، ويستخدمونها لأغراض شتى، ويعرف المصريون
«الأنفاق»، ويخططون لقطع الطريق أمامها، إن لم يكن بقناة مائية، فعلى الأقل
بجدار فولاذي ينغرس في الأرض عميقاً. ويعرف الإسرائيليون «الأنفاق»، ولا
يكلّون ولا يملّون من قصفها، مرة بعد أخرى، إن لم يكن اجتياحاً بعد آخر..
كأن الجميع يعرفون «الأنفاق»، تماماً في الوقت الذي يبدو أن لا أحد يعرف
عنها شيئاً.. كأنما هي حاضر غائب.. فلا هي تتعالى أمام الأنظار، كما
«الجدار» الفاصل، مثلاً، والذي نال نصيبه من أفلام فلسطينية وإسرائيلية،
فضلاً عن أجنبية. ولا هي تتمطى ساعات طويلة أما طوابير المنتظرين، كما
«المعابر»، التي كانت لها حصتها من أفلام أخرى. ولا هي تنكفئ خلف أسوارها
الصارمة، كما «المعتقلات»، التي يبدو أنها ستبقى المعادل المزمن للنكبة،
وما وّلدته، وتولِّده من نكبات تالية، ولها نصيبها على ضفتي الخندق!
وحدها «الأنفاق»، تبقى سيرة محمودة محروسة، من قبل طرف، ومرجومة ملعونة، من
قبل أطراف.. ولكن ليس ثمة من يجوس في ثناياها، وينقل لنا أدنى صور عن
تفاصيل حياة تدور في تلافيفها.. فقط ستأتينا أخبار متناثرة ناجزة؛ كأن نعرف
أن هناك من مرّ عبرها، ومن هؤلاء أعلام وسياسيون وحزبيون، عرب وأجانب. أو
نعرف أن هناك ما يمرّ خلالها، ليس سلاحاً أو غذاء أو دواء أو دواب، فقط،
على ما يقول مناصروها، بل أيضاً دخان ومشروبات روحية ومخدرات وحلى ومجوهرات
وسقط متاع، من هواتف خليوية وأثاث وملابس وسيارات فارهة، كما يقول
معارضوها!
وعلى الرغم من أن هناك من ينظر إلى «الأنفاق»، باعتبارها اختراعاً معيشياً
لاستجرار أسباب الحياة ومستلزماتها، طالما انغلقت المعابر، وسُدّت الدروب..
فثمة الكثير من ينقلها إلى مسرح السياسة، والسيادة الوطنية، والأمن القومي،
كما لدى مصر، من جهة، وإلى حيثيات شق عصا الطاعة، والخروج عن الاجماع
الوطني، كما لدى السلطة الفلسطينية، من جهة أخرى، فيما تؤكد حركة حماس، من
جهتها، أن هذه «الأنفاق»، شرايين مقاومة.
لن يعباً فيلم «تذكرة من عزرائيل»، للمخرج الشاب عبدالله الغول، وهو فيلم
وثائقي، مدته 30 دقيقة، بكل هذا الكلام، ولا يقترب من هذه المفارقات
والتناقضات، ولا يغوص في شيء من هذا الجدل.. بل يبدو أنه لا يريد سوى إمضاء
وقت يجوس في أحد «الأنفاق»، واستكشاف عالمها، والتعرف على بعض تفاصيلها،
وحياتها، وحياة العاملين فيها..
هنا لن نرى أياً ممن يمرون عبر «الأنفاق»، ولا شيئاً مما يتمّ تمريره
عبرها.. هنا سنرى أولئك الذين يقومون بحفرها، ونتعرف إليهم، ونعيش معهم،
وفق سيناريو تلقائي، يبدأ معهم انطلاقاً من لحظة صباحية، حيث نرى سيارة
متهالكة، وشبان يلملمون بعضهم البعض.. يأتون من حارات في مدينة، ومن زواريب
في مخيم.. من بيوت إسمنتية أنيقة البناء، ومن غرف متهالكة، بأسقف من صفيح..
يتنادون من بيوتهم، ويذهبون، كأنما هم في ورشة عمل..
