منذ سنين طويلة، تابع
الحركة السينمائية اللبنانية والعربية بشغف لا مثيل له. أطلّ على العالم
بنظرة باحث
عن الملذّات المصنوعة في الفن السابع، لكنه اشتغل في شؤون الثقافة والمعرفة
والعلوم
أيضاً. لم يبق أسير مكتب، لأنه «نزل» إلى الميدان مراقباً
وعاملاً في بلاتوهات
مخرجين لبنانيين وعرب، أبرزهم يوسف شاهين أيام «بيّاع الخواتم». بدأ
الكتابة
النقدية في لحظة تحوّل حقيقي شهدته بيروت مطلع السبعينيات المنصرمة، فإذا
به يُصبح
أحد أبرز منظّري حقبة مليئة بالأحلام والنشاط والسعي الدؤوب
اتغيير النمط التجاري
المعمول به حينها، بهدف تحويل عدسة الكاميرا السينمائية إلى عين تلتقط نبض
الشارع
وحيوية الفرد. أراد، كمجايليه العاملين في الإخراج والنقد وشؤون الثقافة،
جعل
الإبداع ملازماً للتفاصيل الإنسانية الفردية والجماعية، أو
مرآة لها.
لحظة
تاريخية
في تلك الفترة، التقوا جميعهم عند الحدّ الفاصل بين مرحلتين متناقضتين.
مخرجون ونقّاد ومثقفون حوّلوا مقاهي بيروت وأزقّتها وصالاتها وفضاءاتها
الفكرية
والمعرفية إلى ساحة إنتاج واشتغال ونقاش. جعلوا الحيّز
الجغرافي منطلقاً لقراءة
الزمن المقبل. غاصوا في الواقع اليومي. حلّقوا بأحلامهم الكبيرة. ثابروا
على العمل
مسلّحين بقناعة وشغف والتزام وحيوية. ضربتهم الحرب الأهلية المندلعة في
منتصف
الطريق بين انطلاقتهم الأولى وبدايات حصولهم على نتائج
أفعالهم، لكنهم ظلّوا على
تماس مع الراهن، قبل أن يتشتّتوا في أصقاع الدنيا، أو في مجاهل «الحروب
الصغيرة»
التي أحرقت المدينة وناسها. كانت باريس
ولندن أكثر المدن الأوروبية التي احتضنت
جماعة «السينما البديلة»، المنتقلة إلى مجاهل المنفى، قبل أن
يصقل المنفى أفكارهم
وأيامهم، ويحصّن بداياتهم بتحويلها إلى احتراف ومهنية. من هناك، ظلّ الناقد
مرتبطاً
بسينما بلده الصغير (لبنان) وحيّزه الجغرافي الأوسع (العالم العربي). لم
يتعب من
ملاحقة الجديد، ولم يتجاهل التجارب القديمة. فهو، بالتزامه
الكتابة طريقاً إلى
تأريخ اللحظة ومعاينة الآنيّ، جعل النصّ النقدي مشروعاً متلائماً والرغبة
الجماعية
في نهضة سينمائية عربية متكاملة، تنطلق من بيروت وتحطّ في القاهرة، وتفرد
جناحيها
على مدن عربية بدأت تنتبه إلى المعنى الإنساني والمعرفي والفني
للسينما. وهو،
ببقائه أعواماً طويلة في غربة عن مدينة وبلد، جعل منفاه والسينما معاً أشبه
ببلد
مفتوح على الثقافات والمعارف والصداقات.
إنه إبراهيم العريس. وهم، جيل
السبعينيات وصانعو «السينما البديلة». أسماء اختزلت تجارب
فردية واختبارات جماعية:
مارون بغدادي. برهان علوية. رنده الشهّال. جان شمعون. جان كلود قدسي.
جوسلين صعب.
