"ازمة السينما العربية" كتاب جديد ضمن "سلسلة آفاق السينما" التي
تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر ، للناقد السينمائي عدنان
مدانات ، في ثلاثة فصول ، جمعت (31) مقالا ، تناول فيها بصورة بانورامية ،
معظم مشكلات السينما العربية ، التي تراكمت على مر السنين ، لتشكل ازمة
دائمة ، تلقي بظلالها على الواقع الراهن ، وستمتد الى المستقبل ما لم يكن
هناك وعي حقيقي وعلى مختلف المستويات بأهمية السينما ودورها باشكاله
المختلفة في حياتنا.
في الاطار العام الذي تندرج تحته عناوين وتفاصيل كثيرة ، فان المؤلف
يحصر اسباب الازمة في ثلاثة محاور ، وعند البحث التفصيلي فانها تجيب عن
الاسئلة العالقة ، والتي من شأن الاجابة العملية عليها ، ان تدفع بالسينما
العربية الى موقعها الثقافي والفني والحضاري ، بدءا من المحور الاول
المتمثل في غياب وتغييب حرية التعبير عن الانسان العربي وهمومه وقضاياه
المصيرية ، ومحور المساهمة ببناء شخصية عربية سوية باشتباك ايجابي بين
المعاصر والتراث الثقافي والتاريخي للامة العربية ، والمحور الثالث بالبحث
عن اشكال وادوات تعبير سينمائية ابداعية تعكس الخصائص التراثية والجمالية
التي تمثل جوهر الهوية الوطنية.
الجمهور والسينما
يناقش الفصل الاول من الكتاب ، الفئة المستهدفة من السينما ، وهي
الجمهور ، ويتتبع الكاتب علاقة هذا الجمهور بالسينما ، والصعوبة في تحديد
ملامحه ، والاسئلة الكثيرة المعلقة على نوعية الجمهور الذي لم تستطع كل
الدراسات والابحاث ان تفك طلاسم اقباله على فيلم ما ، او احجامه عنه ، وكيف
ان هذا الجمهور ـ دائما ـ يضع المراقب في حالة صدمة ، فحالة التلقي ماتزال
خارج المقاييس حتى في الدول التي عملت بجد واجتهاد على تثقيف
الجمهورسينمائيا ، سواء بانتاج افلام ذات سوية فنية وفكرية عالية ، او
باصدار المجلات المتخصصة ، وافراد صفحات متخصصة في الصحف ، والبرامج
والنوادي السينمائية. ويضرب المؤلف مثالا على ذلك بجمهور الاتحاد السوفياتي
"سابقا" ، الذي اسقط تاريخا طويلا من التلقي الايجابي ، على يد فيلم فرنسي
مصنوع اصلا للاطفال والفتيان واقل ما يمكن ان يقال عن هذا الفيلم بانه عادي
جدا.
والمؤلف لا يعترض على حق الجمهور في الاختيار ، لكنه يتوقف عند
الرسائل والمضامين المضلله للمشاهد التي تحملها افلام الترفيه.
ويعطي هذا الفصل اهتماما خاصا لصالات العرض السينمائي ، وتلك العلاقة
المركبة والمرتبكة بينها وبين الجمهور ، والتوزيع العشوائي لها ، وعدم
تغطيتها لكل اماكن الازدحام الجماهيري ، واستئثار العواصم والمدن الكبرى
بصالات العرض ، لان المفهوم التجاري هوالذي يتحكم بسياسات بناء وتجديد
وتحديث الصالات ، الامر الذي يساهم بتعميق الازمة ، وذلك بسبب غياب البعد
الثقافي والاجتماعي والحضاري عن سياسة بناء الصالات ، وحالة التشوش في فهم
العلاقة المتبادلة فيما بين الجانبين. والعقلية القديمة التي مازالت تدير
هذه الصالات ، التي انعكست بشكل واضح على برمجة العروض ، التي يرى المؤلف
انها معزولة عن الواقع الاجتماعي والنفسي والثقافي المحلي ، وانها تتجاهل
الخصائص المختلفة له والتي تحدد اذواقه واهتماماته السينمائية. ما يعمق
الهوة فيما بين الجمهور ، وبين ما يفرض عليه من عروض ، وتؤسس لحالة من
الاغتراب والتبعية.
