حين يصبح البحث عن حياة أفضل انتحاراً جماعياً يكون العنوان فيلم
مرزاق علواش «حراقة» الذي يغوص في قضية إشكالية مستمدة من راهن الجزائر:
الهجرة غير الشرعية.
في هذا الفيلم يقتفي علواش أثر «الحراقة» أو أولئك الشبان الذين
يتسللون الى اوروبا من طريق البحر تحت وطأة الواقع الضاغط في الجزائر
والأفق المسدود وغياب الفرص، بعد ان يحرقوا اوراقهم الثبوتية كي لا يتعرف
إليهم احد، منطلقين في مغامرة العبور الى الجانب الآخر... الى «الدورادو»
الاوروبي غير آبهين باحتمالات الفشل، والتي غالباً ما تكون لهم في المرصاد.
ومع هذا يبقى شعاع الامل على ضآلته اقوى. ففي الحالتين المصير واحد بين
السجن خلف القضبان، والسجن خلف حدود وطن يدفع أبناءه الى المجهول... او هذا
على الأقل ما يوحي به كلام إحدى شخصيات هذا الفيلم الذي يدور في مدينة
مستغانم على بعد 200 كيلومتر من الحدود الغربية للجزائر حول 10 شبان
يتشاركون رحلة العبور خلسة الى اسبانيا. مغامرة سيكون مصيرها الفشل بعد ان
يموت بعضهم إثر مشادات شخصية، ويُلقى القبض على بعضهم الآخر عند الحدود، ما
يبدد اي أمل.
بين الروائي والتسجيلي
وإذ يصوّر الفيلم لحظات العبور بنمط أقرب الى الأفلام التسجيلية،
يكتفي بنثرات
من العبارات حول الدافع الذي يقود «الحراقة» لخوض غمار هذه التجربة... أو
بالأحرى
هذا «الانتحار الجماعي» كما يحلو لمرزاق علواش ان يقول في حديثه
لـ «الحياة» إبإن
عرض الفيلم في مهرجان دبي السينمائي حيث نال جائزتي لجنة التحكيم الخاصة
ولجنة حقوق
الإنسان. ولا شك في ان هذا التوصيف يسيطر على الفيلم كله، الى درجة يغيب
معه اي
توازن بين أحلام الشبان بغدٍ أفضل وانكسار هذه الأحلام.
فالانتصار في البداية
والنهاية للواقع وقسوته... والحلم يبقى سجين هذا الواقع، ولا يكاد يخرج على
طول زمن
عرض هذا الشريط عن إطار فكرة جميلة دارت في رأس «الحراقة»... وكأن هاجس
تبني خطاب
إدانة الهجرة غير الشرعية، كان أقوى عند علواش من البحث في
الأسباب وإدانة الواقع
المزري. فهل السبب أن الفيلم مدعوم من وزارة الثقافة الجزائرية، وبالتالي
كان لا بد
له من ان يساير الخطاب الرسمي الذي يندد بـ «الحراقة» ويبتعد من تشريح
الواقع؟
«ابداً»، يجيب علواش، «لا علاقة لدعم الدولة بالخيار الذي سرت عليه على
طول
الفيلم. فأنا منذ البداية لم أشأ أن أصنع ميلودراما. صحيح ان الجمهور يحب
النهايات
السعيدة، ولكن الواقع هو من القتامة بحيث لا يمكن ان افتح اي نافذة للنجاة
عند فعل
انتحاري من هذا النوع. اما سبب عدم غوص الفيلم في الأسباب التي
تدفع الشباب الى
المغادرة فلأنها أمور بديهية تتعلق بالحياة القاسية التي يعيشونها». ويضيف:
«ظاهرة «الحراقة» ظاهرة دراماتيكية لا بد من إيجاد
حل لها على صعيد الدولة. وأعتقد ان كل
ما يكتب او يصوّر عن هذا الموضوع لا جدوى منه إن لم يكن هناك
تحرك رسمي. فنحن
كفنانين لا نستطيع ان نقدم الحلول. جلّ ما يمكن ان نصنعه هو ان نكون شهوداً
على
الحدث».
محاكمة من الخارج
ولكن، كيف يمكن لمخرج جزائري يحمل الجنسية الفرنسية ويعيش في الخارج
ان يحاكم
الشباب الجزائري على الحلم بغد أفضل؟
يجيب علواش: «لم أحاكم الشباب الجزائري. إنما أشهد على واقع مأسوي.
كان في
إمكاني ان أُظهر انهم نجحوا في مسعاهم، لكنني اشتغلت على وثائق ملموسة،
وقدت بحثاً
حول الموضوع... قرأت ما كتب في الجرائد، وما حُقق من دراسات، وكلها تشير
الى ان
غالبية «الحراقة» مصيرهم الفشل... ولم أكتف بهذا، إذ كنت على
تماس مع أبناء
مستغانم. تلك المدينة التي باتت حلماً لكل طامح في فرصة للهروب من الجزائر.
ولا
أبالغ إن قلت ان كل من صادفته هناك يعرف عن ظهر قلب كيف تسير تلك المغامرة
الانتحارية. بعض الشبان الذين التقيتهم كان مرّ بهذه التجربة
وأخفق. وبعضهم كان
ينتظر الفرصة للعودة مجدداً».