وليد شميط. وآخرون كثر. أما الزمن، فبات
جزءاً من تاريخ طويل، عمل العريس على كتابة
فصول عدّة منه في مقالات وأبحاث ودراسات منشورة هنا وهناك،
ومحصّنة من الضياع في
كتب عديدة، أضاف إليها قراءاته النقدية الخاصّة به، التي تناول فيها شؤون
الفكر
والأدب والإعلام والفلسفة والاجتماع والفنون. في «السفير»، كان واحداً من
مؤسّسي
حكايتها الثقافية في لبنان والعالم العربي والغرب، منذ البدايات. في
«المقاصد»،
ساهم في جعل المعرفة في متناول قرّاء عديدين ومختلفين. في
«اليوم السابع». في «الوسط».
في «الحياة». في صحف ومجلات متخصّصة. هذا كلّه منتم إلى الجانب الصحافي
فيه، الذي حوّله إلى مراقب نقدي يُساجل ويدافع، لكنه يرتكز أساساً على
تشريح المادة
وتحليل مضامينها وأبعادها.
تنويعات
كتبه متنوّعة، غلب عليها طابع متداول في
جيل النقّاد السينمائيين العرب المنتمي إليه: جمع مقالات
ودراسات يُفترض بها أن تصل
إلى قرّاء شغوفين بدعم مشاهداتهم السينمائية بنصوص نقدية تضيف شيئاً من
الوعي
المعرفي لديهم: «ما من أحد من النقّاد، زملائي وأنا، تلقّى طلباً من دار
نشر معيّنة
للتفرّغ لبعض الوقت لوضع كتاب نقدي تتولّى نشره. الحلّ،
بالنسبة إليّ، وسطي. ذلك أن
ما ضمّه كتابي «سينما الإنسان» («منشورات وزارة الثقافة/ المؤسّسة العامة
للسينما»،
دمشق، 2003) ليس مقالات صحافية فقط جمعتها في كتاب، بل مجموعة دراسات
نشرتها
متفرّقة في مجلات فصلية». أضاف العريس: «هذا كلّه لا يعفيني من ضرورة
العمل،
فعلياً، على وضع كتب حقيقية، حين تسنح لي فرصة ما». له، في هذا
المجال، كتب أخرى
مؤلّفة بالكامل. أبرزها: «الحلم المعلّق» («دار النهار للنشر»، بيروت،
1994). أراده
تحية للسينمائي الراحل مارون بغدادي، وسيرة نقدية جمعت الذاتي بالمهني
والفكري
بالجمالي، ووضعت أفلام الرجل في دائرة الضوء السجالي النابع من
قناعة العريس بالدور
الجوهري الذي لعبه بغدادي، وبالمستقبل الواعد له، قبل أن يسحقه الموت
الخاطف في
لحظة الألق والنضج. آخرها: «يوسف شاهين، نظرة الطفل وقبضة المتمرّد» («دار
الشروق»،
القاهرة، 2009)، الذي «لم يوضع بعد رحيل شاهين، بل استُكمِل فقط بعد هذا
الرحيل» (ص 13).
ذلك أن لشاهين مكانة خاصّة وكبيرة في ذات إبراهيم العريس، وللعريس حيّز
خاصّ
وكبير في ذات يوسف شاهين. أهي مجرّد صداقة عابرة، أم علاقة
وطيدة ارتكزت على
الصداقة وطالت شؤون الفن والثقافة والحياة والأفكار؟ أين تبدأ الصداقة،
ومتى يحين
موعد النقد بينهما؟ أكّد العريس على أن الجانبين متلازمان، لأن الأولى
(الصداقة) لم
تمنع الطرفين من النقاش الحادّ أحياناً، ولأن الثاني (النقد)
ظلّ حريصاً على جعل
القراءة النقدية موضوعية وسليمة، في مقابل حرص المبدع على أن يكون النصّ
النقدي
الموضوعي والسليم إضاءة واستنارة وسنداً.
