القاهرة: هذه المقابلة سُجلت صوتيًا في استوكهولم في مارس 1985، باللغة
البولندية. قام بترجمتها من البولندية إلى الإنجليزية "جان بيلويسكي".
إليكم المقدمة التي كتبها "إليج ونيوجر" اللذان عقدا المقابلة مع
تاركوفسكي، وقاما بكتابتها عام 1987.
جرت المحادثة المقدمة هنا في استوكهولم، في مارس 1985. في الوقت الذي كان
فيه تاركوفسكي يعمل في – إنهاء – فيلمه الأخير، المُعنون بـ "القربان" وهو
رسالة ميتافيزيقية عميقة، ذات أهمية بالغة تمامًا كما في فيلمه الأسبق.
كان محجوبًا عن الصحفيين والفضوليين بمجموعة كبيرة من المعاونين والشركاء،
وبصفة خاصة تمت مقابلتنا مع تاركوفسكي بعدما عرف أنه سيقابل بولنديين،
البلد القريب إلى قلبه، والذي حقق إنجازات وتحولات أوائل الثمانينات، كان
تاركوفسكي قد رحّب بها – كما اعترف – بفرحة غامرة، وقلق، وأمل. وهكذا
أصبحت هذه من أروع المقابلات فوق العادة التي مُنِحت للصحافة من قبل مبدع
عظيم مثله. وبعد أن كانت المدة المتفق عليها للمحادثة ساعة واحدة استغرقت
أربع ساعات خلالها كان انتقالنا من مبنى التليفزيون باستوكهولم إلى منزل
تاركوفسكي.
كان مٌحبطًا، فعلاقته مع الناس في الغرب تعرضت لكثير من سوء الفهم، بيد أنه
كانت السعادة بادية عليه لأنه يتكلم مع أشخاص من "هناك" . تم تسجيل أكثر من
ساعتين على شريط الكاسيت ثم تفريغهما كتابة كما سيلي في واحد من آخر
الحوارات الطويلة التي أُجريت مع تاركوفسكي بعد أن حدث وانتشرت أخبار المرض
الذي كان قد تمكّن منه في جميع أنحاء العالم.
وتم نشر وإعادة نشر هذه المحادثة كما ترجمت إلى العديد من اللغات
كالألمانية والسويدية والنرويجية والروسية والفرنسية والإيطالية.
·
قدمت لنا في "المرآة" سيرتك
الذاتية. ما نوع المرآة التي استخدمتها؟ هل هي مرآة "ستندال"، التي ترحل
عبر الدروب، أم أنها المرآة التي وجدت نفسك فيها، تعلمت شيئًا عن نفسك لم
تكن تعرفه من قبل؟ بعبارة أخرى: هل هذا العمل واقعي أم أنه من وحي إبداعك
الذاتي؟ أو ربما يكون فيلمك محاولة تجميع قطع المرآة المهشمة وتأطيرها
مُستخدمًا الصورة السينمائية لتأليف وحدة كاملة منها؟
تاركوفسكي: السينما بصفة عامة هي دائمًا خلق إمكانية لوضع قطع متجاورة داخل
وحدة واحدة. برغم كل شيء فإن الفيلم يتكون من مجموعة من المشاهد المنفصلة
التي تشبه الفسيفساء – قطع مختلفة في اللون والنسيج. وكل قطعة وحدها أو
مستقلة بذاتها قد تبدو وهي منعزلة بلا مغزى. لكنها ضمن الكل ستصبح عنصرًا
ضروريًا تمامًا، إن معناها أو تواجدها هو فقط بتواجدها داخل حدود أو إطار
هذا الكل، لذلك تبدو السينما بالنسبة لي مهمة بمعنى أن كل جزئية صغيرة في
الفيلم لا يجوز النظر إليها منعزلة، ولا يمكن أن تكون أية قطعة في الفيلم
محلاً للتأمل والتفكير فيها بالعينين معًا، إذ لابد من توجيه إحدى العينين
بعيدًا، وعين في الآن نفسه تنظر إلى النتيجة النهائية. وكل قطعة على حدة
تحمل لونها باعتباره مساهمة ضمن اللون النهائي للعمل ككل. لذا، فإن كل قطعة
لا تؤدي دورًا رمزيًا مستقلاً ذا دلالة مستقلة بذاتها ولكنها تتواجد فقط
كجزء من عالم معين له أصالته وله تفرده وخصوصيته التي تخالف تمامًا مدلول
أي قطعة منعزلة في حد ذاتها.
