يمثل الفيلم السوري الروائي الحديث “الليل الطويل” (2009)، للمخرج
القاص والممثل حاتم علي تجربة رائدة في السينما العربية المعاصرة . الريادة
التي نشير إليها هنا لا تتعلق بالقيمة الفنية للفيلم وهي بلا شك قيمة تستحق
التقدير إخراجا وتمثيلا، ولا تتعلق بالحكاية التي كتبها المخرج هيثم حقي
بالمشاركة مع حاتم علي، وهي حكاية إنسانية مؤثرة وعميقة المضمون، بل تتعلق
بجرأة الفيلم على الخوض في موضوع معاصر راهن، موضوع ذي أبعاد سياسية واضحة
لا تخفى على أحد، وهو، رغم انه ليس فيلما سياسيا بالمعنى المباشر للمصطلح،
لكنه يمكن أن يضع الفيلم في مواجهة مع سلطة قوية راسخة لا تزال في موقع
الحكم والقرار وتتمتع بقاعدة شعبية واسعة .
الأفلام العربية التي تناولت موضوعات ذات صلة بالسياسة والسلطة
الحاكمة التي أتيح لي مشاهدتها خلال السنوات الماضية كانت تحكي عن زمن مضى
أو عن سلطة تخلت عن موقعها لسلطة أخرى . الأفلام المصرية من حقبة سبعينات
القرن العشرين التي وسمت بأنها سياسية وصنعت في زمن السادات انتقدت زمن عبد
الناصر، الأفلام اللبنانية تطرقت إلى الحرب الأهلية بعد أن سكتت المدافع،
وهي صورت انعكاساتها على المجتمع والإنسان لكنها لم تواجه القوى التي
قادتها، الأفلام المغربية المعاصرة التي دانت القمع السياسي في المغرب
وصورت المعارضين وما تعرضوا له من عذاب في السجون، فضحت حقبة ماضية لكن
بموافقة من السلطة الحالية التي سبقت السينما بقرارات تدين الماضي القمعي،
بحيث إن هذه الأفلام كانت تبدو، عن غير قصد ورغم النيات الصادقة لصانعيها،
وكأنها تقدم صكوك البراءة للسلطة الراهنة من أخطاء السلطة السابقة عليها(
مع كل ما سبق، وحتى لا نكون مجحفين بحق بعض الأفلام، نستثني من هذا التعميم
فيلمين عربيين قديمين نوعا ما، أحدهما للمخرج التونسي ابراهيم باباي “ليلة
السنوات العشر”(1990)، الذي يتحدث عن المعارضين اليساريين للسلطة الراهنة
وينتهي بقمع وحشي لمظاهرة، والثاني للمخرج الجزائري محمد شويخ “يوسف . .
أسطورة النائم السابع” (1993)، الذي يدين تخلي قادة الثورة عن مبادئها بعد
أن استلموا السلطة وتنعموا بفوائدها) .
يدخل فيلم “الليل الطويل” بموضوعه مباشرة: بعد مشهد افتتاحي تخيلي
يقدم فيه ممثل مسرحي مشهد العاصفة من مسرحية شكسبير “الملك لير” يصور
الفيلم أربعة سجناء داخل الزنزانة يتهيأون لتناول الإفطار، وسَيَفْهم
الجمهور أنهم سجناء سياسيون مضى عليهم في السجن عشرون عاما . يجلب لهم حارس
السجن جريدة “البعث” الناطقة باسم الحزب الحاكم، يقرأون في الجريدة خبر
إعادة افتتاح مهرجان المسرح ويتفرع الحديث بينهم ليشمل التحول الديموقراطي
الجديد في البلاد كما يعلن عنه النظام . يعلق أحدهم بما معناه أن التحول
الديموقراطي الحقيقي يعني أن لا يكون في السجن سجناء سياسيون . يحضر ضابط
شرطة ويطلب من ثلاثة منهم الاستعداد للإفراج . وسيبقى الرابع، وهو الذي
رأيناه في المقدمة المسرحية، وهو أيضا الذي اعتبر أن عدم وجود سجناء هو شرط
للتحول الديموقراطي، سيبقى في السجن . اثنان من المفرج عنهم سيخرجان ولكن
فقط بعد توقيع أوراق لو وافقا على التوقيع عليها قبل عشرين عاما لما بقيا
في السجن مما يضع احدهما أمام أزمة قرار الرفض أو القبول، وأحلاهما مر، أما
الثالث الذي أفرج عنه من دون إلزامه بالتوقيع وبفضل توسط مسؤول حزبي كان
رفيقه في ما مضى، فسيخرج من السجن ويهيم في الشوارع ليلا قبل أن يتجه لمسقط
رأسه في إحدى القرى ليرتمي قبيل الفجر وحيدا تحت جذع شجرة هرمة تنتصب أمام
بيت الطفولة المهجور ويفارق الحياة .
من الواضح أن الفيلم لا يريد، في شقه السياسي على الأقل، أن يطلب
الكثير، يريد فقط أن ينجلي الليل الطويل، لكنه، وكي يشعرنا بأهمية ما يطلب
يجعلنا نعايش مأساة مفجعة على المستوى الإنساني، مأساة من عاشوا ومن لا
يزالون يعيشون في هذا الليل الطويل، سواء أكانوا داخل السجن أم خارجه .
يطرح الفيلم موضوعه بذكاء، يتعامل مع السلبيات والإيجابيات بموضوعية،
لا يصرخ بشعارات بل يفرد أمامنا واقعا بكل انعكاساته الاجتماعية والنفسية
على حياة ومصائر الناس، لا يطرح مواقف سياسية قد تتباين حولها الآراء، بل
يقدم وضعا إنسانيا مؤثرا في النفوس: أحد السجناء الثلاثة يخرج إلى الشارع
ويسير على غير هدى في ما عيناه المندهشتان تتراقصان وسط أضواء المحلات
والسيارات العابرة وشيئاً فشيئاً تسرع خطاه في ما تزداد بهجته إلى أن يركض
والسعادة تغمر كل محياه .
بالنسبة لي شخصيا، هذا مشهد لن أنساه أبدا .
أخيرا، ليس الهدف من الكتابة عن الفيلم تقديم تحليل نقدي له، بل مجرد
التعريف به باعتباره يمثل أنموذجا لكيفية صنع فيلم عربي يجرؤ على أن يتناول
بالنقاش قضايا جوهرية مصيرية راهنة، على الرغم من المخاطر المحتملة، ولا
يهرب نحو الماضي أو يحتمي بالترميز والإحالات التي تبقي القضايا الواضحة
معلقة في الضباب .
الخليج الإماراتية في
09/01/2010 |