ما إن نال فيلم المخرجة
الدانماركية سوزان بيّر «شقيقان» جائزة الجمهور في «مهرجان
ساندانس السينمائي
الأميركي» في العام 2004، حتى قفز الأميركيون سريعاً لشراء حقوق أفلمته
بلكنتهم
وأعرافهم وخبثهم. بدا واضحاً أن النص الأصلي الحميمي والآسر للأخلاقي الآثم
داخل
أسرة أوروبية بسيطة، الذي امتاز بتجييره الاتهام الموصول
بالسياسات الغربية منذ
هجمات أيلول ضد الإسلام الآسيوي، وتحديداً الأفغاني الذي لم يُكافئ أفضال
مَنْ
أنقذوه من براثن الشيوعيين السوفيات أيام غزو العام 1979، جاء (النصّ
الأصلي) كأنه
إنقاذ قدري يتماشى والموضة الهوليوودية في مقاربة الوحش الملتحي، الذي جلب
الهمّ
والنُقْصان إلى قلب الأمة الكونية وعائلاتها، التي تتبارى على
رفع الأشرطة الصفراء
عند أبواب بيوتها، كإشارات للمُقاتل الغائب.
الخطر الداخلي
بعد كّم الأفلام
المفعمة بدعائيتها المتهافتة حول أفغانستان، وبعدها العراق وحربيهما،
التفتت
الشركات الكبرى إلى وجوب مقاربة الخطر المحدق بالجبهة الداخلية، المتمثل
بالانكسارات النفسية والشخصية للجنود العائدين، وخيباتهم
وعنفهم وتجاوزاتهم الأعراف
والقوانين. إنهم ليسوا ضحايا حرب، بل امتداداتها المخفية التي تسري في عروق
التجمّعات المختلفة في ذلك البلد القارة، الذي يهدّد سلامتها وتطامناتها
المحروسة
بالدستور الخالد. إن السرجنت براندون كينغ، بطل فيلم «ستوب
لوس» للمخرجة كمبيرلي
بيرسي، ومواطنه العسكري المتقاعد هانك ديرفيلد (تومي لي جونز) في «في وادي
إيلاه» (2008)
لبول هيغس، ورفيقيهما المجنّد أنتوني سوفورد (جاك غيلّينهال) بطل «جارهيد»
(2005)
للبريطاني سام منديس، والسرجنت ويل مونتغمري بطل «الرسول» (2009)
للإسرائيلي
الأميركي أورين موفيرمان، والموظّف الأب ستانلي فيليبس (جون كوزاك) في «غريس
رحلت» (2007)
لجيمس سي. شتراوس، والبحّار ألفيس فالدريز (الممثل المكسيكي غايل غارسيا
بيرنال) بطل جريمة «الملك» (2005) لجيمس مارش، ومعطوب حرب
العراق وبطل المارينز
ويليام مكفيرسون (فال كيلمر) في «مؤامرة» (2008) لآدم ماركوس. هؤلاء جميعهم
وجوه
متعددة لصيرورة حروب الجبهة الداخلية، التي يفترض فيها سيادة الأمان قبل أن
يجد
أولياء أمورها أن حروب تنقية العالم من الفظّ الملتحي، لم
تحقّق سوى نقل ويلاتها
إلى بيوت الأميركيين أنفسهم.
هنا، نقابل جنوداً في ريعان شبابهم يغالون
بعنفيتهم، وآباء مكلومين بفقدان فلذاتهم، وأزواجاً قضت أمهات
أطفالهم في الأراضي
الغريبة، ومجندين مهووسين بملء فراغ أيام الحروب الطويلة، بمزيد من الجلافة
والدموية والتآمر، في مقابل محن ضباط يكلّفون بنقل أخبار مقتل الأبناء إلى
أهاليهم،
ما يشكّل «نعوة» جماعية لعائلات ارتهنت وطنيتها بتقديم قرابين للحروب
الاستباقية،
التي تحوّلت الى استنزافات مستدامة. بيد أن فيلمي بيّر
(الأوروبي) وشيريدان (المتأمرك)
يأتيان بقول جديد، عماده أن ساحة وغى أخرى فُتحت بين جدران تلك البيوت،
وهي أخطر بكثير من باحات المقاصف وخمرها، التي يجد العائدون من جحيم الحروب
فيها
تفريغاً معنوياً للبؤس النفسي الذي حملوه بعد سلسلة الدم التي
مرّت أمام ضمائرهم.
