عندما تكون لديك فكرة فلسفية عميقة تريد أن تقدمها للسينما،
فمن
الأفضل أن تبحث عن إطار تشويقي يجذب الجمهور، ويصل بالمعني من أقرب الطرق،
ولكن ذلك لا يزيد عن الخطوة الأولي لأن علي المعالجة لابد أن تراعي وصول
الفكرة
بدون تعقيد أو غموض،
وأن تلتزم البناء المشوق الذي يطرد النوم عن عين
المتفرج، أما فيلم "The Box"
أو كما عرض تجاريا تحت اسم الصندوق القاتل فقد
حقق فشلاً مزدوجًا حيث بدت المعالجة والسيناريو المأخوذ عن قصة قصيرة في
حالة
مؤسفة من الاضطراب،
ولذلك ظهر الفيلم كمن يرقص علي السلم، ضاع التشويق رغم
وجود بذرة صالحة وجيدة،
وتاهت الفكرة وسط ضباب من الأحداث والتفريعات
والتفاصيل،
وبدا كما لو أن صناع الفيلم قد اعتمدوا علي اسم "كاميرون دياز"
وحدها لإنقاذ
الموقف، وهو أمر لا يكفي بالتأكيد لكي تصمد علي مقعدك حتي النهاية.
بعد جهد كبير، وتركيز فائق، تستطيع أن تستنتج -
ولك في النهاية أجر
الاجتهاد -
أن فكرة الفيلم محورها التجربة والاختيار
سواء بالمعني الديني أو
الفلسفي، التجربة في المسيحية تساوي بالضبط معني الابتلاء في الإسلام حيث
يجد
الإنسان نفسه في موضع الاختبار والامتحان،
ويفترض أن
يختار ما يعتقد أنه
الصواب في ضوء قيمة وتعاليم دينه، والتجربة والاختيار هما محور الفلسفة الوجودية
حيث يتعرض الإنسان لعشرات المواقف،
والاختيار لحظة فارقة يمكن أن تغير المسار
إلي الأبد، وفي "الصندوق القاتل"
الذي أعدله السيناريو والحوار مخرج الفيلم
"ريتشارد كيلي"
هناك حديث صريح عن مسرحية "الجحيم"
لـ"چان پول سارتر" التي
يمكن أن تعتبر مسرحياته "تجارب" يمر بها أبطاله، وعليهم دائمًا أن يصلوا
إلي قرار صعب، وفي هذه المسرحية
يعتبر الفيلسوف والأديب الفرنسي أن الجحيم هو
عيون الآخرين، وفي الفيلم ستجد شخوصًا هائمة تطارد بطل الفيلم
وزوجته في أماكن
مختلفة، ويسددون تجاههم نظرات ثابتة ومستمرة، ولكن ما هي التجربة في فيلم
"الصندوق الكامل"؟
في عام 1976، وفي منزل صغير بمدينة "ريتشموند"،
يزور رجل مشوّه الوجه
يدعي "ستيوارد" (فرانك لانجيلا)
الزوجة "نورما" (كاميرون دياز)
التي تعمل كمدرسة، كان قد أرسل إليها صندوقًا معلقًا به جهاز
غامض، فلما التقاها أخبرها أنها لو حركت زرّا بالجهاز
سيموت شخص ما في مكان
ما، ومقابل هذه الحركة البسيطة ستحصل وزوجها الذي يعمل في وكالة
"ناسا"
واسمه "آرثر لويس" (چيمس مارسدن"
علي مليون دولار، ولأن المدرسة مهددة
بالاستغناء عنها، وفقد وظيفتها، ولأن هناك فواتير والتزامات جديرة بالدفع
لمنزلها ولرعاية طفلها الوحيد "والتر"،
فإن التجربة أو الاختبار هنا هو هل
ستقبل بالضغط علي الزرّ بصرف النظر عن النتائج أم ستقول لا؟ ويشترط الزائر الغامض
في كل الأحوال عدم إخبار أحد سوي الزوج "آرثر".
البذرة جيدة جدًا،
وتصلح بالفعل لتقديم عمل تشويقي مميز، وفكرة الصندوق لها دلالة رمزية واضحة
تتجاوز مظهره أو طبيعة عمل الجهاز بداخله،
وسيكتشف الزوج عند فك الجهاز أنه لا
يوجد شيء بداخله، كما أن شخصية الزائر الغامض
"ستيوارد" ثرية ومليئة
بالإيحاءات، ستسأل نفسك مثلاً عما إذا كانت الشخصية تجسيدًا جديدًا لفكرة
الشيطان بمعالجة عصرية ومختلفة؟ ورغم كل هذه المقدمات التي
توحي بعمل هام، إلاّ
أنك سرعان ما ستجد تفصيلات عن ظروف "نورما"
التي بترت أصابع إحدي قدميها ورغبة
زوجها في إجراء عملية لها،
وتفصيلات أخري عن عمل الزوج ضمن فريق وكالة الفضاء
الأمريكية "ناسا" لإعداد كاميرا خاصة في سفينة الفضاء "ڤايكنج"،
وتفصيلات
أخري عن فشل الزوج في تحقيق حلمه بأن يصبح رائدًا للفضاء، ويتم كل ذلك عبر
انتقالات تقليدية كأنك تشاهد مسلسلاً
تليفزيونيا يأخذك من حجرة إلي مبني إلي
مزيد من الأماكن المغلقة.