لا ضرورة للبحث عن سبب اختيار إبراهيم
العريس مخرجاً عربياً كبيراً كيوسف شاهين مادة لكتاب، يُعتبر
دراسة نقدية متكاملة
خاصّة بنتاج سينمائي، لا يزال لغاية الآن محرّضاً فعلياً على السجال
والتنقيب في
دلالاته وأبعاده وحضوره في الوعي والذاكرة والراهن. فالاختيار جزء من حرية
الناقد
المبدع، الذي يذهب إلى مادته حبّاً بها أولاً، ورغبة منه في
«المشاركة» في إعادة
صنعها ثانياً. أو قراءتها بمنظار خاص به، على الأقلّ. مع يوسف شاهين، غاص
العريس في
العوالم المختلفة التي ابتكرها المخرج، جاعلاً من غوصه فيها إضاءات ذاتية
ومقاربات
نقدية منحت النتاج الشاهيني حيوية ثقافية تؤكّد عمق المساحة
التي لا يزال شاهين
يحتلّها، وسعتها الجغرافية والجمالية والفكرية. والعريس، باختياره شاهين
مادة
لكتابه الأخير هذا، وازن دائماً بين قناعاته النقدية وصداقته طويلة الأمد
مع المخرج
الراحل، ما أنتج متعة في القراءة، ولذّة في اكتشاف مفاتيح أخرى
(أو إعادة اكتشاف
مفاتيح معروفة) لولوج هذا العالم الشاهيني. الدليل: قدرة الناقد على ممارسة
دوره في
تحليل الأفلام والأفكار وأدوات التعبير الجمالي والدرامي، بعيداً عن سطوة
الصداقة،
التي شكّلت، في الوقت نفسه، حماية للناقد في رحلته الجميلة
هذه: «لعبة العلاقة مع
النقد كان شاهين يُتقنها إتقاناً تاماً. كان يعرف أن المبدع في حدّ ذاته هو
صاحب
نظرة نقدية تُلقى على الآخر، على التاريخ وعلى الذات. وبالتالي، لا يحقّ له
أن يغضب
حين يلقي ناقدٌ ما نظرة قاسية على أعماله هو نفسه».
أفلام. مواقف. اشتغال
سينمائي. متابعة دقيقة للتحوّلات الحاصلة في العالمين العربي والغربي. هذه
تفاصيل
تناولها إبراهيم العريس محلّلاً ومستقصياً مكامن الإبداع في الأفلام كلّها
التي
صنعها شاهين، وإن شاب بعضها خللاً أو ارتباكاً، وإن أُنجز عددٌ
منها بناء على طلب
مسبق أو حاجة ما. بهذا المعنى، أظهر العريس المعنى الجميل للشغف، الذي
يميّز بين
الغثّ والسمين، من دون أن يتغاضى عن ملامح الجمال في أعمال أقلّ أهمية
وبراعة من
غيرها.
السفير اللبنانية في
31/12/2009
كلاكيت
وردة لي
نديم
جرجوره
في هذه اللحظة، أسأل
نفسي: «من يُغادر من أو ماذا: أنا، أو العام المنصرم، أو العمر الذاهب إلى
الأمام
بسرعة؟». لا مجال للتشاؤم الآن. أتمنّى قدرة على التخلّي عن حذري القاسي
إزاء
الجمال. أرغب في لحظة سكينة صافية وعميقة. ليس الجواب مهمّاً.
لم تعد الأجوبة
شافية. لم تكن شافية أصلاً. جذر المأزق، أن الأجوبة غدّارة. تحمل انشقاقاً
وصدمة.
تحتمل تأويلات تأخذ طارحها إلى أسئلة أخرى.
تغرقه في دائرة مغلقة. لا أريد حزناً.
لم تعد تعنيني المعرفة. فيها خيبات وأوجاع.
فيها مرارة. فيها تمزّق لا يلتئم. أحاول
أن أخفّف من وطأة شقائي. اللحظة مناسِبة. مفتوحة هي على أفق جديد. لا يعني
الجديد
فرحاً وجمالاً. لكنه احتمال. لماذا لا أعيش في الاحتمالات؟ أو بها؟ أن
تعرف، أمرٌ
ضروري وإن كان متعِباً. أن لا تعرف، أمر مريح وإن عزلك عن
نفسك. النفس أمّارة.
العين قاتلة. البصيرة مدمِّرة. لكنه القدر.
في هذه اللحظة، أرغب في نشوة واحدة:
نوم عميق لدقائق. أقصد النوم الطبيعي. لم يأت بابا نويل إليّ في الأسبوع
الفائت.
