الكثيرون ممن لم يعرفوا مرارة الغربة، يظنون ان الهجرة تبدأ من
الحدود، أي عندما يغادر المرء وطنه، فيما تؤكد التجربة ان البداية غالبا ما
تتشكل وتتكون في الداخل! المخرج الأميركي كاري فوكوناغا يذهب الى هذا
الرأي، من خلال التجربة التي عاشها مع مجموعة من المهاجرين اللاتينيين غير
الشرعيين ونقلها في فيلمه «بدون اسم». عنوان ملتبس، بلا شك، لفيلم يعكس هو
الآخر حالة ملتبسة. فالهجرة، بكل تجلياتها وتشكلاتها حالة غامضة عصية على
فهم سوي، تحتمل تفاسير ورؤى مختلفة، ولهذا نرى أفلاما كثيرة تناولتها، كل
منها عالجها بطريقة مختلفة ونظر اليها من منظور مختلف، وليس من المبالغة
القول ان نظرة كاري فوكوناغا تستحق التأمل لماذا؟
هو لم يستسلم لإغواء وفرة التجارب المنقولة عن الهجرة الى بلده،
فتركها كلها، وذهب في مغامرته الخاصة. ركب القطارات نفسها التي كان
المهاجرون اللاشرعيون القادمون في دول الجوار الأميركي اللاتيني الذين
يركبون سطوحها، وخاطر بحياته عندما وجد نفسه مضطرا لأكثر من مرة للهروب مع
الهاربين من قبضة رجال شرطة الحدود التي كانت تطاردهم وتشيع الذعر في
نفوسهم. عايش تجربة تهريب البشر، لكنه لم يكتف بالجزء الظاهر منها، فذهب
الى البحث في الأسباب التي تدفع هؤلاء الى ترك بلدانهم والذهاب الى
المجهول، وراح فوق هذا يبحث في الحالة الاجتماعية الناشئة إثر نمو حجم
الهجرة الى أميركا وظهور العصابات المنظمة التي كانت تستغل الناس في
الجانبين.
من خلال شاب مكسيكي وشابة من هندوراس، يحمل كل منهما قصته، اجتمعت
حكاية فيلم «بدون اسم». فالشابة الهندوراسية سايرا (الممثلة باولينا
جايتان) وافقت على مرافقة والدها في مغامرة هروبه الى ولاية نيو جيرسي
الأميركية، حيث معظم أقاربه سبقوه في الهجرة اليها، بعدما وجدت ان أسباب
بقائها في المكان الذي أحبته قد زالت. فالفقر المدقع كان سببا في دفع
والدها الى التفكير في الهجرة التي قاومها طويلا لكنه في نهاية المطاف خضع
لها، فكان عليه تحمل أعباء رحلة طويلة وخطرة، الموت فيها يترصدهم في كل شبر
منها، وهم يقطعون أراضي غواتيمالا مشيا على الأقدام وصولا الى منطقة «أل
نورت» المكسيكية حيث قطار «الرعب» بكل ما تعنيه الكلمة، الذي سيقلهم من
هناك الى حدود المدينة الحلم. في الأراضي المكسيكية كانت حكاية كاسبار الذي
انضم الى عصابات لامارس المسيطرة على منطقة تشياباس الجنوبية تتشكل، وهي
ستكون المنطلق الحقيقي لمسيرة فيلم «بدون اسم».
كان كاسبار مثالا لجيل من الأطفال الذين ترعرعوا في أحضان عصابات
لامارس، والتي امتد نفوذها من المكسيك وذاع صيتها داخل الولايات المتحدة
الأميركية. الانتماء اليها كان يعني الانتماء الى العائلة والوطن، والخروج
عنها يعني الخروج عن طوعهما. كان التفكير في أي شيء خارج حدودها يعني خيانة
كبرى تستحق الموت. وكانت هذه الكلمة سهلة التناول اعتادوا ممارستها عمليا
لأكثر من مرة. في هذه المنطقة امضى المخرج كاري فوكوناغا وقتا طويلا يرصد
المناخ الذي نشأ فيه كاسبار وصديقة المقرب الطفل السميلي، وكيف تحول الشاب
الى خائن في نظر رجال عصابته. حاول كاسبار إخفاء علاقته العاطفية بشابة من
منطقتهم لكنه فشل في كتمان سرها، فأدى هذا الى تدخل رئيس المجموعة ليضع حدا
لـ«خيانته» وذلك بقتل الفتاة خنقا. وكان على كاسبار، ومنذ اللحظة، التفكير
في الهرب من المكان الذي شهد نهاية تجربته العاطفية الأولى. أما نقطة
التقاء الحكايتين فستكون سطوح القطارات المتوجهة الى شمال المكسيك، حيث
الحدود النهائية لرحلة الهروب من الأوطان. وعلى سطح القطار الذي كان يقل
سايرا ووالدها، صعد رجال العصابة وقاموا بسرقة القليل الذي كان يحمله
المهاجرون، فيما أراد رئيسهم اغتصاب الفتاة، فتذكر كاسبار ما جرى لصديقته
وقرر الانتقام لها. كان هذا الحد الفاصل بينه وبين عصابات ستطارده بوصفه
خائنا وقاتلا رب عائلة احتضنته ورعته. وإيغالا في همجيتها ستكلف العصابة
صديقه الطفل الصغير ايل سميلي بمهمة قتله.
رغم الإحباط الذي كان يحيط بالجميع، نشأت على سطح القطار اياه أواصر
إنسانية ربطت بين سايرا وكاسبار الذي قرر المضي في الرحلة الى الأراضي
الأميركية. هذا الربط المحكم بين الحكايتين تخللته مشاهد رائعة التصوير.
