·
هل يحق لنا أن نتحدث عن ألفية ثالثة ونحن خارج التاريخ؟
·
فى مصر دار عرض سينمائى واحدة لكل 300 ألف مواطن!
·
أغلب القائمين على الإنتاج السينمائى فى مصر يعملون بطريقة «اخطف
واجري»
هل تذكر حكاية "الألفية الثالثة" والحديث المزعوم عن دخول مصر إليها
"برجلها اليمين"؟ لقد مضى العقد الأول من هذه الألفية، واتضح أن مصر، فى كل
المجالات دون استثناء، كانت لا تدخل إليها، بل تخرج منها مولية الأدبار،
بفضل مجموعة "الشطار" والعيارين التى تحكمنا الآن، ليس فى ذهن أحد منهم
مصلحة الوطن بالمعنى الحقيقى للكلمة، بل هدفهم جميعا هو تحويل مصر إلى سوق
و"سويقة"، وكل واحد وشطارته وصوته العالى وقدرته على إلباس الحق بالباطل،
وإنكار وجود الشمس فى عز الظُهْر، ومن يستطيع منهم أن ينتزع "حتة" من الوطن
ليأكلها لحما ويرميها عظما فهنيئا له ومريئا، وكله باسم الفكر الجديد
وحماية الأمن القومى على طريقة الجدار الفولاذى ومصر فوق الجميع، والمصيبة
أننا _ نحن المنتمين إلى ما يفترض أنها المعارضة _ نكتفى بأن نقوم بدور
الموسيقى التصويرية لهذه الميلودراما، بالكثير من الكلام والقليل من الفعل،
تأتى إلينا فرص اتخاذ مواقف سياسية فنأبى استثمارها، فحين يتحدث البرادعى
عن الأوضاع المقلوبة نتوقف عند الدفاع عن شخصه، بينما كان الأجدر بنا أن
ندافع باستماتة عن أفكاره بتعديل الدستور وإصلاح أوضاع الحياة الحزبية فى
مصر، وحين فكّرنا يوما فيما أطلقنا عليه "العصيان المدنى السلمي" فات علينا
أن نجمع الشعب المصرى على هذا الموقف بسبب "شبه" قانون الضريبة العقارية،
الذى يصممون به على عَقْرنا فى عُقْر دورنا وديارنا.
وإذا كان الحال كذلك، حكومة ومعارضة، فقل لى بالله عليك كيف يحق لنا
ولو للحظة واحدة أن نتحدث عن ألفية ثالثة، حتى لو كانت قبل الميلاد؟ وعندما
نتناول أحوال السينما فى مصر فلن نجدها منفصلة أبدا عن هذه الفوضى الضاربة
أطنابها فى كل شيء، الخالق الناطق هى نفس العشوائية والاضطراب، سواء فى
الكثير من الأفلام التى تتم صناعتها دون أن تعرف بالضبط لماذا ولمن صُنعت،
أو فى بعض الأحكام النقدية التى يحكمها الهوى أحيانا والجهل أحيانا أخري،
وأخيرا الأرقام المغلوطة وغير الدقيقة التى تطالعنا هنا وهناك، بينما لا
نعير التفاتا للأرقام الموثوق بها. ليست "شطارة" أبدا من كاتب هذه السطور
أن يراجع هذه الأرقام والمعلومات أو تلك، بل هو الحزن الحقيقى والأسى
العميق من أنك لن تجد الكثيرين من النقاد يعانون من الأرق بسبب الحال الذى
وصلت إليه صناعتنا السينمائية، فنحن ننقد الأفلام: هذا فيلم جيد وياسلام
عليه، وهذا فيلم رديء و"وِحِش"، ثم ننام ملء جفوننا. إننا نتعامل مع
السينما، كما نتعامل الآن مع كل شيء فى حياتنا، بالقطعة، كجزئيات لا نخرج
منها بصورة للكل، هذا الكل الذى وصل إلى حالة مزرية من التردى والتدهور
والانحدار.
