ثلاثة أفلام جميلة تبدأ
عروضها التجارية اللبنانية بعد ظهر اليوم. متفاوتة هي في
المستويين الجمالي
والدرامي، لكنها منسجمة والمعنى الإبداعي لصناعة الأفلام. متناقضة في
مقاربة
المسائل الإنسانية والوجودية، لكنها متشابهة في اختيارها الإنسان الفرد
وحكاياته: «الزمن الباقي» للمخرج الفلسطيني إيليا
سليمان في «سينما سيتي» (الدورة)، «كتاب
إيلي» للأخوين ألبرت وآلين هيوغ في «غراند أ ب ث« (الأشرفية)
و«غراند كونكورد» (فردان)
و«غراند لاس ساليناس» (أنفة) و«إسباس» (جونيه) و«غالاكسي» (بولفار كميل
شمعون)، و«عالياً في الهواء» (Up In The Air)
لجايزون رايتمن في «غراند أ ب ث«
و«غراند كونكورد» و«غراند لاس ساليناس» و«سينما سيتي» و«غالاكسي».
«الزمن
الباقي»
تأجيلٌ تلو آخر، أصاب موعد إطلاق العروض التجارية اللبنانية لـ «الزمن
الباقي» للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان. لم تُعرف الأسباب الخفية لهذا
التأجيل.
إشاعات عدّة يُمكن بثّها هنا وهناك، لكن
المطّلعين على خفايا العلاقات القائمة بين
الموزّعين والمنتجين والسينمائيين يُدركون أن شيئاً عفناً حدث
بين أصحاب العلاقة
الخاصّة بهذا الفيلم. بالنسبة إلى المُشاهدين، لا يهمّهم الأمر ربما، لأنهم
متشوّقون إلى مشاهدة ثالث الأفلام الروائية الطويلة لسليمان. سمعوا وقرأوا
عنه
كثيراً. عرضه في إطار «مهرجان السينما الأوروبية» في بيروت في
كانون الأول الفائت،
كان موفقاً للغاية. بات كثيرون مهتمّون بهذا النوع من الأفلام العربية
قادرين على
مشاهدته بدءاً من بعد ظهر اليوم، وإن في صالة واحدة.
لا بأس. الأهمّ من
التأجيل، على الرغم من إزعاجه محبّي السينما الجدّية وهواتها والمهتمّين
بها، كامنٌ
في أن الفيلم بات في المتناول التجاري. منذ مشاهدتي إياه في الدورة الأخيرة
(أيار
الفائت) لمهرجان «كان»، كتبتُ عنه مراراً. هذا فيلم ممتع. يثير
في المرء رغبة جامحة
في النقاش، النابع أولاً وأساساً من جمالياته الواضحة. يحرّض على الكتابة
والتحليل.
يدفع إلى التمرين على تفكيك النصّ
السينمائي وإعادة رسم ملامحه المختلفة. هذا فيلم
جميل. إيليا سليمان بارعٌ في التقاط النبض الإنساني اليومي، من
دون فذلكة وادّعاء.
من دون ابتذال. لا يستخدم مفردات النضال بشكل عبثي، ولا يسقط في فخّ
الخطابية.
انغماسه في شؤون الحياة الفلسطينية في دولة
إسرائيل لا يمنعه من إيفاء الصنيع
الإبداعي شروطه السينمائية البديعة. انتقاده السلوكين الفردي
والجماعي للفلسطينيين
لا يقف حائلاً دون ممارسة حضوره كمخرج ذي أسلوب خاصّ به في التصوير
والتوليف
والسرد. وفي انتقاء الخبريات البسيطة، التي تعكس حيوية الناس وحالاتهم. هذا
فيلم
يُضاف إلى لائحة الأفلام الطويلة والقصيرة التي صنعها سليمان
منذ مطلع التسعينيات
المنصرمة، وإلى لائحة الأفلام العربية القليلة التي بدت تأسيساً آخر للجديد
السينمائي في العالم العربي. وهو جديد مسرفٌ في بحثه عن الجماليات
المُكمِّلة للنص
الدرامي، ومتوغلٌ في التفاصيل الفنية والتقنية والدرامية والحكائية، جاعلاً
إياها
أداة قول بصري آسر.
لا يُمكن التغاضي عن تفرّد «الزمن الباقي» عن أفلام
فلسطينية أخرى أُنجزت في الأعوام القليلة الفائتة. إيليا سليمان بارعٌ في
سخريته
ومرارته. متقنٌ كيفية الاشتغال السينمائي، شكلاً ومضموناً.