لذلك فإن فيلم المرآة قريب بمعنى معين أو من زاوية بذاتها من مفهومي النظري
عن السينما. ولعلك تتساءل: أي نوع من المرايا هذه؟
حسنًا، قبل كل شيء هذا الفيلم اعتمد في بنائه على سيناريو حياتي الشخصية
وليست به أية أحداث مُختلقة. الأحداث كلها كانت جزءًا حقيقيًا من
تاريخ عائلتي. كلها، دون استثناء. والحدث الوحيد الذي تم اختلاقه هو مرض
الراوي، المؤلف (الذي لم نره على الشاشة). بالمناسبة، كان هذا الحدث شيقًا
جدًا وضروريًا لكي ينقل الأزمة الروحية للمؤلف، الحالة التي كانت عليها
روحه. ربما كان مريضًا بشكل مميت وربما هذا هو سبب استدعاء الذكريات، التي
حيك منها الفيلم – ببساطة كأي رجل يتذكر أهم لحظات حياته وهو يحتضر.
لذا فإن هذه ليست قسوة سهلة يمارسها المؤلف على ذاكرته – أتذكر فقط ما
أريده – لا، فهذه الذكريات خاصة برجل يحتضر، الأحداث التي يستدعيها لها
قدرها ووزنها في ضميره ووعيه. هكذا فإن الحدث الوحيد المخترع أصبح ضرورة،
مطلبًا أساسيًا يخدم بقية الأحداث وكلها حقيقية تمامًا. أنت تسأل إن كان
هذا النوع من الإبداع، حين يخلق الفرد عالمه الشخصي، هل هذا الإبداع هو
الحقيقة: حسنًا، إنها الحقيقة بالطبع لكن بعد أن انكسرت أشعتها في منشور
خلال ذاكرتي. لنأخذ على سبيل المثال بيت طفولتي الذي صوّرناه، الذي رأيته
في الفيلم. هذا البيت كان موقع تصوير على الطبيعة، أُعيد بناؤه بالتحديد في
نفس البقعة حيث كان موجودًا من قبل، منذ سنوات عديدة، قبل التصوير.
ما كان موجودًا هناك كان... ليس حتى الأساس، فقط الحفرة التي كانت تحتويه
يومًا ما. وبالتحديد في هذه البقعة أُعيد بناء البيت، شُيّد من جديد عن
طريق الصور الفوتوغرافية، بمنتهى الدقة.
كان هذا مهمًا جدًا بالنسبة لي – ليس لأنني أردت أن أكون واقعيًا أو
طبيعيًا نوعًا ما، ولكن لأن موقفي الشخصي كله نحو مضمون هذا الفيلم بُني
على هذا البيت؛ وكانت ستصبح دراما شخصية بالنسبة لي لو بدا البيت مختلفًا.
بالطبع نمت كثير من الأشجار في هذا المكان، كل شيء نما بشكل مُفرط، كان
علينا أن نقطع الكثير من الأشجار. لكنني عندما أحضرت أمي إلى هناك، وهي قد
ظهرت في أحداث عديدة، أثار المشهد مشاعرها إلى حد كبير، ولحظتها أدركت أنني
خلقت الانطباع الحقيقي.
سيُفكّر أحدهم: لماذا كان إتقان إعادة بناء الماضي عملية ضرورية إلى هذا
الحد؟ بل ليس مجرد الماضي لكن أيضًا ما قمت بتذكّره وكيفية تذكّره. لم
أحاول البحث عن إطار محدد لما كان داخل نفسي وللذكريات الشخصية، بل إذا جاز
التعبير؛ على العكس – لقد جاهدت لإعادة تقديم كل شيء بالطريقة التي كان
عليها، كررت حرفيًا ما تركّز بشكل ثابت في ذاكرتي. والنتيجة صارت غريبة
جدًا... كانت تجربة فريدة ورائعة بالنسبة لي. صنعت الفيلم من دون حدث واحد
اصطناعي أو مُختلق، من أجل إثارة الجمهور، وجذب انتباهه، أو شرح أي شيء كان
له – كانت هذه الذكريات الحقيقية المستعادة خاصة بعائلتنا، سيرتي الذاتية،
حياتي. وبرغم الحقيقة وأن المسألة شخصية – أو ربما بسببها – فقد كانت فعلاً
قصة حقيقية خاصة جدًا، تلقيت عديدًا من الخطابات فيما بعد من المشاهدين
الذين سألني كل واحد منهم السؤال البلاغي: "كيف استطعت أن تكتشف حياتي
أنا؟" وهذا مهم جدًا، مهم جدًا بالمعنى الروحاني الداخلي بالذات. ماذا يعني
هذا؟ لقد ذكرته كحقيقة أخلاقية مهمة جدًا وذات معنى روحاني،لأنه إذا عبّر
شخص ما عن مشاعره الصادقة في شكل عمل فني، فإن هذه المشاعر لن تستمر كأسرار
محجوبة عن الآخرين. وإذا كان المخرج أو المؤلف كاذبًا، ويعمل الأشياء
باصطناع ، فسيصبح عمله بكل ما في الكلمة من معنى.