بلقطات مأخوذة بعين حساسة وصلت تفاصيل المشهد العام و جسدت روعة جمال بلدان
القارة الأميركية، وأثارت بدورها أسئلة عن السبب الذي يدفع الناس الى
تركها. فالجمال هو معادل موضوعي للقبح الذي يحمله الخوف من المصير المجهول
ويتعداه الى البحث عن دور الحكومة في الحد من ظاهرة الهجرة التي تتحمل
مسؤوليته في الدرجة الأولى. الفقر هو نتاج عملي والعنف والعصابات والجهل
وأطفال الشوارع كلها نتاج سياسي اقتصادي وبالتالي هناك مسبب ينبغي تحمل
مسؤوليته وهناك، وبسبب هذا، أبرياء تقودهم مصائرهم الى الاحتكاك بعصابات أو
مواجهات مع رجال شرطة ما كانوا ليجابهوه لولا الحاجة القاهرة التي تدفعهم
دفعا الى مقابلتهم في ظروف غير متكافئة وغير مبررة. كل هذه المناخات تذكرنا
بأفلام تناولت الموضوع، منها: «مدينة الرب» لفرناندو ميرلي و«فرقة النخبة»
لخوسي باديهاس وحتى، وبسبب تركزه على الأطفال المنضوين الى العصابات
المنظمة، بفيلم الايطالي ماتيو غاروني «غومورا». وعلى مستوى التميز فـ«بدون
اسم» يمضي بعيدا في البحث عن الجوانب العاطفية في المشهد العام الذي تسوده
القسوة. كاسبار، الذي سيقتل في نهاية الشريط على يد صديقه الطفل المرعوب،
سيوفق في إقناع مهرب بشر في ايصال سايرا الى الضفة الأخرى، مضحيا بحياته من
أجلها، مقدما بذلك نموذجا ملتبسا لكائن بشري يحمل كل تناقضاته في داخله
ويتحرك وسط مناخ كريه ضاغط يدفع الناس الى ممارسة الكثير من الأخطاء في ظل
غياب كامل لأي مثال يحتذى أو يقلد. ولا يكتفي المخرج كاري فوكوناغا بالمشهد
العام بل يذهب الى التفاصيل، ولهذا جاء فيلمه الأول رائعا مشبعا، ينتمي الى
السينما الواقعية، كتب بأسلوب جميل ووفق في شد المشاهد، بفضل مهارة مخرجه
ورؤيته الواضحة. وللتذكير، أيضا، حصل الممثل أدغار فلورس، الذي لعب دور
كاسبار، على جائزة أفضل ممثل في مهرجان ستوكهولم السينمائي وكان يستحقها
بالفعل، لروعة أدائه وعفويته.
«الكوكب 51»: فيلم حركة مختلف
كما تسيطر علينا فكرة وجود كائنات على سطح كواكب أخرى واحتمالات
مهاجمتها كوكب الأرض، فان هواجس سكان «الكوكب 51» متشابهة، وخيالهم كان
يدفعهم الى تصور أشكال افتراضية لهذه الكائنات التي من المحتمل مهاجمتهم في
أي وقت، ولهذا كانوا يعملون على تقوية جيشهم للدفاع عن كوكبهم عند الضرورة.
ومع وجود هذه الأفكار، ظل إيقاع سير الحياة في «الكوكب 51» ثابتا على
هدوئه. سكانه كانوا يمارسون حياتهم بطريقة سلمية وعادية. لكن، في اللحظة
التي هبط رائد الفضاء الأميركي «تشوك» فوق حديقة منزل عائلة من عائلاته،
تغير الكثير. بالنسبة الى رائد الفضاء الأميركي، الذي نزل من مركبته حاملا
علم بلاده، الذي كان يتصور نفسه وكأنه هبط على أرض كوكب غير مأهول بالسكان،
شكلت مقابلته بعض سكان «الكوكب 51» ذوي الوجوه الخضراء مفاجأة أثارت الخوف
في نفسه فلاذ بالفرار. في المقابل دب الذعر بين أبناء الكوكب الذين استدعوا
الجيش لحمايتهم. وأثناء بحثه عن مخبأ يحميه من غضب سكان الكوكب التقى
«تشوك» مصادفة الطفل «ليم» الذي خاف منه أول الأمر، لكن صداقة نشأت بينهما
بعد حين. دفاع ليم عن صديقه شكل الحبكة المسلية لفيلم الحركة «الكوكب 51»
الذي امتاز بفكرته الجميلة الداعية الى معرفة الآخر ومساعدته اياً كان ومن
أي مكان. العمل كله سلس يذكرنا بأفلام حركة الأطفال الكلاسيكية التي تعم
فيها الحركة النشطة والمفارقة الحلوة. وجديد الشريط يكمن في تغير الصورة
النمطية لابن الأرض الذي كان دائما هو من يساعد سكان الكواكب الأخرى، أو
يظهر بصفته المدافع الأمين عن كوكبه من شرور الخطر الخارجي. أما رسالته
فواضحة وعنوانها: التسامح والصداقة يكفيان لإبعاد الشرور والأفكار السيئة
المسبقة عن الآخر مهما كان لونه وجنسه. فيلم «الكوكب 51» الذي أخرجه خورخي
بلانكو، ممتع ويستحق توصية الأطفال وعائلاتهم بمشاهدته والاستمتاع بأجوائه
المبهرة وفكرته المختلفة.
الأسبوعية العراقية في
17/01/2010 |