الكاميرا ترافقهم في سيارتهم المتهالكة. وهم مجموعة من الشباب في مقتبل
العمر، يدقون أبواب العشرينات من العمر. ما بين ضحكات ومزاح، وألفاظ لا
تخلو من بذاءات الشارع.. إلى استفسارات عن واقع الحال، وآخر الأخبار؛ هل
ثمة قصف إسرائيلي، أم لا!
ننتهي إلى خيمة، سنعرف سريعاً أنها تقبع على فوهة نفق. وكما عمال ورشات
البناء، يشرعون في التحضير للانغماس في أجواء العمل.. استبدال الملابس،
وتجهيز الأدوات.. والكاميرا تستعرض تفاصيل سيبدو الكثير منها غريباً
ومثيراً للدهشة: معدات بدائية، تم اختراعها على حافة الكهرباء والاتصالات
السلكية.. رافعات بأسلاك، تتحول إلى مصاعد تنقل الأشخاص، والأشياء، كما
تتحول إلى قاطرة.. هواتف أقرب إلى «أنترفون» منزلي.. تتحول إلى أدوات
تواصل، وتوجيهات.. عبوات بلاستيكية مقورة.. تصبح دلاء تنقل التراب، وما
يحتاجه العاملون في الأنفاق تحت الأرض!
تهبط الكاميرا مع العاملين.. ثمة أمتار هابطة محمية بجدران استنادية من
أخشاب متهالكة.. نهبط إلى قاع النفق، حيث يبدأ العمل اليومي، الذي يبدو
أنهم اعتادوه، وعرفوه، وخبروه.. ضجيج محركات.. صراخ ونداءات متبادلة.. طقوس
ومفردات تنتمي إلى عالم خاص.. والكاميرا تستمر في المسير مع العاملين في
إلتواءات النفق، وامتداداته، متوغلاً تحت التراب.. المسافات تتالى، واللهاث
يعلو..
يبدو أن الشباب ماهرون في استخدام معداتهم، على بدائيتها، ومحترفون في
إجراءات العمل، ربما لاعتيادهم على ممارسته. نرى العمال وهم يقومون بالحفر،
يستخدمون المجارف القصيرة الذراع، وأدوات الثقب التي يستخدمها الحدادون
والنجارون، عادة لثقب الحديد أو الخشب، ولكنها هناك للحفر. يملأون الدلاء
بالتراب، ويقطرونها عبر النفق، قبل سحبها إلى أعلى، ونثرها في جوانب
المكان، بالقرب من الخيام، وبين البيوت.
من الواضح أن هذا اليوم مخصص للاحتفاء بحضور الكاميرا، والمخرج. ففي اللحظة
التي يصلون فيها إلى عمق النفق، وحيث ينبغي أن يستمر العمل بالحفر، وإزاحة
التراب، ونقله إلى الخارج.. وبعد تجربة عملية لكيفية القيام بالحفر،
واستخدام الأدوات، تنعقد جلسة حوارية، همّها الأساس هو الكشف عن جوانب
هامة، وتفاصيل غنية، من وقائع حياة يتم إنفاقها في «الأنفاق».
أحد العاملين، يشير إلى فتحة في جدار النفق، ويقول، هنا تمّ الاصطدام مع
«خط» آخر، بما يعني نفق آخر، لنعلم أن الأنفاق متقاربة، بحيث تشكل شبكة،
تتداخل وتنفتح على بعضها البعض، أحياناً، وهو الأمر الذي يمكن أن يتحول إلى
خطر على حياة العاملين.
ويشرح عامل آخر عن «القادوح»، وهو ما كان الإسرائيليون يغرسونه في الأرض،
حيث يعمدون إلى الحفر بعمق يتراوح بين 25 30 متراً، ومن ثم يضعون متفجراً
لخلخلة الرمل، الذي سرعان ما ينهار على العاملين في «الأنفاق»، ويقتلهم تحت
الردم.. ويؤكد أن «القادوح»، هو أخطر ما يواجه العمال في «الأنفاق»، وأن
العمال يقومون بوضع الخشب، تلافياً لانهيار الرمل عليهم..