في تلك الغرف العائلية، يكون الزنى المفترض بين زوجة منتظرة وصديق زوج
يستغل الفراغ
العاطفي وتابعه الجنسي كي ينال حصته من الجسد الأنثوي المعذّب بالوحدة، أو
ذلك
الذكر الذي تخلّف عن ركب القتال، فيجد ضالته في مفاتن الخطيبة
الملتهبة بفاجعتها
الجنسية والناقصة الاكتفاء، بطلاً في تأجيج العداوات والضغائن والغيرة بين
أطراف
العلاقات الآثمة التي يكرّسها انفتاح أخلاقي يقترب من العهر الاجتماعي.
الخطيئة
يذهب نص المخرجة الدانماركية بيّر (مواليد العام 1960) إلى الألعن
والأصدم: إلى
الشقيق الأكبر وشقيقه الشاب الأرعن وزوجة الأول المحصّنة بابنتيها، لتصوغ
حكاية عار
عائلي لا يتحمّل الثلاثة مغباته وتبعاته. فهذه مركونة بفسادها إلى الملتحي
الآسيوي،
الذي أجبر البكر ميكيل على السفر إلى أرض أفغانستان لمحاربة
ظلاميي «طالبان» وأحفاد
أسامة بن لادن، وترك المساحة العائلية التي فَضَّت بإعلان اختفاء الزوج
(وربما
موته) إلى اعجاب متبادل تولّد من كره مبطّن بين سارة (كوني نيلسن، التي
اشتهرت في
«مصارع»
البريطاني ريدلي سكوت) ويانيك (نيكولاي لي كاس). ان القبلة التي يسرقانها
غفلة عن العَيْب، هي الشرخ الذي يتعمّق لاحقاً مع شكوك الجدّ الواعي إلى
حقيقة أن
نجله الذي أُطلق سراحه من السجن بعد سرقة مسلّحة، ليس بالمؤتمن
على شرف عائلة
شقيقه. عليه، تُجاور المخرجة بيّر بين الزلّة غير الكاملة بعد أن يتبرّأ
الاثنان من
الذهاب إلى المواقعة الجنسية الآثمة، والإرغام القهري الذي يمارسه مقاتلو
«طالبان»
على ميكيل، لتصفية رفيقه المجنّد الدانماركي لان، «لاعتبار له لدينا» و«هو
ثقل على
أكتافنا» و«مضيعة للمؤنة والماء». بعد تخييره إن كان يرغب في العيش أم لا،
ينتصر
البطل إلى الاشتراك بجريمة الحرب الجماعية، فيهشّم رأس ابن
جلدته على وقع صراخ
احتجاجه في وجه القائد المعمّم، أن القتيل «لديه وليد جديد».
هل ميكيل جبان، أم
إنسان عملي وواقعي؟ هل معرفته أن لا خلاص من القتلة سوى الإذعان إلى قرار
موت
يمارسه بيده ضد رجل أستأمنه، هي حكمة متأخّرة ولّدتها حالة رعب لا مناص
منها؟ يذهب
ميكيل إلى ذنبه الأكثر غوراً في ضميره، بعد أن يفلح رجال المارينز الأميركي
في فكّ
أسره ونقله إلى بلده. يعجّل توجّهه إلى شكوكه بسريرتي الزوجة
والشقيق. وعلى الرغم
من أن صاحبة «الأشياء التي فقدناها في النيران» (2007) و«بعد الزيجة» (2006)،
ورائعتها «قلوب متفتحة» (2002)، ترمينا فجأة في السؤال العصي على القبول،
والذي
يوجّهه ميكيل إلى شقيقه يانيك: «هل ضاجعتها؟»؛ فإن مشكلة نصّها من بعده
ينقلب إلى
البحث عن التبرير لكل الإثم الذي لم يكتمل بين الكنَّة
والشقيق، والجريمة الكبيرة
التي ارتكبها ميكيل وأخفاها عن الجميع، بما فيها قيادته العسكرية التي
اعتبرته
بطلاً. بدا أن المخرجة بيّر تَخلْص في خطابها إلى أنه لولا المتوحش
الملتحي، لما
آلت أمور هذه العائلة المتطامنة إلى انحطاطها، الذي يُكلَّل
لاحقاً باعتقال ميكيل
إثر تهديده الشرطة بمسدس مسروق، وحجره في مشفى نفسي، حيث نراه في النهاية
يعترف
لسارة بحقيقة الدم المسفوك على كرامته كعسكري وأب.
