يعود المخرج السينمائي السوري ماهر كدو إلى صورة معلقة في صدر الجدار في
بيته
البحري الواقع في مدينة بانياس الساحلية السورية . ومناسبة العودة إليها
تحمل في
الواقع مشروعا وثائقيا جديدا سرعان ما يرد المخرج إلى واقع السؤال عن مصائر
أناس
وقفوا مصادفة في ذلك اليوم من أيام عام 1993 على تلال قرية ( بصيرة ) شمال
شرقي
سورية عندما كان يصور فيلمه الروائي الطويل الأول ( صهيل الجهات ) لصالح
المؤسسة
العامة للسينما بدمشق
.
في الصورة يقف المخرج كدو أمام عدسة الكاميرا السينمائية
، وهو يشير بيده إلى الأمام، وكأنه يرد الأذى عن نفسه في هذه اللحظات
الثقيلة التي
تسبق تصوير مشهد الزفاف في الفيلم الروائي ، حيث يجتمع وراء الكاميرا أكثر
من عشرين
صبية من صبايا قرية ( بصيرة ) القريبة من دير الزور . يقول كدو :" يبدو لي
مثيرا
أكثر أن أبحث بعد مرور هذه السنوات عن أصحاب تلك الوجوه التي لاتحمل ملامح
واضحة ،
فأنا أتأملها ماإن أنتهي من قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم ، وأحاول أن أفكك
هذه الوجوه
على ضوء ماقرأت أو شاهدت ، وسرعان ماأكتشف رغبة كاملة بالانمحاء أمامها ".
بالضبط
هذا مايفعله كدو وهو يخضع لاستجواب خاص بمشروعه الجديد :" فماهو مهم بنظري
هو معرفة
مصائر هؤلاء الناس الذين وقفوا للمرة الأولى في مواجهة مصوب الكاميرا
لمراقبة طريقة
الاعداد لمشهد سينمائي مبتكر في فيلم روائي ، والسؤال عن مآلاتهم الشخصية
بعد مرور
أكثر من سبعة عشر عاما على احتشادهم بهذه الطريقة
".
"
بصيرة .. نعم هي بصيرة " اسم القرية السورية ،
والاسم الذي يعلي من شأن السينمائي وهو يجنح ببصيرته نحو الفيلم الوثائقي ،
فماهر
كدو يعتبر أن قيمة الصورة تكمن في وجود هؤلاء الناس البسطاء أمام الكاميرا
وفي
مواجهتها . هنا ليس ثمة غش أو تلاعب بمصائرهم ، فهم لن يقولوا أشياء يمكن
استخدامها
بطريقة خاطئة . المصائر تكمن وحسب في ارسال تلك النظرات الحائرة إلى مشهد
يحمل قيمة
من وجوده خلف الكاميرا وليس أمامها للمفارقة ". خلف الكاميرا كان يجري
الاعداد
للمشهد وكان على المخرج كدو أن يضع كل تلك النظرات الشاردة بينه وبين
العدسة :" هذه
هي بصيرة تضاف إلى قيمة الفيلم الوثائقي كما هو مقرر أن يحمله عنوان الفيلم
".
هكذا اذن ، يستعد المخرج في أول تجربة وثائقية له لاستطلاع بصيرة والبحث في
مصائر أهل الصورة من خلال تلك النظرات المعلقة في المشهد الخلفي " مهم أن
أعرف أيضا
مصائر الفتيات اللواتي كن يقمن بالاعداد لحفل الزفاف ، فالحياة أيضا تفرض
قوانينها
ولعبتها عليهن بالدرجة نفسها . بعد مرور سبعة عشر عاما صار مهما بالنسبة لي
معرفة
مالذي كان يمكن له أن يدور بعيدا عن الكاميرا حينها من دون أن يتنبه أحد
إليه ". لم
يكن بوسع أحد باستثناء ماهر كدو – ربما – وهو يشير إلى الأمام فاردا ذراعه
معرفة
الحالة التي يرنو إليها هو الآن " النبش في مصائر الناس العاديين متعة
لايمكنها أن
تخذلك ، وأعتقد أن بصيرة يمكنها أن تبعث رسائلها ، فهي تعود بي إلى شعرية
ماهو
وثائقي ، فنحن هنا نقف في مواجهة أناس مجهولي الهوية والإقامة ، وهم
لايمتلكون سوى
هذه النظرات الفضولية الظمأى التي تبعث على الحيرة أكثر مما تبعث على
استرخاء بشري
كامل في قرية بعيدة لم يسبق لأهلها أن اجتمعوا بهذه الكثافة أمام صورة
فوتوغرافية
أو أمام عدسة كاميرا ". بالضبط تبدو هذه الجمهرة البشرية التي تقف بين كدو
وبين
العدسة وكأنها هي موضوع الفيلم ، وأن مايصور في الواقع هو فيلم وثائقي :"
لم نكن
نملك الفطنة كثيرا في تلك الأيام . كان يمكننا أن نصور هذا الفيلم قبل سبعة
عشر
عاما .. الآن الوسائط أصبحت متوفرة وأسهل ، ولكن ربما العودة بحد ذاتها
تملك مضمونا
وغنى أكبر الآن
".
بقي أن ماهر كدو المشغول بالتدقيق في الملامح السمراء هذه
الأيام ومحاولة الاتصال بها لمعرفة مصائرها ومعايشتها عن قرب :" هكذا يصبح
موضوع
الفيلم أقرب . أنا أعلم أن المعايشة ضرورية ، فمن بعد المعايشة يمكن أن
تقدح شرارة
الالهام كما يقول فلاهرتي
".
(
بصيرة ) مشروع وثائقي قادم للمخرج ماهر كدو يقوم على قراءة خاصة في " أبصار
" كل
هؤلاء الناس المعلقة في مشهد يدور وراء الكاميرا من دون أن يدور في مخيلة
أي منهم
أنه سيصبح موضوع فيلم في يوم من الأيام
.
الصورة ، موضوع حديثنا معلقة في البيت
البحري ، وكان يتحتم أن نصورها بكاميرا الهاتف النقال بعد التشاور ، ذلك
لأنها
تمتلك بعدا وثائقيا أكبر . هنا تخوننا الكاميرات الرقمية الأخرى بعض الشيء
، فقد
تودي ببعض الحيرة التي ميزت أصحابها من قبل ، ولكن كاميرا الهاتف النقال ،
ربما
تحفظ بعضها وتؤكد أن فيلما وثائقيا يمكنه أن يولد من بصيرة واحدة لا
بصيرتين
..!!
الجزيرة الوثائقية في
20/01/2010 |