·
"مُتكلّف".
تاركوفسكي: نعم. في إيطاليا يقولون "سيرفيلوتيكو"، "تروبو سيرفيلوتيكو"، أي
"مصطنع"، "شديد الاصطناع". مثل هذا العمل لا يؤثر في أي شخص. لذا فإن
الفهم المتبادل بين المؤلف والجمهور، والذي لا يمكن أن يوجد بدونه العمل
الفني، سيكون ممكنًا فقط عندما يكون المبدع صادقًا.
ذلك لا يعني تلقائيًا أن أمانة المؤلف تجعل العمل بارزًا، حيث تظل القدرة
والموهبة هما الشرطين الأساسيين، وبدون المصداقية الفنية، رغم وجود القدرة
والموهبة، يستحيل تحقق صدق العمل الفني وإبداعه الحقيقي.
أعتقد أن الشخص إذا قال الحقيقة، شيئًا من الحقيقة الداخلية، فإنه سيكون
مفهومًا على الدوام. هل تفهم ما أقوله؟ – حتى حينما تكون المشاكل الأساسية
غاية في التعقيد، وتتابع الصور، والبنية الأساسية للعمل أكثر تعقيدًا –
بالنسبة للمبدع فإن المشكلة الأساسية ستكون دائمًا هي الصدق. وبالنسبة
لبنية وهيكل الفيلم، أرى "المرآة" بالنسبة لي وعمومًا أكثر أفلامي تعقيدًا
– كبناء، ليس باعتباره اجتماع قطع مُنفصلة، لكن بالتحديد كبناء، إنه تركيب
معقد غير عادي كتأليف، كالتفاف.
·
تمامًا كبنية الأحلام أو
الذكريات. وبصرف النظر عن كل شيء فهو ليس مجرد اجترار منتظم لذكريات أو
لقطات من الماضي.
تاركوفسكي: صحيح. هذا ليس تذكّرًا عاديًا. هناك تعقيدات كثيرة حتى أنني لا
أستطيع في ضوئها أن أفهم نفسي كلية. على سبيل المثال، كان مهمًا جدًا
بالنسبة لي وجود أمي في بعض المشاهد. هناك حدث واحد في الفيلم فيه الولد،
"إيجنات"، يجلس... ليس "إيجنات"... ماذا كان اسمه؟ – ابن المؤلف، جلس في
حجرة أبيه الخالية، في الحاضر، في زماننا. هذا هو ابن الراوي بالرغم من أن
الولد لعب دورين ابن المؤلف والمؤلف نفسه عندما كان صبيًا. وبينما كان
جالسًا هناك سمعنا جرس الباب، فتح الباب ودخلت امرأة وقالت: "آه، أعتقد
أنني أخطأت المكان" – كانت بالباب الخطأ. هذه هي أمي. وهي جدة الولد الذي
فتح لها الباب.
·
لكن لماذا لم تتعرف عليه، لماذا
لم يتعرف الحفيد عليها؟
تاركوفسكي: بصفة عامة لا أحد يعرف. ذلك – أولاً، الحبكة لم توضح هذا، في
السيناريو وثانيًا – حتى بالنسبة لي كان هذا غير واضح.
·
ليس كل شيء في الحياة مفهومًا
وواضحًا...
تاركوفسكي: لا، بالنسبة لي هو – كيف أستطيع أن أُصنّفه – إنه يندرج تحت
ترابط العواطف المتنوعة.