سوف أحاول معك فى هذا المقال أن نقف عند بعض النقاط، التى أرجو أن تفى
بالغرض من إلقاء بعض الضوء على أوضاع صناعة السينما فى بلادنا. ولأبدأ معك
بما نشره موقع "ميتاكريتيك" منذ أيام قليلة، عن أفضل مائة فيلم خلال العقد
الأول من الألفية الثالثة، وذلك طبقا لمتوسط آراء أشهر النقاد الأمريكيين،
ومع ذلك فإن المركز الأول فى القائمة احتله فيلم أسبانى مكسيكي، والثانى
روماني، وتوالت أفلام من اليابان واستراليا والصين وفرنسا وبريطانيا
والبرازيل و"إسرائيل" وألمانيا وكندا وإيطاليا وكولومبيا وإكوادور وروسيا
وإيران. لن أسألك أين مصر فى هذه القائمة، (لا وجود بالطبع لأفلام مثل "ابراهيم
الأبيض" أو "جنينة الأسماك"، لا فرق)، لكن أرجو أن تلاحظ أن ثلاثة أرباع
هذه الأفلام لم يعرض فى مصر عرضا عاما أو خاصا، وحتى الرُبع الذى أتيح له
العرض لم يتناول معظمه أية مقالة نقدية جادة فى مصر، وهو مايشير فى واقع
الأمر إلى غيابنا، جمهورا ونقادا، عما يحدث فى السينما فى العالم، بينما
نهتم ونتجادل ونتشاجر ونمسك فى خناق بعضنا البعض حول أفلام مصرية تتلعثم _
بالمعنى الحرفى للكلمة _ فى أبجديات السينما وبديهيات الفن. إن هذا يحدث فى
عصر الإنترنيت، حيث يمكن للنقاد المصريين الاطلاع على مايكتبه النقاد فى
العالم كله، وتحميل ومشاهدة الأفلام التى لا تُعرض للجمهور المصري،
والكتابة عنها لضخ دماء جديدة متدفقة ودافئة فى الثقافة السينمائية، لأن من
المفترض أن النقد لا يكتفى بالتهليل أو التنديد بتلك الأفلام المتواضعة
المفروضة علينا، وتُفسد ذوقنا النقدى والجماهيرى حتى إن لم نكن نشعر بذلك
بشكل واعٍ، لكن يجب على النقد أن يفتح آفاقا جديدة أمام صانع الفيلم
والمتلقى معا. وعند هذه النقطة أود الإشارة إلى حقيقة مفزعة لا تحدث أبدا
فى أى وسط ثقافى ينبض بالحياة (وسطنا الثقافى السينمائى ينبض بالموت إن جاز
التعبير)، وهى غياب أية مطبوعة سينمائية جادة ومنتظمة الصدور، وكان الأجدر
وجود العديد من المطبوعات التى تعبر كل منها عن اتجاه أو منهج نقدى بعينه،
لذلك وقع النقد فى هوة الصحافة السينمائية مدفوعة الأجر، ماديا أو معنويا،
والتى تتحدث عن نجومية فلان، و"البطولة المطلقة" لعلان، وترتان الذى "تفوق
على نفسه"، ناهيك عن الأحكام المتعسفة والمتسرعة التى لا تساعد المتلقى
بأية حال على التذوق الحقيقى للأعمال السينمائية.
أريد أن أكون منصفا فأقول أن بمصر الكثيرين من النقاد الجادين، لكنهم
لا يقومون بواجبهم كما ينبغى لهم، ربما بسبب المناخ العام الذى أصابته
الشيخوخة فى كل شيء، أو لأنهم لا يجدون لهم منبرا ثابتا، أو لأنهم مشغولون
بالبحث عن لقمة العيش فى نشاطات تبعدهم عن ممارستهم النقد بشكل مستقر
مستمر، أو لكل هذه الأسباب جميعا. من جانب آخر فسوف تجد بعض "كهنة" النقد
السينمائي، وأتباعهم من أنصاف النقاد الذين يرددون العبارات خلفهم
كالببغاوات، هؤلاء لهم منابرهم التى يطرحون فيها قضايا وأحكاما قاطعة مانعة
ما أنزل الله بها من سلطان، وهم يغيرون هذه الآراء على حسب المصلحة،
فالرائد الأول فى الدعاية لتحويل الثقافة السينمائية إلى استثمار أصبح الآن
يهاجم هذا الاتجاه، والله وحده يعلم السبب وراء "إيمانه" بالرأى ونقيضه على
هذا النحو الذى يضفى الشك على ما يدعو إليه فى الحالتين.