الانتاج السينمائي العربي
في الفصل الثاني يتناول المؤلف الانتاج السينمائي العربي: الوطني
اوالمشترك ، ويستعرض تاريخيا المراحل التي استدعت اقامة لقاءات ، واصدار
بيانات ، وتشكيل مجموعات سينمائية ، لوضع خطط بديلة على امل تغيير الواقع
والنهوض بالسينما على مستوى الشكل والمضمون ، والتي جميعها ، لم تبتعد
بالسينما العربية عن موقعها ، ولم تتقدم بها للامام ، رغم اخلاص عدد كبير
من السينمائين الذين تداعوا للخروج من الازمة ، ويحلل المؤلف في مقالات
متعددة الظروف المحيطة التي كانت اقوى من النوايا الطيبة.
كما ان المؤلف يفضح بعض الدعوات المشبوهة من سينمائيين وجدوا في ضعف
واقع السينما العربية فرصة لهم للانقضاض عليها واختراقها من خلال توجيهها
الى مؤسسات انتاجية لها اجندتها المناهضة لتوجهات السينما الوطنية ،
وبالتالي العمل على حرف السينما العربية عن طريقها المفروض ان تسير فيه تحت
عنوان التنوير والالتزام بالقضايا الوطنية.
وفي ربط منطقي بين راهن السينما العربية مع اوائل السبعينيات ،
واستعداد بعض السينمائيين للتعامل مع مؤسسات التمويل الاجنبي ، يرى
"مدانات" ان بداية السبعينيات كانت هي المرحلة التي شهدت ولادة افلام عربية
تحت يافطة الانتاج المشترك. وفي تحليل وقراءة موضوعية ، يستعرض المؤلف بعض
الاسماء والافلام ، وظروف ولادة هذه الافلام بتمويل اوروبي ، وخاصة فرنسا
في بداية الامر ، والاستحقاقات التي يجب على المخرج ان يسددها ليحصل على
غنيمة التمويل الذي له شروطه المرتبطة باستراتجياته. ولذلك خرجت مجموعة من
الافلام التي تركز على الجانب الفلكلوري في الحياة العربية ، والتجرؤ على
تابوهات الجنس والدين والسياسة ، وبدات تظهر شخصية"اليهودي الايجابي" في
الافلام ، وبدأت عملية وخز الوجدان الجمعي بطريقة تضمن ، مع التكرار ،
قبولنا بالاخر والتعاطي معه ، كشريك وجار ، لا بل ان بعض الافلام قدمت
الشخصية اليهودية على انها الوريث للاسلام ، وهي التي تحمل الرسالة بعده ،
كما في فيلم "السيد ابراهام وازهار القران" من بطولة الممثل المصري عمر
الشريف.
كما يشير المؤلف الى تجارب سينمائية لم تخضع لابتزاز التمويل الاجنبي
، ويورد امثلة على ذلك بافلام المخرج ميشيل خليفي ورشيد مشهراوي وايليا
سليمان وهاني ابواسعد. كما يشير الى تجربة المخرج الراحل مصطفى العقاد الذي
قدم افلاما بسوية عالية مرتبطة بالتاريخ العربي والاسلامي.
وفي هذا الباب يخلص الزميل "مدانات" الى ان ازمة التمويل ، هي واحدة
من اكثر العناصر التي تضغط على المخرج العربي ، وتضعه في خانة الحيرة ، بين
تحقيق مشروع سينمائي فيه الكثير من السينما ، وبين تلبية رغبات المنتجين
الذين يسعون للربح السريع. هذه المعادلة الصعبة التي تحيلنا الى الجمهور ،
وتعيدنا الى ما طرحه الكتاب في بابه الاول حول السؤال الذي مايزال برسم
الاجابة: الى اين تتوجه السينما؟ واي جمهور نريد؟ وتبقى السينما العربية
حائرة في منطقة رمادية ، تدور فيما بين جمهور "النخبة" وجمهور "الترسو".