لن نأخذ وقتاً طويلاً في متابعة تردد
الزوجين في الاختيار، بل أن الزوجة ستضغط علي الزر بسرعة وسط حوار مع
زوجها،
ويفترض أن ذلك سيسبب مقتل سيدة في مكان آخر،
وبعد قليل سيظهر "مسترستيوارد"
حاملاً معه المليون دولار،
ولكن الزوج سيتنبه فجأة، وسيطارد سيارة الزائر
الغامضة ليحصل علي رقمها،
وسيعطي الرقم لوالد زوجته الذي يعمل بالمصادفة
ضابطاً
للبوليس، وهنا فقط سنكتشف أن "ستيوارد"
يراقب "آرثر" ونورما من خلال اتباع
كثيرين يعملون لحسابه في أماكن مختلفة، ويلاحظ دائماً
طوال هذا الجزء أن السرد
لا ينقل توتراً للمتفرج الذي سينتظر طويلاً
قبل أن يعرف شيئاً عن لغز مستر
"ستيوارد"، والملاحظ أيضاً
أن الموسيقي التصويرية استخدمت بطريقة بدائية
تذكرك بأفلام الثلاثينيات من القرن العشرين.
الأهم من ذلك، أنك لا
تستطيع أن تفسر اختيار الزوجة ضغط الزر بسهولة، ولن تستطيع أن تفسر رغبة الزوج في
جمع معلومات عن الزائر بعد أن تسلم المليون دولار وليس قبل ذلك، والمدهش
فعلاً
أن الزوجين لن يعرفا بالجريمة التي نتجت عن ضغط الزر إلا في وقت متأخر
للغاية،
ولكن المشكلة الأكبر ستظهر في النصف الثاني من الفيلم حيث ستختلط الأمور،
فالمستر ستيوارد يظهر في مكان متسع وضخم أقرب لديكورات أفلام
الفضاء، و"آرثر"
يخوض تجربة تنقله إلي هذا العالم ليختار سكة النجاة من بين
ثلاثة طرق، ثم يسقط
من جديد في حجرة نومه بجوار زوجته مما يعطي تأثيراً
كوميدياً، ونكتشف فيما بعد
أنه رحل عن عالمنا إلي العالم الذي يعيش فيه "ستيوارد"
ثم عاد إلينا من جديد،
وتتداخل هذه التجارب الروحية مع معلومات تكشف سر "ستيوارد"
الذي كان يعمل في "ناسا"،
ولكن اصابته صاعقة شوهت وجهه،
ورغم موته إلا أنه عاد من العالم الآخر
لكي يسيطر علي مئات البشر الهائمين،
ولكي يقوم بوضع البشر في تجربة الصندوق
بتكليف من كائنات لم ولن نعرف عنها شيئاً!
تمخضت الفكرة الأولي فولدت
احداثاً مضحكة من فرط سذاجتها، لم يكن الفيلم محتاجاً
لكل هذه التفصيلات لكي
يظهر رجل غامض يقدم صندوقاً فيه من الرمز أكثر مما فيه من الواقع،
والأعجب
أنك لن تفهم هل أنت أمام شيطان أم في حضرة رسول يريد أن يكشف النفوس
البشرية
الأنانية التي تريد المال حتي لو كان المقابل أن تضغط زراً
يمكن أن يقتل إنساناً
آخر؟ كيف يمكن أن يكون "ستيوارد"
مشرفاً علي التجربة والاختبار في حين أنه
شريك في التحريض علي القتل؟ "ستيوارد"
أيضاً يمارس التفلسف عندما يقول إنه
اختار فكرة الصندوق لأنها تلخص حياة الإنسان الذي يعيش في صندوق (منزل)
ويستخدم
صندوقاً في تنقلاته (سيارة) ثم يحمله إلي القبر صندوق.
والحقيقة أنه حوار
ساذج جدير بفيلم
عقدته الأساسية عن رجل أحرقته صاعقة فمات ومع ذلك عاد إلي الحياة
بنصف وجه مشوه فقط؟!
يفترض أن "نورما" وزوجها فشلا في الاختبار وقاما
بالضغط علي زر الجهاز، ولذلك حق عليهما العقاب الذي يتمثل في أن يقتل الزوج زوجته
كوسيلة وحيدة لانقاذ الطفل "والتر"
من العمي والصمم (!!) ثم يتوجه "ستيوارد"
إلي أسرة أخري لكي تخوض تجربة الصندوق من جديد،
يريد الفيلم الساذج أن يقول إن
البشر يفشلون دائماً في الاختبار، وأنهم عندما يختارون لا يرون إلا مصلحتهم،
عليك أن تستنتنج هذا المعني بصعوبة وسط الأحداث المضطربة التي لم يخفف من
تأثيرها
أداء "كاميرون دياز"
لدور مختلف تخلت فيه عن جمالها المعروف لتظهر كسيدة عرجاء
تعاني من عاهة في قدمها،
ولم يخفف من التأثير حضور فرانك لا نجيلا رغم غموض
شخصيته لدرجة أنها ظهرت أكثر شراً
من ضحايا اختباره، وبدا كما لو أن التجربة
الأليمة في الصبر علي استكمال الفيلم،
وليس في معاناة أبطاله مع الصندوق
الغامض!
روز اليوسف اليومية في
24/01/2010 |