هناك من أزعجه تشديدي
الدائم على هذه الثنائية في قراءاتي النقدية الخاصّة بالأفلام عامة،
وبالأفلام
الفلسطينية خاصّة. هذه مسألة مهمّة للغاية، بالنسبة إلى الفيلم الفلسطيني
تحديداً،
لأن النضال من خلال السينما محتاجٌ إلى شكل سينمائي سليم، لا
إلى خطاب تحريضي باهت.
ما فعله إيليا سليمان دائماً، وما فعله ميشال خليفي في «عرس الجليل» مثلاً،
وما
يُمكن أن يفعله هاني أبو أسعد والجيل النسائي الجديد، المتشكّل من مخرجات
شابات
مقبلات حديثاً إلى الفيلم الروائي الطويل (آن ماري جاسر، نجوى
النجّار، شيرين
دعيبس)، امر يُفترض به أن يكون منسجماً واللغة المتكاملة في صناعة الفيلم.
لا أن
يُسمَح بإعلاء شأن الخطابة في صنيع بصري، على حساب الفن السابع وشروطه.
فيلم عن
الوجع من دون ندب. ساخر من دون تسطيح. فيه سرد تاريخي من دون أن يجعل
التاريخ
أساسياً. حاد في نبرته المنتقدة مناخ الحياة الفلسطينية، من دون ان يتغاضى
عن آثار
الاحتلال الإسرائيلي. الصمت شخصية ثابتة في أفلام سليمان.
الصور كثيفة. اللقطات
شبيهة بلوحات فنية أحياناً. الأغاني. أمورٌ منسوجة في سياق درامي ممتد من
نبكة
الـ48 إلى الراهن.
«كتاب إيلي»
هذا فيلم مختلف عن أفلام الكوارث. لعلّها
الطبيعة، أو أفعال الإنسان. الأرض مسحوقة بالدمار. ثلاثون
عاماً والحياة على هذا
الكوكب ملعونة. متشرّدون معرّضون للقتل والاغتصاب من أجل المياه. أو من أجل
لاشيء.
اللون الرماديّ قاتلٌ بجماله. الغبار يكاد
يخرج من الشاشة إلى الصالة، لبراعة
التصوير في إدخال المُشاهد إلى هذا العالم الطالع من الخراب والموت. هنا
أيضاً
لقطات/ كادرات عدّة شبيهة بلوحات فنية. اللقطات من فوق مثلاً، أو تلك
المأخوذة من
بعيد. الصراع بين الخير والشرّ حاضر، لكن في مسار درامي مغاير للمتدَاوَل.
فالأول
قاتلٌ أحياناً، إذا لزم الأمر. والثاني مسالم أيضاً،
ببراغماتية مزعجة. لكن المسألة
أبعد من هذه الثنائية بكثير. الحكاية عن بداية عالم جديد. ولادة أخرى.
انبعاث من
الرماد المنتشر في البقاع المسحوقة. هناك أكلة لحوم البشر أيضاً. الفراغات
كثيرة في
الطرقات المفتوحة على الجحيم. كل شيء غبار بغبار. والآية
المقدّسة معروفة: «اذكر
أيها الإنسان أنك من تراب وإلى التراب تعود». بعض التحوير يؤدّي إلى: «اذكر
أيها
الإنسان الجديد أنك من غبار وفي الغبار تقيم». ما حصل قبل ثلاثين عاماً
مخيف.
الحكاية المروية. المناظر. أشكال الناس وحركاتهم وسلوكهم. كلّها تؤكّد ذلك.
عالم ما
بعد القيامة. أو قبلها. أو بها. قيامة عنيفة وبشعة. الناس محتاجون إلى
خلاص. الجحيم
الأرضي لم يعد يتسع لهم. محتاجون هم إلى مخدّر غير مرئي. فكرة
الحاجة إلى آلهة، أو
قوى جبّارة، لحمايتهم من الفوضى والجنون، واردةٌ.
كبير قومٌ (غاري أولدمان)
باحثٌ، عبر أزلامه الأميين والجهلة والقتلة في آن معاً، عن كتاب واحد. قارئ
نهم.
لكنه مسحور بهذا الكتاب. صدف أن اسمه «كتاب
إيلي». وإيلي (دنزل واشنطن) مشّاء. منذ
ثلاثين عاماً يسير على قدميه حاملاً أغراضه القليلة على كتفيه.
