يفتح عنوان الدراما التاريخية الشهية، على جوانب وعناوين، لعل من أهم
عناصرها الإيجابية أن الأمة، في زمن سايكس بيكو، وتوغل فكر التجزئة
الإقليمية، والهزائم المستدامة في الحياة العربية، بأمس الحاجة إلى رافعة
وجدانية قوية تعيد الاعتبار للفكر القومي، وتستعيد زمن الوحدة التي صنعت
عظمة العرب، وحققت انتصاراتهم المدوية، على أكبر إمبراطوريات ذلك العصر:
الفرس والروم، وامتدت عبر العالم إلى حدود الصين شرقا وفرنسا غربا، ثم
واجهت جحافل المغول والتتار والصليبيين، ولاحقا الأتراك والغرب الاستعماري
الحديث.. فيما تتواصل المواجهات في فلسطين ولبنان والعراق.
ولكن ماذا عن الدراما التاريخية؟ جاء هذا السؤال في سياق ورشة إذاعية على
هيئة طاولة فضائية مستديرة، حول الدراما التاريخية والهوية العربية ،
بمساهمة أربعة أقطار عربية وعدد من النقاد وكتاب الدراما والإعلاميين: من
سورية، التي تولت تنظيم الورشة، ياسر بدوي، وحسن م يوسف كاتب المسلسل
المعروف إخوة التراب ، ومن مصر أمنية الأنباري، ولميس جابر (زوجة الفنان
يحيى الفخراني) كاتبة مسلسل الملك فاروق ، ومن المغرب أسمهان حمور والكاتب
قمري بشير، ومن الأردن مأمون مساد وكاتب هذه السطور.
لعل أبرز ما يواجه الباحث في الدراما التاريخية وجود تناقض فعلي بين طرفي
المعادلة: الدراما والتاريخ، ذلك أن الدراما تنتمي إلى عالم الفن والتخييل
الإبداعي، مهما احتوت على وقائع من التاريخ، كما أن الكاتب الدرامي حتى وهو
يعود إلى الماضي البعيد أو القريب، فإن عينه تظل على الحاضر، كي يسهم
بإنجاز وظيفة الفن، حسب أرنست فيشر، المتمثلة في تغيير الإنسان وبناء
المستقبل. أما المؤرخ فإنه يرجع إلى التاريخ لكي يبقى فيه مدققا الوقائع
والأحداث ومتفحصا الوثائق والمعلومات، فالمهم بالنسبة له الحقيقة المجردة
أيا كانت، أما الدرامي فإنه يتناول فقط جانبا من هذه الحقيقة التي تخدم
الهدف الذي ارتد إلى الماضي من أجله.
ولعل تناول الدراما العربية للشخصيات التاريخية يفوق ما عداه لدى الآخرين،
ومن أسباب ذلك، واقع حال الأمة بغياب الديمقراطية والحريات العامة في أغلب
أقطارنا العربية، مما يدفع كتاب الدراما ومبدعيها إلى محاولة التنفس الحر،
في زمن آخر، لنقد الراهن، بمفاسده وهزائم أنظمته، وربما بحثا عن صورة
البديل النقي في العصور الذهبية للأمة، حيث مجد الرسالة، وانتصارات القادة
(صلاح الدين الأيوبي، خالد بن الوليد، عمر بن العاص، الطارق بن زياد،
الظاهر بيبرس، سيف الدولة الحمداني)، وعدل الحكام (عمر بن عبد العزيز)،
ونقد بطشهم (الحجاج)، واستحضار عظمتهم (هارون الرشيد، المعتصم، فارس بني
مروان)، وإظهار طموحهم (صقر قريش، شجرة الدر، محمد ابن أبي عامر، زنوبيا)،
واستبيان فكرهم (ابن رشد)، والاتعاظ بمصائر الممالك والدول، مثل الأندلس:
(سقوط غرناطة، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف، المرابطون)، وكذا عن سقوط بغداد
مع الموت القادم من الشرق ، و تغريبة فلسطين .. إلخ.