ومع تأكيدهم، جميعاً، على أن من يعمل في حفر النفق، يخاطر بحياته يومياً،
و«يقطع تذكرة من عزرائيل»، إذ لا يعرف هل سيخرج منه أم لا!.. لن يكون من
الغريب قولهم إنهم إنما يعملون في «الأنفاق»، بسبب الحاجة، والبحث عن لقمة
العيش، خاصة وأن فرص العمل معدومة، ولا خيار متاحاً سوى في هذا العمل
القاتل.. «هذه الشغلة كلها موت».. يقول أحدهم. وهذا العمل المحفوف بالموت،
لا يمنح كبير العمال أكثر من 30 دولاراً، لقاء حفر المتر الواحد، ولا يمنح
أمهر العمال أكثر من 120 شيكل في اليوم، بينما لا يزيد أجر العامل المساعد
عن 70 شيكلاً في اليوم.
صورة أخرى، ومغايرة، يقدمها هذا الفيلم الوثائقي؛ صورة تقترب من واقع
الناس، وحياتهم، بعيداً عن القول السياسي، وجدالاته، وبعيداً عن الشعارات
ومقولاتها.. في محاولة تسعى إلى كشف المسافة الفاجعة بين هذا وذاك، ومرارة
أن يستل البعض لقمتهم ممهورة بخاتم «ملك الموت»!
المستقبل اللبنانية في
31/01/2010
جوليا... «لا يذاع لها سر» في يوم الاثنين
فجر يعقوب
ها نحن نقف ثانية وفي طابور غير مرئي أمام صفحات كتاب مرئي تتاح فيه
القراءة للجميع. لم تعد هناك فاصلة محببة، أو اغراق في تعليلات فيها منجاة
للنفس، سردا وتقلبا واشتباكا أو حتى تخففا من أعباء ثقيلة يفرضها ايقاع
الحياة الجديدة (الملتبسة). فلو ضغط أحد منا أزرار الريموت كونترول في أي
ليلة، وليس يوم الاثنين فقط، لأضاع بوصلة التفرد، فالصفحات في هذا الكتاب
متشابهة، ولا تتيح قول أشياء مختلفة صبيحة اليوم التالي الذي يلتقي فيه
الأصدقاء، والعيّارون، والشطار. هل نصدق مارشال ماكلوهان عندما تحدث عن
«الرجل ذو البعد الواحد» صاحب الحضارة الشفوية المقبلة في كتابه (مجرة
غوتنبرغ ) أم نسترخي لشروط القراءة في الكتاب الخاص بالجميع من دون أن ننبس
ببنت شفة؟
«أربعاء الرماد» مثلا...
تقدم محطة « فوكس موفي « المتخصصة بعرض الأفلام الأميركية على مدار الساعة
بين الفينة والأخرى طائفة من الاعلانات الترويجية لأفلامها بغية جذب أكبر
عدد ممكن من المشاهدين لها، وبالتالي للاعلانات التجارية الكثيرة، التي
تقوم بوظيفة تقطيع أوصال هذه الأفلام دون هوادة، وسط ترقب المشاهد وحيرته
وصبره في أحيان كثيرة. فهو مغلوب على أمره في نهاية المطاف، ويريد أن يكمل
الفيلم الذي بدأ بمشاهدته، ولكن مامن حيلة بيديه، فهو ينتظر المحطة لتفرغ
مافي جوفها من اعلانات كي يستمر الفيلم في دورانه، وتستمر معه السهرة
المحبطة.
مرة قامت « فوكس موفي « بتقسيم أيام الأسبوع إلى مسميات شاعرية وجذابة، من
مثل «أربعاء الغموض» و«ثلاثاء العنف»، وهي مسميات بدا واضحا أنها تقع في
خانة الجذب والاثارة التي لايمكن الاستمرار من دونها على مايبدو، خاصة وأن
المحطة المذكورة تشتهر أيضا بتبنيها غير المشروط لكل أفلام الأكشن والثريلر
والرعب.
