رواد الحركة الثقافية في ذاكرة مقهى شعبي
وعدسة ضوئية
'وجوه
بستانية': فيلم وثائقي بالصور الفوتوغرافية بطلته أم
كلثوم
القاهرة ـ من كمال القاضي
مقهى زهرة البستان
هو الملتقى الرئيسي لكتاب ومثقفي وفناني مصر .. يقع المقهى الشعبي البسيط
وسط
القاهرة بالقرب من ميدان طلعت حرب، يتوافد اليه العديد من الفنانين
المحترفينوالهواة، وقد اشتهر ذلك الملتقى الاستراتيجي لكونه يجمع بين كل
الأطياف الثقافية
والفكرية وتقام عليه الندوات وأمسيات الشعر وأحيانا المباريات الساخنة في
العاب 'النرد' و'الدومينو' وسبق ان شهد مقهى زهرة
البستان بطولات أقيمت لأول مرة في هذهالألعاب وسارعت المحطات الفضائية بتصوير وقائع الانتصار والفوز
للفرق المتنافسة
وكان لهذا صدى محلي ودولي غير مسبوق، بالاضافة الى ان أفلاما سينمائية
كثيرة تم
تصويرها في ذات الرقعة الضيقة التي يحتلها المثقفون بين رصيفين يفصلهما
شارعالبستان الواصل بين شارعي هدى شعراوي وصبري ابو علم، غير ان
عشرات الروايات والقصص
التي صدرت خلال ربع القرن الماضي جرت بعض أحداثها على زهرة البستان، حتى
صار المقهى
أشهر من النار على العلم مما جعله جديرا بأن يصبح مادة فيلمية تنتمي
للسينماالوثائقية 'الفوتوغرافية' وهي صيغة جديدة بسيطة التكلفة
ابتكرها المصور الفوتوغرافي
ناجي الشناوي نجل الشاعر الغنائي الكبير مأمون الشناوي الذي كتب نحو 500
أغنية
لكبار المطربين والمطربات في العصر الذهبي للأغنية في حقبتي الخمسينيات
والستينيات
وخلال مسيرته الإبداعية كان على رأسهم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفايزة
أحمدوشادية ونجاة الصغيرة وغيرهم . ولأن ابن الوز عوام فقد حمل
ناجي الشناوي سليل
العائلة الإبداعية وابن شقيق الشاعر الكبير أيضا كامل الشناوي جينات الفن
الوراثية
فكتب القصة القصيرة وصدرت له المجموعة الأولى منذ سنوات اتجه بعدها الى
هوايتهالأساسية التصوير ليتم مجموعة من المعارض الناجحة ويسجل في
ذاكرة السينما أول تجربة
من نوعها فيلما وثائقيا بعنوان 'وجوه البستان' يحتوي على أكثر من 400 صورة
فوتوغرافية لرواد المقهى الحاليين او من كانوا روادا دائمين ورحلوا عن
الحياةالثقافية والأدبية بعدما أسسوا حركة تنموية حقيقية في هذا
المجال وخلفوا وراءهم
أجيالاً من المبدعين الشباب وجيل الوسط .. بدأ الفيلم على خلفية موسيقية
وغنائية
لواحدة من أشهر أغاني كوكب الشرق أم كلثوم 'أنساك ازاي.. ازاي أنساك' في
إشارةلتخليد ذكرى كل ما حواه الشريط السينمائي التسجيلي من وجوه كان
لها إسهامها الكبير
والإيجابي في الساحة الثقافية والتي لم يأت الترتيب فيها خاضعا لأي شروط،
لا من حيث
الأهمية او الأقدمية او النجومية، فقد طالعنا وجه الكاتب الكبير والصحافي
الشهيرونقيب الصحافيين الأسبق، الراحل كامل زهيري متأخرا بعض الوقت،
في الدقيقة الـ13
تقريبا من زمن الفيلم البالغ 26 دقيقة، جاءنا وجه زهيري مطلا علينا من
الشاشة كأنه
يتأمل بعين فاحصة ومدققة العالم الذي ودعه، كما لو كان يريد ان يعود مرة