كان مهمًا لي إلى أقصى حد رؤية وجه أمي، فالقصة في نهاية المطاف هي قصتها،
دخولها المدخل في قلق، نوع من الارتباك، قليلاً على طريقة ديستويفسكي، من
"آل مارميلادوف". قالت لحفيدها آنذاك: "أعتقد أنني أخطأت المكان". هل تتخيل
هذا الموقف النفسي؟ كان مهمًا جدًا بالنسبة لي رؤية أمي في هذه الحالة،
رؤية وجهها عندما تكون مضطربة، عندما تشعر بالرهبة، بالخجل.
لكنني فهمت متأخرًا جدًا أن تجميع عدة حبكات فرعية محددة، لكتابة سيناريو،
مثل هذه الطريقة لإيضاح لماذا لم تتعرف عليه – سواء كان هذا بسبب ضعف بصرها
أو غيره... كان سيصبح سببًا سهلاً جدًا في تفسير ما حدث، لكنني قلت لنفسي
ببساطة: أنا لن أخترع أي شيء. دعها تفتح الباب، تدخل لا تتعرف على ابنها
(كما يقول الراوي) والولد لا يتعرف عليها بدوره وفي هذه الحالة سترحل وتغلق
الباب. إنها حالة روح إنسانية شديدة القرب مني، حالة من حالات الكآبة، حصار
روحي – كان مهمًا بالنسبة لي رؤية هذا. إنه بورتريه لإنسان في حالة ذُل
بَيّن، شعور بيّن بالانسحاق.
وعندما نضع هذا جنبًا إلى جنب مع مشاهد من شبابها، فإن هذا التسلسل يذكّرني
على الفور بحدث آخر: عندما جاءت وهي امرأة شابة إلى الدكتور لبيع أقراطها.
تقف تحت المطر، تشرح شيئًا ما، تتحدث عن شيء ما، لماذا تحت المطر؟ ولِمَ؟
ربما سيكون الأمر أفضل كثيرًا إذا لم يكن هناك ألغاز من هذا النوع. لكن
هناك أحداثًا عديدة مثل هذا بالضبط، بلا تفسير، مبهمة، ليس لدينا أي فكرة
بالمرة عما وراءها. على سبيل المثال، سيقول الناس: "ومن هذه المرأة العجوز
التي تجلس هناك تسأله أن يقرأ لها خطاب بوشكين إلى شادييف؟ أي امرأة هذه؟
أخماتوفا؟" – كل شخص سيقول هذا. هي في الحقيقة بدت ضئيلة مثلها، لديها نفس
البروفيل وهي قادرة على أن تذكّر بها. المرأة لعبت دورها "تامارا
أوجورودنيكوفا"، مديرة إنتاجنا، في الحقيقة كانت بالفعل مديرة إنتاجنا في
"روبلوف"، إنها صديقتنا الحميمة التي قمت بتصويرها تقريبًا في معظم أفلامي.
إنها كانت لي كتعويذة. لم أفكر أنها أخماتوفا. كانت بالنسبة لي شخص من
"هناك" يمثل عادات وتقاليد ثقافية معينة مستمرة لا تموت، تحاول دائمًا بكل
ما في وسعها أن تربط هذا الولد بهم، وتربطهم بشخص صغير السن، بالشخص الذي
يعيش في هذا اليوم وهذا العصر. هذا مهم جدًا، باختصار – إنه ميل أكيد، جذور
ثقافية محددة. هنا في هذا البيت، ثمة رجل يعيش فيه، المؤلف، وها هو ابنه
الذي يتأثر بهذا المناخ، بتلك الجذور. برغم كل هذا لا نعرف بالتحديد من
تكون هذه المرأة. لماذا "أخماتوفا"؟ – تحمل قليلاً من الطموح. ليست هذه أية
"أخماتوفا". ببساطة اعتبر هذه المرأة بالضبط هي التي تصلح ما تمزق في مجرى
الزمن – تمامًا كما عند شكسبير، في هاملت. إنها تقوم بترميمه بالمعنى
الروحي والثقافي. إنها الرابطة بين الزمن الحاضر والماضي من الأوقات، أوقات
"بوشكين" أو ربما زمن لاحق – لا يهم.