إن هذا النوع من "النقد" لا يبغى فى الحقيقة إلا المصالح الشخصية، أما
القضايا الموضوعية فقل عليها السلام. أعطيك مثالا صارخا: هل قرأت لأى من
النقاد ولو بضع سطور عن البيانات التى أصدرها الجهاز المركزى للتعبئة
والإحصاء، حول أن عدد دور العرض السينمائى فى مصر الآن 250 دار، وعدد رواد
هذه الدور فى عام 2008 لم يتجاوز 18 مليون مواطن، وهى أرقام هزيلة إلى حد
مفزع، وفى ظلها لا يمكن الحديث عن أن لدينا صناعة سينما، فهى تعنى أن هناك
دارا واحدة للعرض السينمائى لكل 300 ألف مواطن، وأن المتفرج المصرى يدخل
السينما مرة واحدة كل أربع سنوات! هل يمكن أن نقارن ذلك بأية صناعة سينما
أخري، حيث المتوسط هو دار عرض لكل عشرة آلاف مواطن، وحيث يدخل المتفرج
السينما أربع مرات كل عام؟!! وفى ظل هذه الأرقام يجب أن نسأل أنفسنا: لمن
نصنع الأفلام إذن؟ ولماذا نصنعها؟ وهل السينما _ باعتبارها فنا _ تمارس
دورها المفترض فى صناعة وصياغة وجدان الجماهير، أم أنها حتى كتجارة تتجاهل
الاحتياجات الحقيقية لهذه الجماهير، وتترك عقولهم وأفكارهم نهبا لكل
الأفكار والتيارات المتطرفة يمينا أو يسارا؟ وكيف يمكن لنا كنقاد أن نتناول
بالنقد المتحمس أفلامنا المصرية، التى تزداد للأسف الشديد تدهورا وتحللا فى
الشكل والمضمون، بينما نحن نعلم أن الأفلام لم تعد إلا سلعة لجمهور عابر
يعتبرها وسيلة للتسلية من الدرجة العاشرة؟! ألسنا بذلك نساهم فى تدنى
السينما المصرية ونظرة الجمهور لها؟!
إن ذلك يقودنا إلى الغالبية العظمى ممن يقومون بالإنتاج والتوزيع
السينمائي، الذين لا ينظرون إلى السينما إلا كمجرد "سبوبة" يستكملون بها
أرباحهم المادية والمعنوية، إنها وسيلة للكسب السريع السهل، الذى يتماشى
تماما مع كل السياسات الاقتصادية المتبعة فى مصر الآن، والقائمة على النهب
والخطف، "إخطف وإجرِ"، وأضف إلى ذلك الوجاهة الاجتماعية بالاقتراب من عالم
الأضواء، ومع ذلك فهؤلاء المنتجون الموزعون، بهذا الفكر القاصر، هم الذين
يصوغون القيم الأخلاقية والسياسية لمن يتفرج على أفلامهم. لم يقف فى طريق
هؤلاء أحد عندما يرتكبون الخطيئة الجوهرية فى أية صناعة سينما، فى جمعهم
للإنتاج والتوزيع والعرض، فهذا الاحتكار لن يؤدى بعد سنوات قليلة إلا
للانهيار، هذا الانهيار الذى يمكن أن تلحظ بوادره فى تراجع متزايد فى عدد
الأفلام وتدنى مستواها. إلى جانب ذلك، أرجو أن تتأمل فقط أفلام إحدى هذه
الشركات، التى جاءت بأموالها من عالم القرى السياحية، لتصنع أفلاما تسخر فى
وقاحة من شهداء حرب أكتوبر، وتهزأ بـ"كل" التاريخ النضالى فى مصر، وبعد ذلك
يتصور (أو الحقيقة: يزعم) البعض أنه يمكن أن يصنع من خلالها أفلاما
"ناصرية" أو تنادى بالحرية الفكرية، أو تدعى أنها كذلك!! (لعلك تفهم لماذا
يعمل الناقد الكبير إياه كبوق دعاية لأفلام هذه الشركة، لكن هل تستطيع أن
تفهم لماذا يسير بعض الحواريين "الغلابة" خلفه؟).