محاربٌ شرس. فنان في
قتال أعدائه وإبادتهم، أو المتربّصين شرّاً به. يُعين الضعيف أحياناً. لكنه
مصمّم
على عدم التدخّل في شؤون أحد. ذات يوم، جاء إلى مدينة كبير القوم هذا،
كارنيجي، أو
سيّدهم. محتاج هو إلى إصلاح آلة. أراد ماء. وقع المحظور.
تماماً كرعاة البقر
القادمين من اللامكان. يدخلون باراً لاحتساء الخمر، قبل المغادرة. وقع
المحظور.
إيلي لا يرغب في إثارة الشغب. مسالم هو.
لديه مهمّة. الوصول إلى الغرب بأي ثمن.
اعتدى «زعران» عليه. أبادهم بسيفه. كارنيجي ذُهل ببراعته. أراده للبحث عن
الكتاب.
استضافه في منزله. جلب له طعاماً وماء.
منحه سريراً دافئاً. قدّم له ابنة عشيقته.
وقع المحظور، مجدّداً. الكتاب بين يديّ إيلي. بدأ النزاع. بدأت المطاردة.
هذا مزيج
من أنماط عدّة: رعاة بقر. تشويق ومُطاردة. «أبوكاليبس». خطاب ديني توراتي.
«كتاب
إيلي» خليط أشكال أيضاً. اللون الرمادي طاغ. التقاط الحالة
الناتجة من خراب الأرض
جميلٌ.
غريبٌ أمر هذا الكتاب. مساعد كارنيجي أخطأ حين تساءل أمامه عن أهمية
الكتاب. كل هذا العنف والخراب من أجل كتاب؟ نعم. من أجل كتاب، لأنه ليس
كالكتب
الأخرى. إنه خلاص العالم والبداية الجديدة للناس. جنون أم
حقائق؟ نهاية الفيلم تكشف
المسألة. في الجانب الآخر من القراءة الخاصّة بالفيلم، يُمكن القول ببساطة
إن
السياق رائعٌ. التصوير أجمل. لعبة الإضاءة والألوان. المونتاج. أداء واشنطن
تجديد
في سلوكه التمثيلي. الشرّ اللابس أولدمان عاديٌ. عرفه الرجل
سابقاً. واشنطن متمكّن
أكثر من دوره. الجديد أنه امتحن نفسه في إدارة حضوره أمام كاميرا قاسية في
التقاطها
الخراب، وواقعية في تصويرها الحدث. الخطاب الديني أساسي. لكن السينما حاضرة
بجماليات عدّة.
«عالياً في الهواء»
الكوميديا ليست كاملة في هذا الفيلم.
مشوبة هي بمنعطفات جوهرية في الحياة. وبأسئلة الوجود والعلاقات والحبّ
والعمل. جورج
كلوني متألّق في تأديته دور راين بينغهام. هذا موظّف ناجح جداً في شركة،
يُكلَّف
موظّفوها بإبلاغ عاملين في شركات أخرى قرار فصلهم من العمل.
هذا يعني أن بينغهام
مسافرٌ دائماً. اللقطات الأولى تُقدّمه رجلاً أنيقاً يُدرك أدقّ التفاصيل
التي
تُسهّل عمله: ترتيب حقيبة سفر صغيرة. ارتداء أفضل الملابس. علاقاته وطيدة
بمضيفي
الطائرات ومضيفاتها. ساع إلى تحقيق رقم قياسي في ساعات السفر
(مليون ساعة)، للحصول
على بطاقة ذهبية هي السابعة التي تمنحها شركة الطيران لمسافرين على متنها.
هذا يعني
أن حياة بينغهام مرتبطة بالسفر. لا مكان ثابتا، باستثناء شقّة صغيرة جداً،
تؤويه
عند الضرورة. الفنادق عالمه. الطائرات أيضاً. العلاقات
العابرة. لا استقرار في
المستويات كلّها: العاطفية. العائلية. الحياتية. الاستقرار الوحيد: وظيفته.
بارعٌ
هو فيها. نشيط. إنها كل شيء بالنسبة إليه. سفره الدائم أبعده، كثيراً، عن
شقيقتيه.
لا يعرف شيئاً عنهما تقريباً.
المسافة شاسعة بينهم. هذا قدر. أو ربما رغبة منه في
الاستقلال التام. في العزلة.