اكسبني هذا الفيلم خبرة عظيمة جدًا، وفي منتهى الأهمية، فقد أصبح مهمًا
للجمهور تمامًا كما أصبح بالنسبة لي. ولم يكن مهمًا أن تكون القصة خاصة فقط
بعائلتنا ولا شيء آخر، المهم أنه بفضل هذه الخبرة تمكنت أن أرى وأفهم أشياء
كثيرة. هذا الفيلم أثبت أن هناك رابطة بيني كمخرج، وكفنان إذا أردت، وبين
الناس الذين عملت من أجلهم. لهذا كله صار هذا الفيلم مهمًا جدًا بالنسبة لي
لأنني منذ فهمت ذلك، لم يستطيع أحد أن يشكو من أنني لا أصنع أفلام للناس.
بالرغم من أن الكل اشتكوا من ذلك فيما بعد، على أية حال. لكنني لا أستطيع
أن أوجه هذه الشكوى إلى نفسي بعد الآن.
·
حياتك وكذلك حياة أسرتك لم
يتشكّلا وفقًا للنموذج الأساسي للواقعية. فلم تكن ثمة نموذجية – بالرغم من
أن المشاهدين وجدوا في الفيلم، كما ذكرت، صور حياتهم الشخصية متجسدة فيه.
ماذا قدم لك والداك وبيتهما ونطاق الأسرة اللصيق بك؟ وأخيرًا، ما هو مصدر
إلهامك الفني والثقافي؟ نحن نسأل هذه الأسئلة لأن الفنانين الروس بالنسبة
للمشاهد البولندي بدون سيرة ذاتية – هذه صفة مميزة جدًا – في حين لا يعرف
المشاهد البولندي عن الفنانين الغربيين تقريبًا أي شيء عدا سيرهم الذاتية.
تاركوفسكي: أتعرف – هذا صحيح، لكنه أيضًا غير صحيح. أنت على صواب وأيضًا
مخطئ بمعنى من المعاني. مخطئ بخصوص الانطباع الذي أخذته عن الفنانين الروس
حيث لم تنتبه للقصص الأصلية لحياتهم . بالطبع، إذا قارنهم أحد بغيرهم من
الفنانين المُحدثين عندئذ ربما تكون على صواب. أنا عن نفسي لم أعقد أبدًا
أية مقارنات بيني وبين الفنانين الحاليين.
أشعر دائمًا بشيء ما يربطني بفناني القرن التاسع عشر. خذ مثلاً "توليستوي،
ديستويفسكي"، والكتاب الآخرون من نفس النوعية، "تشيخوف، تورجنيف، ليرمنتوف"
أو، قل "بونين" – عندئذ سترى أي حياة فريدة تلك التي كانوا يعيشونها وكيف
كانت أعمالهم قريبة جدًا ومتصلة بحياتهم، بأقدراهم.
طبعًا، ما أريد أن أقوله لا يعني تمامًا أنني ألغي نفسي، إن صح القول، من
السياق الثقافي للـستينات، والسبعينات والثمانينات في الإتحاد السوفيتي.
ليست هذه هي القضية. لكنني بشكل قاطع ضد بعض الآراء الفجائية التي قامت
بفتح تلك الهوة عقب الثورة. هذه الهوة تم خلقها عمدًا، لكي تكون إلى حد ما
بداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الثقافة الروسية، لكنني أعتقد أن الثقافة
لا يمكن أن تتطور في الفراغ . نحن قادرون على محاولة نقل بعض النباتات
عالية القيمة، نقطفها ونستزرعها. لكنها لن تنمو، لا شيء سينمو ويكبُر. لذلك
فإن الكتاب الذين مروا بنقطة التحول هذه انتهت بهم أقدارهم إلى صورة
مأساوية جدًا، هؤلاء الذين بدأو الكتابة قبل الثورة وواصلوا عملهم بعد ذلك:
ألكسي تولستوي، جوركي، مايا كوفسكي، بلوك، تلك هي المأساة. و"بونين"... هذا
يشكل بصفة عامة دراما فظيعة. "أخماتوفا"... الله يعلم من أيضًا. مأساة.
"تسفيتيفا"... لم يربح أحد أي شيء، كان الاستزراع مستحيلاً. كان من الضروري
ألاَّ يكون هناك استزراع. ببساطة يجب ألاّ يُسمح لأحد بهذا التجريب الفظيع
في الثقافة مثل هذه التشريحات أكثر قسوة من الانتهاكات التي تمارس على جسم
الإنسان، إنهم يسجنون الأرواح، خذ على سبيل المثال "بلاتونوف"، وهو ينتمي
إلى هذه الفترة تمامًا، ألا وهي فترة التطور الخاصة بروسيا السوفيتية. إنه
كاتب روسي نموذجي. كانت حياته بالطبع لا تستحق اسم الحياة من أوجه عديدة
وقد انعكست بوضوح في أعماله.