أخرىللدنيا ليتم ما لم ينجزه من مشروعات ويكتب آخر مقالاته .. رثاء
في حال الثقافة
المصرية والعربية وعلى نفس المنوال وتتابع سريع استعرض الشناوي وجوها غابت
مثل
سوريال عبد الملك، الكاتب الإذاعي والمترجم وأحد الذين اهتموا بشكل خاص
ومتميزبترجمة الشاعر الكبير طاغور .. سيرة ذاتية وشعراً، كما نوع في
ألبوم ذكرياته بين
المبدعين الراحلين ونظرائهم الذين يعيشون تحت مظلة إبداعهم وفنهم فجمع بين
فحول شعر
العامية والفصحى، عبد الرحمن الأبنودي وأحمد عبد المعطي حجازي وسيد حجاب
ووضع الكلفي بوتقة واحدة .. جذور ضاربة في العمق وثمار غضة لها مذاق
سحري، ولم ينس ناجي
الشناوي الذي انتج الفيلم على نفقته الشخصية الروائيين ونقاد الأدب
والسينما وأصحاب
الأقلام من مختلف الاتجاهات السياسية وحتى الهواة كان لهم نصيب من الذكر
والتنويه
باعتبارهم القاعدة العريضة المضيئة بكل ما يكتب ويسيطر .. كان الروائي
الكبير بهاء
طاهر بطلا بارزا في لوحة الفوتوغرافيا البديعة وكذلك الروائي والسيناريست
مكاويسعيد صاحب الرواية الشهيرة 'تغريدة البجعة' جاء منافسا لطاهر
على الشاشة كما كان
منافسا له في جائزة 'البوكر' التي حصل عليها الأول العام الماضي واحتل فيها
الثاني
مركزا متقدما جدا تاليا للفائز مباشرة، ومن بين الرواد التاريخيين الذين
اعتنى صاحبالفيلم بربطهم بمركز الثقافة الشعبي 'رقص البستان' وأدرجهم ضمن
الوجوه المضيئة في
الساحة الابداعية الواسعة الكاتب والمفكر الكبير الراحل محمد عودة وشاعر
التمرد أمل
دنقل، ابن القصيدة المقاتلة ورهين الاعتقال الدائم حياً وميتاً وأصدقاؤه
الأوفياء
ورفقاء دربه الشاعر والكاتب الصحافي أحمد اسماعيل والناقد والقاص د.فهمي
عبدالسلام .. هؤلاء شكلت صورهم وملامحهم صفحة انسانية من الصفحات
المرئية الماثلة
بالفيلم الفريد من نوعه وطبيعته . وعلى قدر اعجابنا بالصورة السينمائية
والفكرة
والمضمون يكون احتجاجنا على ما جاء به من تشويش وخلط لثقافة مغايرة لم تأت
عابرة فيالسياق الوثائقي ولكنها جاءت ضالعة في التكوين الفني، الا وهي
تلك النماذج لعينات
عشوائية التقطتها عدسة المصور ناجي الشناوي التي طاشت أحيانا لتسجل ملامح
لوجوه
مجهولة لا تمت للثقافة ولا للمقهى بصلة وانما فقط جمعتها الصدفة بالرواد
لتصبحخلفية غير حقيقية لتاريخ عريق كتبه أصحابه فاستحقوا ان يكونوا
في الصدارة، اذ لا
يليق ان يجمع الفيلم بين الغوغاء والدهماء والسابلة والمتسولين ونخبة من
خيرة
العقول المصرية، وان كنت أتفهم ما يهدف اليه ناجي الشناوي من هذا الدمج فهو
رصدلعالم المقهى الذي يرد عليه كل أطياف البشر ..سواء كان زائرا
او عابرا ورائدا راسخا
في مقعده ومكانه ومكانته فكل ذلك يبدو مفهوما ضمنيا لكن شيئا ما أفسد
اللوحة
التشكيلية التذكارية وجعلها غير متناغمة، لاسيما ان هناك صورا أخذت خصيصا
مجاملةلأصحابها أو إرضاء للأصدقاء وهي الصور الأحدث التي بدت نشازا
بين صور قديمة تحمل
ملامحها بصمات الزمن على الوجوه، بيد ان هناك من سقط من ذاكرة المصور
والكاميرا
وأحيل الى عالم النسيان منفيا خارج الزمن والكادر.