انزعجت قليلاً. لكني انتبهت إلى أن أولاداً
صغاراً، كانت لهم «يد إلهية» ذات مرّة،
طعنوه في صدره. لم يمت. ضحكت كثيراً. الآن، أريد هديتي. أريد
من العام المقبل هدية.
أن أنام عميقاً لدقائق. أعرف أن هذياناً كهذا مثير للسخرية. لماذا أكتب عن
نفسي في
حيّز مفتوح على النقاش والسجال؟ كيف يُعقل أن أحوّل مكاناً عاماً إلى
مناجاة مفرّغة
من أي معنى؟ لم أستطع العثور على ما يُشفي ظمئي إلى المناكفة.
تذكّرت بائعة الورد
العجوز، التي تأتي خفرة، وتغادر المكان الليليّ صامتة. أجمل ما فيها أنها
مرآة
لذاتي المسحوقة. أراها بعين القلب وأتضايق من عجزي عن مواجهة صورتها
البديعة.
تذكّرتها. أردتُ الكتابة عنها ولها. قلتُ في نفسي: «لا داعي لذلك. إنها
مجرّد بائعة
ورد. تشتري منها ورداً للحبيبة أحياناً، ووردة لي غالباً. يكفي هذا».
مساء
اليوم، هناك احتفالات جمّة. هناك أناس منشغلون بوداع عام واستقبال آخر،
كعادتهم في
كل مرّة. منجذبون هم إلى رفاهية مصطنعة يرونها خلاصاً لبعض الوقت من أمور
شتّى. هذا
مظهر اجتماعي. ماذا يفعل أولئك الذين يسهرون كل ليلة من دون
انقطاع؟ كيف يتعاطون مع
سهرة الليلة هذه؟ أي جديد ممكن؟ أي قديم مغادر؟ الأجوبة غير مهمّة، أليس
كذلك؟
تذكّرت أني أمضيت ليلة رأس السنة ذات مرّة برفقة صديق داخل صالة سينما.
خرجنا بعيد
منتصف الليل. كان عام مرّ، وجاء آخر. بعد سنوات، توفي صديقي.
لم أعد أدخل صالة
السينما ليلاً، إلاّ نادراً. مشاهدة الأفلام نهاراً، أفضل. ليلة رأس السنة.
أي جديد
فيها؟ أي قديم؟ لا أعرف.
لا تصدّقوا بؤسي. إنها هواية الكتابة. أو متعتها.
اليأس لي. السهر لكم. إلى اللقاء.
السفير اللبنانية في
31/12/2009
كتاب
جاسم المطير:
مشاهدات سينمائية
اختار الكاتب العراقي
جاسم المطير تنظيم الدورة الثانية لـ «مهرجان الهرّبان السينمائي الدولي»،
الذي
أقيم قبل عامين في المدينة العراقية العمارة، لإصدار كتاب «مشاهدات في
السينما
العالمية» («دار الفارابي» في بيروت و«دار العنقاء للنشر» في
ميسان العراق، 2009)،
المتضمّن أربعاً وأربعين مقالة، غلبت عليها مسائل وأفلام
سينمائية، من دون التغاضي
عن بعض المواضيع التلفزيونية، وأبرزها مسلسل «الملك فاروق».
خليط أدبي وفني
أفضى إلى سلسلة مقالات مشبعة بهمّ شخصي/ ذاتي أولاً، وبرغبة في قراءات
متفرّقة
ثانياً، وبسعي إلى تحليل وسجال ثالثاً. أفلام عربية وغربية (أحلام، سكر
بنات،
الجنّة الآن، إلخ). شخصيات سينمائية متنوّعة (برغمان، فاتن
حمامة، تينيسي ويليامز،
صوفيا لورين، نوري بوزيد، مريم الحسوني، وغيرهم). مواضيع وتساؤلات (أفلام
الرعب،
سيناريو «كازبلانكا»، سينما المرأة، الاختطاف في الواقع والسينما، أفكار
وأرقام
السينما الأميركية...). عناوين الكتاب مفتوحة على مشاركة
الكاتب في التواصل مع الفن
السابع، على أرض الرافدين.
السفير اللبنانية في
31/12/2009 |