لذا فإنك بصفة عامة لست على صواب. وعندما تتحدث عني في هذا السياق، فإن
الروابط التي تربطني بالثقافة الروسية الكلاسيكية مهمة جدًا بالنسبة لي.
كانت لهذه الثقافة الفطرية استمراريتها ولا يزال لديها حتى يومنا هذا. لا
أعتقد أنها ماتت. كنت أحد هؤلاء الفنانين الذين خلال حياتهم عملوا – ربما
حتى دون وعي
·
على محاولة إدراك العلاقة بين
ماضي روسيا ومستقبلها. خسارة هذه الروابط سيكون شيئًا قاتلاً بالنسبة لي،
لا أستطيع أن أحيا بدونها. دائمًا الفنان هو الذي يعمل على ربط الماضي
والمستقبل. يعيش ليس فقط في لحظته الآنية، إنه وسيط إن جاز التعبير، إنه
المر اكبي الذي يتولى نقل الماضي إلى المستقبل.
تاركوفسكي: ما الذي يمكنني أن أقوله عن عائلتي؟ كان والدي شاعرًا. كان
صبيًا رائعًا عندما قامت الثورة، حقًا لا أحد يستطيع أن يقول أنه كان
بالغًا قبل الثورة. لن يكون هذا صحيحًا على الإطلاق. لقد شبَّ بالفعل
أثناء الفترة السوفيتية. ولد في 1906 ، لذا ففي 1917 كان قد بلغ الحادية
عشر، حقًا لقد كان ولدًا غير ناضج، لكنه كان مُتشربًا للثقافة التقليدية،
لقد كان مثقفًا. تخرج في معهد "بريوسوف" الأدبي وقد عرف الكثير، تقريبًا كل
الشعراء الروس الرواد العظام. بالطبع لا يستطيع أحد أن يتخيله منفصلاً عن
الشعر الروسي التقليدي، من نوعية "بلوك، أخماتوفا، مانديليستام، باسترناك،
زابولوتسكي". كان هذا مهم جدًا بالنسبة لي، وبطريقة ما تلقيت هذا كله من
والدي.
قام أبي وأمي بتربيتي، وبصفة خاصة أمي لأن وأبي تركها عندما كنت في
الثالثة. لذا فإن من رباني بالفعل هي والدتي. سيكون من الصعب أن أقول
بالتحديد أي شيء واضح عن تأثري بوالدي كشاعر. بالنسبة لأبي، أكثر ما أثّر
فيَّ كان على مستوى الحس البيولوجي، على مستوى اللاوعي – بالرغم من أنني
ببساطة لست من أنصار "فرويد". أنا غير مُعجب بـ "فرويد" على الإطلاق. أيضًا
"يونج" لا يناسبني. فرويد مادي ببساطة مادي وقح، مثل "بافلوف" لكن فقط من
زاوية مختلفة. نظريته قائمة على احتمال مادي واحد لتفسير النفس البشرية.
أعتقد أن والدي لم يكن له تأثير عليّ، تأثير داخلي. إنني أُدين بكل شيء
بصفة أساسية إلى أمي. هي من ساعدني أن أجد نفسي. إن من ينظر الفيلم سيرى
بوضوح كيف كانت ظروفنا المعيشية قاسية جدًا، وصعبة جدًا. هذا في كل
الأوقات. عندما تُرِكَت أمي وحيدة، كنت أنا في الثالثة، وأختي في عمر سنة
ونصف وببساطة كرّست بقية عمرها لتربيتنا، لم تتزوج أبدًا، كانت معنا
دائمًا. لم تتزوج ثانية، أحبت زوجها، أبي، طوال حياتها.