ويرى المؤلف ان الافلام التى جاءت على يد مخرجين يمتلكون الموهبة والمعرفة
، بقيت في خانة الافلام الجيدة ولم تصل لمستوى الفيلم المتميز. وهو يتمنى
ان يصل المخرجون العرب الى تلك المرحلة التي وصل اليها مخرجون من دول اخرى
استفادوا من التمويل الاجنبي في تقديم ابداعاتهم السينمائية بافلام مبهرة ،
ومضامين ذات ابعاد وطنية وانسانية ، دون ان يقدموا تنازلات ، فكانت الحصيلة
افلاما بمستوى عالمي ، واضافة حقيقية لسينما بلادهم الوطنية.
نقد النقد
آخر فصول الكتاب خصصه المؤلف مدانات للنقد السينمائي في تطوره
التاريخي ، واشكاله ، ودوره في التثقيف السينمائي وتطوير السينما.
والمقارنة بين من كتبوا بجدية ، وطوروا نظريات السينما ، وقدموا الدراسات
والابحاث الى الدرجة التي اصبحوا فيها جزءا من التاريخ الثقافي ، وبين
أصحاب الكتابات السطحية الواقعة تحت تاثير الانبهار بسحر الشاشة.
ويعترض المؤلف على الخطأ الشائع في اعتبار ان الكتابة عن السينما هي
مجرد نقد الافلام ، ويعتبر ان المجال الاهم للكتابة عن السينما ، هي
السينما نفسها كابداع ذي مواصفات خاصة ، وما يرتبط بها من مواضيع وظواهر
اجتماعية ونفسية ، وعلاقة السينما بالحياة.
وينتقد مدانات استخدام مفردات في الكتابة السينمائية دون تدقيق
مضامينها ودلالاتها ، ودون التأكد من ان النظريات والدراسات والابحاث
السينمائية قد قامت باقصاء هذه المصطلحات من حياة السينما ، لأنها ، حتى
وإن كانت في الماضي ، يمكن التجاوز عن استخدامها. فالعودة اليها الان تؤكد
على جهل من يكتب في النقد السينمائي. ويعطي مثالا على ذلك بالاستخدام
المفرط واللاواعي لمصطلح "لغة السينما" ، الى جانب مفردات اصبحت تمثل "كلاشيهات"
فارغة المضمون ، لان كل مصطلح له ابعاده المتعددة ، وهو يرى في هذا
الاستخدام المجاني للمصطلحات في الكتابات السينمائية العربية نوعا من القمع
المعرفي من الكاتب تجاه القارئ ، الذي يرعبه بمصطلحات فارغة المضمون ،
ويشعر القارئ بالدونية المعرفية تجاه النقاد.
وتحت عنوان "النقد السينمائي المقلق" ، يتحدث المؤلف عن ارتباك
العلاقة بين الناقد وجمهوره ، خاصة اذا اعتبر الناقد نفسه صاحب رسالة وليس
صاحب مهنة ، وما يترتب على ذلك من آراء صادمة بالنسبة للجمهور. فالمسألة في
غاية التعقيد.. لأن الناقد اذا اصبح له جمهوره من القراء ، وبالتالي تأثيره
على الذوق والمزاج العام ، ما يمنحه احساسا ذاتيا بتحقيق رؤيته وفرض افكاره
، فإن هذا الامر بالمقابل يخلق ازمة لدى الجمهور ، لانه عندها سيفقد كثيرا
من دهشة التلقي ، وكثيرا من متعة الاستمتاع ، لأن عين الناقد اصبحت شريكة
له في حال مشاهدته للفيلم.
ويستعرض المؤلف واقع النقد العربي في مختلف وسائل الاعلام ، والملاحق
الثقافية ، وازمة البحوث السينمائية ، والكتب السينمائية ، والاجتهادات
التنظيرية ، في خطوات على طريق تشكيل نظرية للسينما العربية.
كتاب "ازمة السينما العربية" ، اطلالة على واقع سينمائي عربي تجاذبته
اطراف واعية وبنوايا مخلصة ، واطراف جاهلة بأهمية ودور السينما ، ومتحكمة
بانتاجه ، في اجواء ضيقة من مساحة حرية التعبير ، وضبابية المرجعية
الثقافية والتاريخية ، وضعف في استنباط ادوات واشكال التعبير السينمائي
الابداعي. والمؤلف يضع يده على هذه الندوب بموضوعية ووعي وجرأة.
Rasmii01@yahoo.com
الدستور الأردنية في
08/01/2010 |