مع تبدل الحاجات النفسية للمعلن وللمستهلك على حد سواء خيل إلينا في أوقات
سابقة أن المحطة المذكورة « كفت « عن استخدام هذه المسميات، اذ لم تكشف عن
فاعلية في سوق الأفلام، وبخاصة أن هذا النوع من المحطات يمكنه الاعتماد على
نوع خاص من المشاهدين وهو بلا شك آخذ بالازدياد، اذ لا يمكن لاثنين أن
يختلفا على أن نوعية الأفلام التي تعرض لها يمكنها بسهولة أن تستقطب أعدادا
كبيرة من المشاهدين من دون عناء يذكر، أو «فخاخ ترويجية اعلانية « من أي
نوع، فالحال هكذا، وهو ليس بحاجة إلى استبيانات آراء خاصة. فنظرة واحدة إلى
البرامج التلفزيونية التي تهتم بحصاد شبايبك التذاكر وسباق الأفلام في
الصالات العالمية تكشف من دون جهد يذكر أن الأفلام الأميركية تحتل المقام
الأول، وبالتالي يمكن الجزم ببساطة أن محطة « فوكس موفي « ليست بحاجة إلى
هذا « التفخيم « الاعلاني، لأنها يمكنها الاطمئنان إلى تزايد أعداد
المشاهدين من حولها باستمرار مضطرد.
في الآونة الأخيرة واظبت المحطة على اطلاق اعلان يقع في الخانة نفسها، وهو
اعلان يمكنه هذه المرة أن يسبب حيرة وارباكا للمشاهد. فعلى صوت مذيع شجي
يمكن لنا أن نتابع كادرات متتالية للممثلة الأميركية المعروفة جوليا روبرتس
في لقطات مختلفة من أفلام شاركت فيها، وهو يقرأ أبياتا من قصيدة (أراك عصي
الدمع) لأبي فراس الحمداني :(أراك عصي الدمع شيمتك الصبر / أما للهوى نهي
عليك ولا أمر.... نعم أنا مشتاق وعندي لوعة /ولكن مثلي لايذاع له سرّ).
بالطبع مصدر الاثارة كما يذهب الاعلان أن واحدة مثل جوليا روبرتس « لايذاع
لها سر « إلا يوم الاثنين حيث ستقوم المحطة المذكورة بعرض مجموعة من
أفلامها على المشاهدين. تبدو القصيدة الحمدانية المشهورة هنا واقعة فريسة
استخدام خاطئ من المحطة المذكورة. والأكثر من ذلك هو الالتباس الذي يمكن أن
تثيره محاولة المطابقة بين الصورة والكلمات في أذهان المشاهدين الذين
لاينقصهم بالتأكيد مصدر تشويش اضافي يمكن أن تمارسه عليهم « فوقية «
التلفزيون وتسطيحه لمكونات الوجود من حوله. فالتوظيف المتلفز الغريب لقصيدة
نزعم أنها شاعت كثيرا بين الناس لأسباب مختلفة - ليس من بينها استخدامها في
الكثير من مناهج التعليم العربية فقط، فغناء السيدة أم كلثوم لها من أكبر
مسببات شيوعها يؤكد أن هذا الجهاز الالكتروني لايمكنه أن يحقق لنفسه هوية
متوازنة. فهو خليط عجيب من المتنافرات والأضداد، وقد أخذ يتحول مع الوفرة
الفضائية الكبرى إلى كتاب مرئي لكل الأجيال من دون أن يكون بالضرورة خير
جليس. فقد بات مطلوبا من هذه الأجيال أن تراعي فكرة أن كل شيء يمكن أن يحدث
في الواقع يمكن وبشيء من الخفة والسهولة واليسر أن يتحقق عبر شاشته المرئية
أيضا، وهذا قد يفسر بالطبع لجوء هذا «الكتاب» إلى تقليب صفحات كثيرة في
حركة تلفزيون الواقع، وكل تلك البرامج المستنسخة عن الفكرة الأم.
لا نعرف ماهو السر الذي قد تخفيه جوليا روبرتس وراء ابتسامتها العريضة.
أفلامها عادة لاتخفي سرا من أي نوع. هي أقرب إلى البوح العلني والصريح الذي
لايحتمل المداورة، ولايستخدم رموزا في تحايله على المشاهدين حتى تقوم «
فوكس موفي « بالتحايل عليه عبر قراءة قصيدة أبو فراس الحمداني.
يوم الاثنين هو اختيار المحطة لتضفي نوعا من الغموض على مادة فنية متاحة
للجميع، ولن يكون هناك فارق لو اختارت أن يكون موعد اذاعة « أسرار جوليا «
هو يوم الأربعاء أو السبت أو الخميس. بالتأكيد لن يكون هناك فارق من أي
نوع.
المستقبل اللبنانية في
31/01/2010 |