كانت امرأة غير عادية، قديسة بالفعل. في البداية كانت غير مستعدة للحياة
بالمرة، بأي حال من الأحوال وجدت نفسها امرأة بلا أية وسائل دفاعية بينما
ينهار العالم بالكامل من حولها، بمعنى من المعاني. أولاً، كان عندها طفلين
ولم يكن لديها أي عمل ترتزق منه. والداي كانا يدرسان في معهد "برسيلوف" لكن
أمي كانت حاملاً في أختي ولم تكن قد حصلت على أية شهادة، لم تحصل على أي
شيء، لم يكن عندها وقت لتجد نفسها كامرأة مثقفة، مؤهلة. حاولت ممارسة
الأدب، رأيت عينات من نثرها وغيره. كان من الممكن أن تدرك نفسها بطريقة
مختلفة كلية إن لم تحاصرها هذه الكارثة.
لذا لم يكن لدينا بالفعل أية وسيلة، أمي حصلت على عمل بسيط كمصححة بروفات
في دار نشر وظلّت تعمل هناك حتى النهاية، أي، حتى بعد انتهاء الحرب، لفترة
طويلة، حتى أتيحت لها فرصة للتقاعد. لا أستطيع أن أفهم على الإطلاق كيف
تدبَّرت الأمر، كيف صمدت هكذا، على الأقل جسديًا... إنه أمر غير مفهوم. كيف
استطاعت أن تتيح لنا أن نتعلم؟ أنهيت دراستي في مدرسة الرسم والنحت في
موسكو وكانت بمصروفات. من أين كانت تحصل على المال؟ أيضًا أنهيت مدرسة
الموسيقا وأخذت دروسًا عند مدرس كانت أمي تدفع أجره.
·
كان هذا قبل الحرب؟
تاركوفسكي: كان قبل، وأثناء، وبعد الحرب. كان من المفترض أن أصبح
موسيقارًًا أو عازفًا محترفًا لم أكن راغبًا في هذا. أنا لا أستطيع أن أفهم
بصفة عامة كيف كان هذا كله ممكنًا. يمكن أن يقول أحدهم: حسنًا، بالطبع، كان
من المفترض أن يكون هناك بعض الإمكانية، طفل في عائلة مثقفة، إلخ...، شيء
طبيعي . حسنًا، ليس هناك أي شيء طبيعي في هذا لأننا كنا نمشي حفاة بمعنى
الكلمة... بلا أحذية. لم نكن نلبس أحذية في الصيف على الإطلاق، لم نكن
نمتلك أيًا منها. في الشتاء لبست أحذية من اللّباد، وكانت أمي تحتاجها
عندما تذهب إلى الخارج... نحن... – حتى الفقر ليس هو الكلمة الصحيحة، كان
هذا أسوأ من الفقر المدقع. غير مفهوم كلية، إنها... غير مفهوم. لولاها ما
كان شيء ليحدث بالمرة طبعًا. إنني ببساطة مدين بكل شيء إلى أمي.
لأجل هذا كله فإن تأثيرها عليّ واضح بقوة – حتى تأثيرها ليس هو الكلمة
الدقيقة – ببساطة العالم برمته بالنسبة لي مرتبط بأمي. باستثناء أنني
فعلاً لم أدرك هذا أثناء حياتها. فقط فيما بعد، عندما توفيت، فجأة أدركت
هذا. ماذا أيضًا، حتى عندما كنت أعمل في هذا الفيلم – بالطبع كانت وقتها
لا تزال على قيد الحياة – لم أفهم تمامًا عمن أو عما كان الفيلم. أعتقد
أنني عملت فيلمًا عن نفسي، مثل "تولستوي" الذي كتب عن الطفولة، والصبا،
وفترة الشباب عندما كان يعيش في "أوديسا" – لقد قام بالكتابة عن نفسه. وفقط
عندما أنهيت الفيلم فهمت أنه لم يكن عني ولكن كان عن أمي. هذا الفيلم الذي
– من وجهة نظري.– أصبح بهذه الطريقة أكثر نبلاً إلى حد بعيد من فكرته
الأصلية. والتغيير الذي أضفى النبل على الفكرة حدث بالضبط وبالكامل أثناء
العمل في الفيلم، يمكن أن نقول أن الفيلم بدأ معي وكأنني كنت عين لهذه
الذكريات التي كانت تخصني إن جاز التعبير، لكن حينها حدث أن انقلب شيء ما،
واختلف كلية. وكنت كلما عملت في الفيلم، أرى أنه من الواضح أكثر فأكثر
بالنسبة لي ما الذي يدور حوله هذا الفيلم.
·
عندما تركت دار العرض اعتقدت أن
الفيلم كان قد صُنع كقصيدة شعرية، لكنه – يبدو أنه كان مستحيل سينمائيًا –
مونولوج شاعري غنائي حميم.