بمعزل عن آليات التناول وأهدافها الفكرية والسياسية وما يمكن أن تنطوي عليه
من ترميزات وإسقاطات معاصرة، تكاد الدراما التاريخية، تتفرع إلى ثلاثة
عناوين أساسية:
- الدرما التاريخية (الرسمية)، ويمكن الإشارة هنا إلى عدد من الأعمال
الأردنية، لوليد سيف: الخنساء ، عروة بن الورد ، طرفة بن العبد ، شجرة الدر
، الصعود إلى القمة (عن حياة محمد بن أبي عامر)، صلاح الدين الأيوبي ، صقر
قريش ، ربيع قرطبة . ولجمال أبو حمدان: ذي قار ، الحجاج ، امرؤ القيس ،
زمان الوصل . وهناك بالطبع أعمال كاتب الدراما محمود الزيودي: عبد الملك بن
مروان ، الأنباط ، الدومة الهلالية .
- الدراما الأسطورية التراثية المرتبطة بشخصيات قد يكون لبعضها أساس من
الحقيقة التاريخية، كعنترة والمهلهل والزناتي خليفة وسيف بن ذي يزن، ودليلة
وعلي الزيبق، وزرقاء اليمامة وشهرزاد.
- دراما الفانتازيا التاريخية التي برعت فيها الدراما السورية أساسا، والتي
تستعير من التاريخ فضاءه الزماني والمكاني ومكوناته من لباس وسلاح وصحراء
وإكسسوارات، كما في غضب الصحراء و العبابيد والفوارس و الكواسر و البواسل و
الجوارح .
إن سر امتياز النص الدرامي التراثي والتاريخي وانتشاره، رغم تكلفته
الإنتاجية العالية عموما، هو وجود هذا المشترك الوجداني والمعرفي بين طرفي
المعادلة الإبداعية: المرسل والمتلقي، وكذلك ما هو راهن بينهما.
فحين يذهب المبدع الحقيقي إلى الماضي، سواء أكان تاريخا رسميا أم تراثا
شعبيا، فإنه يفعل ذلك لأنه مسكون بهموم الحاضر وهواجس المستقبل، التي تعني
بالطبع الجمهور المتلقي.. ومثل هذا الهاجس المعاصر، هو الذي سيحدد بالضرورة
زاوية التناول وأساليب المعالجة، وبالتالي فهو الذي سيبني الوقائع
والشخصيات، ويدير الحوار، ويشحن العمل الفني بالرموز والدلالات الموحية
التي تجعل المتلقي يتفاعل مع مضامين الخطاب الإبداعي الذي توخاه المؤلف
وكاتب السيناريو والحوار، أولا، ثم فريق العمل مخرجا ومنتجا وممثلا وحتى
مصورا ومؤلفا موسيقيا.. ذلك أنه من دون هذه الورشة الإبداعية، لن تستطيع
الدراما التاريخية القيام بفعل التغيير المنوط بها.
يذهب صانعو هذه الأعمال جميعا إلى الماضي وعيونهم على الراهن والمستقبل،
حتى وإن تناقضت أيديولوجياتهم وأسبابهم، فهناك من يستعيد الماضي ليحنط به
الحاضر والمستقبل، وهناك من يستعيده على طريقة رجعة القوس إلى الوراء كي
ينطلق إلى الأمام أبعد، مستفيدا من إيجابيات التاريخ ودروسه.
عند الحديث عن الدراما التاريخية، يبرز بالطبع موضوع الشخصية التاريخية
ومعها السؤال المشروع عن المسافة الزمنية التي لا بد أن تفصل هذه الشخصية
عن الراهن مثل: ناصر والسادات وأم كلثوم وأسمهان، الشعراوي، قاسم أمين.. أو
ما عرض في شهر رمضان الماضي، مثل: ليلى مراد، جبران، إسماعيل ياسين.
وبالطبع كلما اقتربت المسافة الزمنية تعاظمت الالتباسات والاعتراضات وحتى
الاحتجاجات القانونية من الأهل والورثة، ذلك أن الدراما هنا تشتغل على
اللحم الحي للشخصية، حتى وإن فارق صاحبها الحياة، مثل سعاد حسني وحليم
ونزار قباني. وجانب من إشكالية المسألة هنا ناتج من أن العديد من هذه
الشخصيات ما يزال جزءا من الصراع السياسي والثقافي الراهن لتغليب وجهة نظر
على أخرى، كالناصرية مثلا، أو قاسم أمين ومسألة الحجاب وتحرر المرأة.