تنقلب الأمور رأساً على عقب، أو كادت، عند دخول
ناتالي كينير (آنا كيندريك) الشركة. لديها مشروع اقتنعت به
الإدارة: إبلاغ
المطرودين من أعمالهم قرار فصلهم عبر «إنترنت». تخفيف مصاريف السفر. تخفيف
الخسائر.
شرس هو في الدفاع عن مهنته. يريد بلوغ
مليون ساعة طيران. هذا حلمه الوحيد. تنقلب
الأمور مرّة أخرى، لكن في اتجاه مخالف. لقاؤه ألكس غوران (فيرا
فارميغا) صدفة دفعه
إلى اختبار معنى آخر لحياته. العشق وحده كاف. الجنس أيضاً. تطورات محيطة به
تدفعه
إلى الاقتناع بأنها المرأة المنشودة. لكن أمراً ما مخفيٌ. عند اكتشافه،
يُصدم
بالحقيقة. شقيقته ترغب في الزواج. الشاب المطلوب تردّد في
اللحظات الأخيرة. انتهى
التردّد. لكن راين بينغهام ضائع.
الكوميديا طريفة. حوارات لاذعة ومضحكة تمرّ
أحياناً. المناخ العام مائلٌ إليها، لكنها ليست طاغية.
الرومانسية موجودة. لكن
الفيلم، المقتبس عن رواية والتر كيرن (سيناريو جايزون رايتمن وشيلدون
تورنر)، أقرب
إلى الدراما العاطفية. لا تهمّ الأوصاف. الفيلم، بحدّ ذاته، مهمّ. أسئلته
مطروحة
بخفّة. المعالجة مبنية على مزيج الضحكة المرّة والحقائق
الإنسانية اليومية. المشاهد
الخاصّة بوظيفة بينغهام مؤلمة. إنها انعكاس حاد لواقع إنساني واجتماعي
أميركي قاس
وعنيف. ردود الفعل. الغضب والانتحار. لم يكن بينغهام مكترثاً للنتائج.
يؤدّي واجبه
المهني فقط. لم يتذكّر المرأة التي ألمحت إلى ذهابها إلى الانتحار، عندما
بلغه نبأ
انتحارها. رجال ونساء أحبطهم قرار فصلهم من أعمالهم. وظائفهم
تعيلهم وعائلاتهم.
تمنحهم استقراراً ما. هذه إشارة إلى الحالة العامة في الولايات المتحدّة
الأميركية.
أو ربما في الغرب. أو ربما في أي مكان آخر.
أنت لا تعرف متى تُطرَد من عملك. أمر
قاس. راين بينغهام مارس مهنته من دون مشاعر. انتقى كلمات
محدّدة. ألقى محاضرات
ثابتة في مفرداتها. لكن الحياة مختلفة. والعالم أيضاً.
فيلم مسلّ. سريع من دون
تسرّع. إيقاعه حيوي. شخصياته بسيطة، لكنها مليئة بتلك الأوجاع
والتحوّلات. جورج
كلوني أكثر وسامة من أي وقت مضى. حرفي بارع في تطوير اشتغاله الفني.
كلاكيت
فيروز وعاصي
نديم
جرجوره
إنها تحية. استعادة
فصول من ذاكرة لم تعد فردية أو خاصّة. مُلك الناس هي. لأنها نشأت من الناس
أنفسهم.
أو هكذا يُظَنّ على الأقلّ. أرادت ريما
الرحباني أن تتذكّر عاصي. وضعته في دائرة
الضوء. أنجزت فيلماً وثائقياً بعنوان «كانت حكاية». أعادته من
ماض عريق إلى راهن
موغل بالتعب والقرف والفوضى والجنون. معها، أطلّت فيروز. إطلالتها معتادة،
وإن كانت
نادرة. لا يُمكن استعادة هذا الماضي من دونها. لا يُمكن سرد الحكاية بعيداً
عنها.
ريما الرحباني مدركة هذا الأمر. قرّرت وأمها أن تستعيدا معاً تلك الفصول.
وجه
المرأة لا يزال كما هو. ملامحه عصيّة على الفهم. فيه وجعٌ. أو غضب. أو
لامبالاة.
نبرتها لا تزال كما هي. تتحدّث ببطء وهدوء ومن دون انفعال. تقول أشياء عن
عاصي
والأيام العتيقة. يطلّ عاصي من أرشيف قديم بال. يتحدّث بالجمع. تتحدّث عنه.
كاد
يتجاوز ذكرها. كادت تغيب في كلامها عنه.