تسييس
لا ريب في أن
أميركية نسخة المخرج الإيرلندي شيريدان، على خلاف الأصل، فرضت على مجنّد
المارينز
سام (أداء محكم لتوبي ماغواير) تقديم خسارات أقل لملتحي «طالبان»، في مقابل
مجانية
المعلومات التي تبرّع بها صنوه الدانماركي، حين يُعلّم
«الإرهابيين» أصول استخدام
القاذف المضاد للطائرات (يتحدّث هؤلاء هنا بالفارسية، بينما يرطن مقابلوهم
في النص
الدانماركي بلغة عربية ركيكة، ملئية بشتائم من نوع «يا حقير» و«جبان» و«ابن
العاهرة»، كتورية عن سوقيتهم وجلافتهم). الجليّ هنا أن البطولة
العسكرية لسام غير
مسموح لها بالانتقاص في ساحة المعركة، وإن سَفَك عليها بيديه دم مواطنه.
نرى
تعبيراً مكانياً لها في المشهد الختامي، حيث صوّر شيريدان بطله وزوجته غريس
(ناتالي
بورتمان) وسط منفسح قريب الشبه بمشاهد أفغانستان، حيث دفن ذنبه
الدموي وهو يعترف
بالجريمة المخفية.
لئن حاولت المخرجة بيّر أن توزّع بعدالة خيوط المحنة
الأخلاقية على أفراد العائلة جميعهم، فإن اقتباس صاحب «قدمي اليسرى» («أوسكار»
أفضل
ممثل في العام 1989) و«باسم الأب» (1993) خضع لاعتبارات النجومية المعهودة،
فبَان
ميله إلى تضخيم مساحة الشقيق تومي (جاك غيلّينهال)، الذي قُدم
ككيان مهزوز وصدامي
ومقصي، قبل أن يتحوّل إلى طهراني يسعى إلى غفران داخلي من خطيئة ضعف أكثر
منها
تعمّد في ارتكاب فاحشة. ويأتي هذا التضخيم على حساب الزوجة غريس، التي بقيت
كما في
الفيلم الأصلي كيان حُسن يدور في فلكه، ظن الشقيق الأكبر الذي
يكبر مع كذبة ابنته
البكر حول مواقعات أمها مع عمها، في مقابل حاجة الشاب إلى ملء فراغ عائلته
المُغيّبة بشخص الأم غريس.
يبقى أن شيريدان، المعروف بتسيس أفلامه، وقع في
المغالاة الواضحة بشأن دور «الإرهابي الآسيوي»، الذي مدّ فساد
نياته كي تضرب في قلب
العائلة المتوارثة للعسكراتية، وتسعى إلى قتلها، من دون الإشارة إلى
المجتاح
ودمويته، التي تناسى أنها كثيرة الشبه بنظيرتها الإنكليزية التي غلّت
سابقاً بأهله
في إيرلندا. يقول سام بلوعة، وهو يذرف دموع اعترافه بجريمته: «لا أعرف من
الذي قال
إن الأموات وحدهم يعرفون نهاية الحرب. أنا رأيت نهاية الحرب،
والسؤال: هل أحيا
ثانية؟».
)لندن(
السفير اللبنانية في
22/01/2010 |