الأمر هنا لا يتصل فقط بالشخصيات المعاصرة، بل تذهب هذه الاعتراضات حتى نحو
الشخصيات الموغلة في القدم، ذلك أن التاريخ حمال أوجه، فلا يلبث المبدع
الكاتب / المخرج أن يصطدم، حتى وهو يهرب إلى الماضي البعيد، بعقبات معاصرة
من نوع آخر، خصوصا مع مرجعيات دينية، إذ لا يكتفي هؤلاء بالرقابة بما يمس
المقدس من الجوانب والشخصيات الدينية، بل يصبحون مسؤولين حتى عن الشخصيات
التاريخية. إذ كاد يهدر دم أسامة أنور عكاشة بسبب عمل درامي عن عمرو بن
العاص، وتدخلت مؤسسة الأزهر محتجة على عدد من الحوارات والمشاهد في العمل
الدرامي الذي تناول هارون الرشيد.
يقول الفنان نور الشريف، إنه بالإضافة إلى الرقابة التلفزيونية العادية،
هناك رقابة الجهات الدينية . والمثال على ذلك مسلسل رجل الأقدار ، الذي
تناول شخصية عمرو بن العاص، إذ أصر الأزهر الشريف على حذف كل ما يتعلق ب
الفتنة الكبرى .
وإذا كان ذلك الأمر يتصل بمضمون التاريخ، فماذا فعلت الرقابة تجاه حتى
جزئية صغيرة تتصل بطريقة مشي عمر عبد العزيز؟ يقول نور الشريف: عندما قدمت
شخصية عمر بن عبد العزيز كانت هناك العديد من المحاذير الرقابية.. فمثلا
عمر بن عبد العزيز كانت له طريقة شهيرة في المشي عرفت بالمشية العمرية.
الأزهر طلب عدم تناول ذلك عند أداء الشخصية، لأنهم وجدوا أن هذه الطريقة في
المشي لن تكسب الشخصية الرصانة والقدسية الدينية المطلوبة، رغم أنها جزء من
الواقع الحقيقي لشخصية عمر بن عبد العزيز .
وعند تقديم هارون الرشيد في مسلسل الأمير المجهول ، واجه العمل العديد من
المشاكل، إذ طلب الأزهر حذف العديد من مواقف هارون الرشيد وعدم ذكرها في
المسلسل، رغم أنها وقائع مذكورة ومدونة في كتب التاريخ التي تناولت حياته.
وهنا يبرز السؤال المشروع: لماذا كل هذا الحرص على تقديم شخصيات الماضي
وحكامه على هذا النحو من الكمال المطلق؟
الفنان الذي يهرب إلى التاريخ كي ينقد الحاضر ويعري مفاسده، يجد نفسه وهو
تحت وطأة المراجع الرقابية المتعددة، مضطرا إلى تصنيم الماضي وتقديس
شخصياته فيكف التاريخ أن يكون درسا للراهن، ويتحول إلى أداة جديدة لخدمة
السائد الذي يهرب منه.
ثمة جانب يتصل بفنيات المسلسل العربي التاريخي، فوفق التقنيات الشائعة
والمعروفة فإن مشهد الشاشة التلفزيونية التي يتحلق المشاهدون حولها تكاد
تعيدنا إلى شرط الثقافة الشفاهية الفنية لصورة الحكواتي أو السامر التي
تقوم أساسا على الإمتاع الدرامي المباشر بوجود عنصري المرسل والمستقبل،
وهنا الشرط الفني ليس ثابتا، إذ إن المرسل لا يلبث أن يطور في مادته
الدرامية المرسلة بحسب ملاحظاته على حالة التلقي واحتياجاتها، تبعا للمكان
والزمان، وهذا ما كان يفعله السمار والحكواتية وهم يعيدون، وفق حالات
التلقي، بناء شخصيات أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة وزياد بن غانم في
التغريبة الهلالية، وسير المهلهل وعنترة وسيف بن ذي يزن وأبو محمد البطال
والأميرة ذات الهمة وحمزة البهلوان، وحتى في حكايات الصعاليك والشطار مع
علي الزيبق ودليلة المحتالة.. ولعلنا سمعنا كثيرا كيف أن الجمهور كان يرفض
الإفراج عن الحكواتي قبل أن يفرج عن ابن غانم من السجن، فهو لا يستطيع
الانتظار حتى الليلة التالية أو الحلقة الثانية بلغة مسلسلات هذه الأيام.
nazihabunidal@hotmail.com
الرأي الأردنية في
01/01/2010 |