فيلم وثائقي تقليدي. لكن فضاءه العام
أجمل من أن يُختزل بقراءة نقدية. الأسلوب المستخدم في إنجازه
عاديّ. كلام لعاصي.
آخر لفيروز. أغان مستلّة من حفلات وبروفات. المونتاج سلس. أي انه خال من
الفذلكة أو
التصنّع. حرفته بسيطة. الأهمّ كامنٌ في انتقاء الأغاني وكيفية إدخالها في
عمق
السرد.
لم أستطع تفسير سرّ هذه الملامح. المرأة منغلقة على نفسها. ليس حزناً
على عاصي، أو على زمن انتهى، أو على راهن بشع. شيء من القلق. أو ربما
الخوف. أعتقد
أنه غضب مبطّن بعناية. هذه تفسيرات شخصية، لا علاقة للنقد بها.
الفيلم استحضار
لحالة، أو لحقبات من أوقات متفرّقة. هذا أهمّ. العمل كلّه مبنيّ على رغبة
في قول
شيء جميل لعاصي الفنان. لا خصوصيات عائلية. لا تفاصيل حميمة. لا توغّل في
كواليس
الحكاية. أرادت ريما الرحباني الحكاية نفسها. فقط لا غير.
اختارت لها مقتطفات من
حوارين تلفزيونيين لعاصي، تناول فيها منهجه في العمل واشتغاله الفني. جلست
فيروز
أمام الكاميرا الجامدة. لقطة مقرّبة وأخرى بعيدة قليلاً. هذا كل شيء. صائبٌ
هو في
تحليله. يُستشَفّ تواضع ما منه أحياناً (ما بقدر أطلق على
أشياء نحن عملناها
روائع). مدركٌ اللعبة التي مارسها. اللعبة الإبداعية. بدا نصّ فيروز
مشغولاً بدقّة.
أقرب إلى التشريح. الإيجابيات كثيرة. هناك
إمكانية للمُشاهد في أن يتلاعب بالتفسير.
الخيط رفيعٌ جداً بين هناءة الاستذكار وقسوة الأيام التي مرّت. قالت فيروز
إن عاصي
ديكتاتور. كل مبدع كبير فيه جانب قامع.
«كانت حكاية». يبدأ الفيلم بأغنية عن
قصّة وضَيْعة. لكن القصّة غير صحيحة والضيعة غير موجودة. ما
الرابط بين الكذب الفني
الجميل وقسوة الواقع؟ هل الفيلم نفسه كذبة من أكاذيب الصياد مثلاً؟ لا
أتّهم أحداً.
المسألة فنية بحتة. وأجمل الفنون أكذبها.
أليس كذلك؟
كتــاب
كارلوس هـ. كْناب: «أفلام
لن نشاهدها»
هذا كتاب مهمّ. مروان
حدّاد نقله من الإسبانية إلى العربية، راغباً في تحريض المهتمّين بالفن
السابع على
قراءة نصوص سينمائية وسيناريوهات لمخرجين كبار، لم يتسنّ لهم نقلها إلى
الشاشة
الكبيرة. هناك، في الكتاب الصادر عن «وزارة الثقافة/ المؤسّسة
العامة للسينما» في
دمشق، أسماء عرفت شهرة ونجاحاً كبيرين، بفضل أفلام أخرى حقّقوها في مراحل
متفرّقة
من مساراتهم المهنية: فيديريكو فيلّيني، لويس غارثيا بيرلانغا، رافائيل
آثكونا،
خورخيه سيمبرون، آلان ريني وآكيرا كوروساوا.
في مقدمته، أشار كْنَاب إلى ان
أحداً لا ينتظر «أن يحلّ هذا الكتاب محل الأفلام التي يتحدّث عنها. لن
يتمكّن
القارئ من «مشاهدتها»، بل فقط سيكون لديه، كحدّ أقصى، انطباع عما كان يُمكن
أن
يحصل». أضاف أن الكتاب «لن يعوّض عن الفرص الضائعة» لبعض هؤلاء
المخرجين. غير أن
مسألة تقنية بحتة يجب التوقّف عندها، إذ بدا حجم اسمي المؤلّف والمترجم
أصغر من حجم
اسم كاتب التقديم تشيرازي تسافاتيني، الذي وُضع اسمه تحت عنوان الكتاب
مباشرة، بشكل
بدا، لوهلة أولى، كأنه هو المؤلِّف.
السفير اللبنانية في
21/01/2010 |