بعض الشخصيات الدرامية تشعر كأنها انتقلت من دفتي الكتاب، أو من على
خشبة المسرح، أو تمردت على كادر السينما، ليصبح لها امتداد واقعي في
الحياة. من بين هذه الشخصيات «أرسين لوبين»، «شيرلوك هولمز»، «جيمس بوند»،
«طرزان»، «الوطواط»، «العنكبوت»، «القرصان»، «السندريلا»، «سوبر مان»، «ست
الحسن والجمال»، «الشاطر حسن».. ولا شك أن مثل هذه الشخصيات وغيرها تعبر عن
احتياج إنساني عميق يجد لنفسه متنفسا عندما يتجسد في عمل فني، ولهذا فإن
مجلات الأطفال في كل أنحاء العالم، التي عرفناها مع بداية القرن الماضي،
اخترعت شخصيات لتداعب خيال الطفل ويتوحد معها. وعندما يكبر الإنسان لا
يتوقف عن السعي للعثور على تلك الشخصيات الخارقة، لتعيد له اتزانه النفسي،
وهكذا اخترع الفرنسيون مثلا «أرسين لوبين»، واخترع الإنجليز «شيرلوك هولمز».
«شيرلوك» يجمع بين الذكاء وخفة الظل والإقبال على
الحياة.. والعمق الذي استند إليه «شيرلوك هولمز»، منذ أن كتبه «آرثر كونان
دويل» في بدايات القرن العشرين، أنه رجل البوليس الذكي الذي يعمل خارج نطاق
الدولة، ليتمتع بإرادة شعبية تدعمه، وترى فيه صوتها، وليس صوت السلطة، بل
إنه يتيح الفرصة للناس لكي يتأكدوا أن السلطة من الممكن أن تصبح في لحظة ما
هي اللص الذي تنبغي مطاردته.. ويستند هذا المخبر الخاص إلى أن ما قد نراه،
ويمر علينا ولا يستوقفنا، قد يحمل في داخله السر الدفين الذي يحتاج فقط إلى
تركيز لكي تعرف بالضبط ما الذي يوحي به.. وقد كان علم «الفراسة» الذي برع
فيه العرب يقرأ ملامح الإنسان، ومن خلالها يحدد سلوكه.. و«شيرلوك هولمز»
يقرأ الوجوه، وما تتركه من علامات، وما نضيفه نحن إليها، وما يضيفه أيضا
الزمن، ليحدد هو الدوافع. كما أنه لا يغفل الجو العام الذي تتحرك فيه كل
التفاصيل التي لا نعيرها اهتماما، وتصبح هي المفاتيح لكشف اللغز. إن مثل
هذه الشخصيات، على بساطتها الظاهرة، تحدث مشاعر إيجابية للمتلقي، حيث يصبح
طرفا فيها، كما يسعى أيضا لكي يقبض بيديه على السر، بقدر ما يملك من
معلومات بسيطة وأولية، يحيلها لنا «شيرلوك هولمز» إلى مفاتيح واضحة للكشف،
لا ينسى أيضا أن يضيف إليها خفة الظل ليتقبلها الجمهور. ثم إن هناك دائما
هامشا محتملا من الخطأ، وهذا الهامش هو الذي يمنح الشخصية بعدها الإنساني..
فهو مثلنا أيضا قد تخونه معلومة، أو يخطئ في استنتاج أو تفسير. وهذا الضعف
البشري هو السر وراء حالة التصديق لتلك الشخصية التي عاشت في حياتنا ما
يزيد عن مائة عام. والسيناريو الجديد يستند إلى ملامح شخصية «شيرلوك هولمز»
القديمة التي تعثر عليها في أربع روايات، و56 قصة قصيرة.. ومن هنا، جاءت
الخطوط الرئيسية التي تتكرر لشخصية «شيرلوك هولمز»، وأيضا مساعده، الطبيب
«واطسون».