وللتدليل على كلامه حول توق الشباب الجزائري للخروج خلف حدود الوطن،
يستعين
علواش بتجربته في هذا الفيلم حين أعلن ان التصوير سيتم بين الجزائر وفرنسا.
عندها
تدفقت مئات الطلبات على المشرفين على «الكاستينغ»، وعينهم طبعاً على فرنسا.
«حين
اخترت الممثلين، قلت لهم عليكم ان تعطوني كلمتكم انكم لن
تغادروا الفيلم ما ان تطأ
أقدامكم الارض الفرنسية. وبالفعل عمل الجميع في الفيلم حتى النهاية. ولكن
لم يعودوا
جميعهم الى الوطن، إنما فضّل اثنان منهم البقاء في أرض الأحلام».
وفي الرحلة الى أرض الاحلام، رسم مرزاق علواش موزاييكاً للمجتمع
الجزائري.
فالشبان العشرة لا ينتمون الى البيئة الاجتماعية ذاتها. منهم الجامعي،
ومنهم
الريفي، ومنهم الملتحي... نماذج وضعها علواش في هذه الرحلة
جنباً الى جنب ليقول ان
هذا التوق لعبور حدود الوطن توق واحد عند الشباب أجمعين في الجزائر.
ولكن، لماذا حشر اللغة الفرنسية في الفيلم، هل لأسباب تتعلق بالإنتاج
المشترك؟
يجيب: «في الجزائر هناك فئة من الشباب صارت الفرنسية جزءاً من نمط عيشهم،
ولا يمكن
تغييبها عن الفيلم ان كنت اريد ان اصور كل الفئات. وبالتالي لا علاقة
للإنتاج
المشترك بالامر، خصوصاً ان الشريك الفرنسي اشترط عليّ صنع نسخة
فرنسية بحتة من
الفيلم لتعرض على التلفزيون الفرنسي». ويضيف: «في الدعاية الغربية، يُقال
اننا
اليوم في قرية عالمية. ولكن في الواقع هناك اسوار غير مرئية بُنيت امام كل
من صدّق
هذا الكلام. عشت شبابي مع فكرة انني عندما اريد ان أذهب الى
الخارج، أحمل حقيبتي
وأسافر. ولكن الوضع تغير. وشباب اليوم باتوا امام حاجز مسدود. لذا تجدهم
ينجذبون
الى اي بوابة للنجاة على رغم انهم يدركون حجم المخاطرة، وأن الموت قد يكون
لهم في
المرصاد».
مجتمع شاب - سينما شابة
اهتمام مرزاق علواش بالقضايا التي تهم الشباب الجزائري ليس جديداً.
فهو من اول
المخرجين الجزائريين الذين التفتوا الى هموم هذه الشريحة الكبيرة في
الجزائر في
فيلمه الاول «عمر قتلتو» حين صوّر آثار البطالة وأزمة العيش عند الشباب.
واليوم إذ
يعود في «حراقة» الى محاكاة هموم الشباب من خلال مناقشة موضوع
حيوي يُصادف اي شاب
جزائري، لا يقف عند هذا الحدّ، إنما يكمل الطريق من خلال فيلم جديد - هو
اليوم في
مرحلة المونتاج - يتناول الأفق المسدود الذي يواجه الشباب، وذلك من خلال
حكاية فرقة
مسرحية تصطدم بقسوة الواقع... فما سبب هذه العودة القوية الى
أفلام الشباب بعدما
جال بين «الرومنطيقية الثورية» في «مغامرات بطل»، والأفلام السياسية في
«باب الواد
سيتي» و «العالم الآخر»، ودنا من العلاقة بين ضفتي المتوسط في «سلاماً يا
ابن العم»
و «شوشو»، واقترب ذات يوم، حتى من المسألة
اللبنانية في فيلم صوّر أجزاء كبيرة منه
في بيروت بعنوان «بيروت/ الجزائر للذاكرة»؟
«ربما لأبقى شاباً»، يقول علواش ضاحكاً، ويضيف: «كيف لا أصنع افلاماً
عن الشباب
وأنا انتمي الى بلد يتجاوز العنصر الشاب فيه 75 في المئة؟ في الجزائر
الشباب عصب
المجتمع، ولا بد من ان نمنحهم أهمية اكبر في أفلامنا، فنسلط الضوء على
همومهم
ومشاكلهم كي لا ينجرفوا الى الظواهر الثلاث المخيفة التي تعصف
بالبلد: «الحراقة»
والاعتصامات والعمليات الانتحارية».
بعد جولة المهرجانات بين البندقية وفالنسيا (حيث ربح جائزة المهرجان)
ودبي
ونامور وأميان ومونبولييه، يبدأ فيلم «حراقة» عروضه في الصالات الفرنسية
الشهر
المقبل. فهل ينتظر علواش إقبالاً كثيفاً على الفيلم؟ يجيب: «حين حققت «حراقة»،
لم
يكن هدفي الوصول الى الجمهور العريض. كنت اريد ان اعبر عن
مسألة خطيرة تشغلني.
وأعتقد ان الفيلم سيلاقي صدى طيباً حين يبدأ عروضه في صالات السينما
الجزائرية
الآخذة بالانحسار. وهذه مشكلة أخرى تواجه السينمائي الجزائري».
الحياة اللندنية في
22/01/2010 |