أعرف الآن ياعزيزى القارئ أنك تنتظر منى قائمة تمثل _ من وجهة نظرى _
أفضل عشرة أفلام مصرية فى العقد الأول من القرن العشرين، وأعترف لك أننى
بذلت جهدا كبيرا لكى أحدد هذه الأفلام العشرة (عشرة فقط فى عشر سنوات!!)،
بل إننى أعترف لك أيضا أننى لا أرضى كل الرضا عن بعض مما جاء فى هذه
القائمة، لكنها على أية حال، وكما أعتقد، تعطيك لمحة عن الأسماء التى
تتعامل بجدية مع الفن السينمائي، وإن لم يكن بعضها يلتزم بذلك دائما! هذه
الأفلام بترتيب عرضها: "أرض الخوف" (2000) لداود عبد السيد، "فيلم ثقافي"
(2000) لمحمد أمين، "الأبواب المغلقة" (2001) لعاطف حتاتة، "مواطن ومخبر
وحرامي" (2001) لداود عبد السيد، "سهر الليالي" (2003) لهانى خليفة، "باأحب
السيما" (2004) لهانى فوزي، "بنات مصر الجديدة" (2005) لمحمد خان، "ملك
وكتابة" (2006) لكاملة أبو ذكري، "فى شقة مصر الجديدة" (2007) لمحمد خان،
و"واحد صفر" (2009) لكاملة أبو ذكري. ويمكن بالطبع وبدون أدنى شك للقارئ أو
أى ناقد زميل أن يختلف مع هذه القائمة، لكن تلك هى رؤيتى الشخصية للإنجاز
الإبداعى للسينما المصرية فى أعوامها الأخيرة، والذى يشير _ كما أتصور _
إلى أنه ما يزال للتيار الجاد من جيل الثمانينات، ممثلا فى داود ومحمد خان،
حلمه وإصراره على صنع سينما حقيقية كلغة ورسالة بالمعنى الأعمق للكلمتين،
وإن كانت الظروف تعانده بقوة، فداود على سبيل المثال قضى عشر سنوات لكى
ينجز فيلمه الذى لم يعرض بعد "رسائل البحر"، وما يزال بعض من فرسان هذه
الكتيبة لا يجدون الفرصة للعودة إلى السينما مثل خيرى بشارة. من جانب آخر
فإن فرسانا جددا مثل عاطف حتاتة أو هانى خليفة لم يجدوا الفرصة إلا لصنع
فيلم واحد، بينما بدأ محمد أمين طموحا وانتهى إلى السينما التى ترقص على
السلم بمغازلة النقاد و"زغزغة" المتفرجين بأفلام مشوهة الشكل والمضمون، فى
الوقت الذى تملك فيه مخرجة شابة مثل كاملة أبو ذكرى رهافة التعبير وعمقه،
دون أن تقع (كما يحدث لمخرجات أخريات) فى إغراء البهلوانيات السينمائية
الفارغة، وإن كانت تلجأ بين الحين والآخر إلى "تقفيل" فيلم تجارى متواضع.
لعلك لاحظت أبها القارئ العزيز أننى لم أتوقف عند أى فيلم لأى من
النجوم أو النجمات الذين يحتلون السينما المصرية الآن، فاعتقادى الذى أومن
به كل الاعتقاد أنهم نجوم مصطنعون، فإن غاب أحدهم أو إحداهن عن الشاشة (كما
حدث بالفعل) فلن يشعر أحد منا بافتقاد شيء ما، وهو ما يتناقض مع مفهوم
"النجومية" بمعناها الحقيقي، التى لا تعنى كما يتصور البعض أنها "البضاعة
الأكثر مبيعا"، لكن النجم أو النجمة هما جزء من واقعنا وجزء آخر من
أحلامنا، والنجومية ليست ظاهرة فنية فقط، بل إنها فى جوهرها ظاهرة اجتماعية
وسياسية، إن النجم الحقيقى يظهر على الشاشة بالنيابة عنى لكى يقول ما أريد
أن أقوله لكننى أعجز عن قوله، وهو الذى يفعل فى الأفلام ما لا أستطيع أن
أفعله فى الحياة وإن كنت أتمناه. ولأن السياق الذى نعيش فيه يتضمن واقعا
بائسا يائسا بلا أحلام، فلا وجود لنجوم حقيقيين فى السينما والسياسة على
السواء... ليس هناك قادة ثقافيون أو سياسيون بالمعنى الحقيقى للكلمة، ولم
يكن ذلك إلا سببا ونتيجة فى وقت واحد لثلاثة عقود من التراجع والتدهور
المادى والمعنوي، وربما لو ظهر ابن إياس فى زماننا لوجده يضاهى أكثر العصور
ظلاما فى تاريخ مصر، ومصر يا من تتحدثون عنها بوصفها "فوق الجميع" ليست
كتلة مصمتة أو صنما معبودا، وهى ليست النظام الحاكم فى أى من العصور، إنها
الآن أنا وأنت كما نعيش هذه اللحظة من التاريخ، وبقدر ما ننجز تكون "مصر"،
لأنها كائن حى تتفاعل فيه ومعه كل المؤثرات الإيجابية والسلبية، إنها تصح
وتمرض، وهى الآن فى طور متأخر من المرض، ولعلها يوما تسترد صحتها وعافيتها،
لكى تدخل العقد الثانى من الألفية الثالثة، وتنسى العقود الثلاثة المظلمة
التى لن تستحق من التاريخ سوى نظرة الشفقة الممتزجة بالازدراء تجاهنا،
لأننا لم نؤدِ واجبنا البديهى ليس فقط تجاه مصر، بل تجاه ما يعبر عن أبسط
شروط الكرامة والثقافة الإنسانيين.
العربي المصرية في
05/01/2010 |