حيث يعيدنا المخرج غاري ريتشي 100 عام، لنعيش في لندن قبل قرن من
الزمان، محافظا على الجو العام والتفاصيل لهذا الزمن. وقد استعان المخرج
بأكثر من كاتب سيناريو: مايكل روبرت، أنتوني بيكام، سايمون كبنرج.. ليقدموا
رؤية ومواقف مغايرة لشخصية «شيرلوك هولمز»، الذي يعنيه هذه المرة أن يكشف
عن العمق وباطن الأشياء، وليس مظهرها المخادع. إن الفيلم ينحاز للعلم ضد
الخرافة، وعندما نستعيد الزمن نرى أنه في مطلع القرن العشرين، كان العلم قد
فرض سيطرته على كل جوانب الحياة، وبات هو المرجعية الوحيدة. ويلتقط المخرج
من خلال أحداث الفيلم قضية ساخنة؛ هي القبض على «لورد» يمارس السحر الأسود،
ولديه قدرة على أن يحيط نفسه بإرادة تتجاوز منطق العقل حتى يقنع كل من يعمل
معه أو يطارده أنه أكبر بكثير من أن تنطبق عليه معايير البشر. فيحاكم هذا
اللورد لفساده، ويصدر بشأنه قرار بالإعدام شنقا، ونراه بالفعل وهو ينفذ
العقوبة. ثم تمضي أيام قليلة، نكتشف بعدها أن اللورد حي يرزق، وأن من وضع
مكانه في القبر كان باحثا كيميائيا يستعين به، لتصبح بعد ذلك الفرصة مهيأة
أمام «اللورد» لكي يعتلي سدة الحكم، تدعمه تلك الهالة الأسطورية التي
اخترعها، وصدقها الكل، خاصة بعد أن أقنعهم بأنه عاد من الموت. إن الفيلم
يتصدى للخرافة، ويؤكد أن كل شيء يخضع للمنطق، وأن عصر المعجزات قد انتهى،
وأن ما تصورنا أنها معجزة وراءها منطق إجرامي تم تنفيذه بدقة متناهية، حيث
تم توصيل حبل الإعدام إلى صدر اللورد، بحيث يضغط على الصدر، وليس على
العنق، على أن يستنشق غازا معينا يوقف النبض لمدة ثوان. وعندما يكشف الطبيب
عليه، يعتقد أنه قد مات بالفعل لتوقف النبض الظاهري. إننا نتعامل مع خصم
قوي يدرك أهمية التفاصيل. وهكذا، يصبح الصراع، الذي كان من الممكن أن ينتهي
في اللحظات الأولى من الفيلم، هو اللغز الذي يثير شهية المتفرج، لكي يتابع
الأحداث على مدى ساعتين بقدر من اللهفة والترقب. ويمزج المخرج هذا الصراع
بقصتي الحب اللتين يعيشهما كل من «هولمز» و«د. واطسون».
حيث يحب «واطسون» امرأة سبق لها الزواج، بينما حبيبة «شيرلوك» يعتبرها
اللورد ورقة ضغط يمارسها عليه، فمن المفترض أنها تلعب لحساب اللورد، وتوقع
«شيرلوك هولمز» في حبائلها، ولكنها تتحول إلى حبيبها «شيرلوك» ضد اللورد..
ويختار المخرج غاري ريتشي لحظة تنصيب اللورد الذي تخلص من الجميع، حتى من
أبيه بحيلة كعادته، وليس عن طريق السحر. حيث كان في البانيو المصنوع من
الذهب، فأرسل إليه نوعا من الغاز يقتله، ليحصل منه على الخاتم.. ويقدم
المخرج بين الحين والآخر شخصيات غير تقليدية، مثل هذا الفرنسي ضخم الجثة في
صراعه مع «هولمز»، داخل معمل الرجل قصير القامة الذي تم دفنه بديلا عن
اللورد. ويلجأ أحيانا إلى النكتة، لتخفيف حدة الصراعات غير المتكافئة بين
«شيرلوك هولمز» وهذا العملاق، حيث يضع بين يديه جهازا لا يعلم كيف أدى إلى
شل حركة هذا العملاق في اللحظة التي كاد أن يفتك به. كما أن لحظات التوتر
تتابعت في الفيلم، مثل تعرض الفتاة التي يحبها «شيرلوك» للقتل بمنشار
كهربائي يستخدم في تقطيع الخنازير، لتظل تلهث حتى اللحظة الأخيرة، عندما
يتمكن «شيرلوك» ومساعده من إيقاف حركة الآلة قبل أن تصل إلى حبيبته. وتأتي
النهاية على كوبري ضخم لم يتم استكمال بنائه، حتى يظل المتفرج في حالة لهفة
وخوف على البطل من السقوط في أي لحظة، ويتم توظيف كل المفردات التي نراها
على السطح، من أخشاب وبقايا حديد وخنازير، لينتهي الفيلم بعد إنقاذ
«شيرلوك»، والتخلص من اللورد، والاطمئنان على حبيبة «شيرلوك»، بينما
«واطسون» يستقر مع حبيبته!! والديكور الذي أعاد لنا زمن الحدث، قبل مائة
عام، بكل الدقة والتفاصيل، يرينا لندن. والموسيقى تضيف حالة من البهجة، رغم
الأحداث الساخنة التي تغلف الفيلم، والتي تصل دائما إلى حدود الدموية
والقتل، ولكن الموسيقى جاءت لتحافظ على تدفق الإحساس بالبهجة. وقد نجح
الممثلان روبرت دواني، وجود لو، في تقمص دوري «شيرلوك» و «د. واطسون»
ببراعة، كما نجحت الممثلة الكندية راشيل ماكادامز في أداء دور حبيبة
«شيرلوك». وقد سيطر المخرج غاري ريتشي على كل التفاصيل، وكان الديكور بطلا
حقيقيا في هذا الفيلم الذي أعادنا بدرجة حرفية عالية للزمن، ليبعث لنا من
جديد «شيرلوك هولمز»، تلك الشخصية الأسطورية التي خلقت من الخيال واقعا
نعايشه، ونمسك به، وهو يدعونا دائما لكي نعثر على باطن الأشياء، ولا تخدعنا
المظاهر الكاذبة!!
الشرق الأوسط في
15/01/2010 |