تاركوفسكي: ربما، لست أدري. وقتها لم أفكر في الفيلم كشكل على الإطلاق، لم
أحول استدعاء أو اختلاق أي شيء خاص أو غير عادي. ما الذي انبعث في ذاكرتي
بعد هذا، لم يكن إلى حد ما في ذاكرتي بل بالأحرى على الشاشة، لم يكن هناك
شيء سوى الأشياء التي كانت هامة بالنسبة لي. وبصفة عامة أهم شيء، كان فقط
السير في هذا الطريق وليس في طريق آخر كالذي اتخذه مثلاً، "ألن رينيه" الذي
يُرَكِّب ذكرياته، أو على سبيل المثال أيضًا "آلان روب جرييه" من الأدب
الحديث، هناك مظهر هام جدًا في العمل الفني الإبداعي عند الفنانين الروس
بصفة دائمة وهو عدم التركيز على الجماليات وإنما التركيز على الإحساس
بالواجب الأخلاقي.
·
ما هي علاقتك بتقاليد السينما
الروسية العظيمة؟ من هم أساتذتك؟
تاركوفسكي: وما الذي تعنيه السينما الروسية العظيمة.
·
إيزنشتاين، وبودوفكين؟
تاركوفسكي: آه نعم. نعم... أتعرف، بالنسبة لي "دوفجينكو" و"بودوفكين" أكثر
أهمية من "إيزنشتاين" بكثير.
·
كمبدع "إيفان الرهيب" و"ألكسندر
نيفيسكي"؟
تاركوفسكي: بصفة عامة. بالمناسبة، "إيزنشتاين" نُظر إليه كمخرج بشكل خاطئ
تمامًا من قبل القيادة السوفيتية خاصة ستالين. أُسيء فهمه – لأن ستالين لو
كان قد فهم أعمال إيزنشتاين في جوهرها، ما كان قد قام باضطهاده أبدًا.
وهذا كله لغز بالنسبة لي. أعرف كيف حدث، كثيرًا أو قليلاً لديً فكرة.
إيزنشتاين كان ألمعيًا، مثقفًا متمكنًا، في الوقت الذي كان فيه المخرجين في
السينما غير مثقفين على الإطلاق، كان ذكيًاً جدًا.
آنئذ كان الإخراج السينمائي بيد صغار الأولاد الشبان، الصغار هم الذين
صنعوا السينما، علموا أنفسهم بأنفسهم، بدون تعليم نظامي على الإطلاق، لقد
جاءوا إلى السينما كإفراز مباشر أفرزته الثورة وقذفت به إلى الحقل
السينمائي.
·
لكن كانت هناك عواطف...
تاركوفسكي: آه طبعًا، كانت هناك عواطف... مشاعر ثورية، أماني مستقبلية،
تحول ما في البناء الثقافي... بصفة عامة كان شيئًا جيدًا... "إيزنشتاين"
كان أحد القلائل، ربما كان الوحيد الذي قدَّر أهمية التقاليد، كان يعرف ما
هو التواصل، والتراث الثقافي. لكنه لم يستوعبه، في قلبه، كان عقلانيًا إلى
أقصى الحدود، عقلانيًا بشكل مرعب، يحسب حسابات لكل الأشياء، في برج عاجي،
ويمارس الإخراج انطلاقًا من قوانين العقل وحدها، كان يرسم السينما التي
صنعها على الورق أولاً، وكأنه آلة حاسبة، كان يرسم الأشكال التخطيطية لكل
شيء. إنه لا يرسم فقط إطارات الأفلام ولكنه يفكر في كل شيء من البداية إلى
النهاية ثم بعد ذلك يحشر ويستف كل شيء داخل الإطار. لم يقترب من الحياة،
الحياة لم تؤثر فيه بأية حال من الأحوال. الأفكار التي أثرت فيه، أي، التي
قام بتركيبها، وتحويلها إلى بعض الأشكال، وكقاعدة، كانت هذه الأشكال ميتة
تمامًا، صارمة كالحديد، شكلية للغاية، وجافة، ومجردة من أي شعور. إطار
الفيلم، مقوماته وسماته الشكلية، الفوتوغرافيا، الإضاءة، الجو العام – لا
شيء منها على الإطلاق نابع منه، كل شخصياته مدروسة بإمعان، سواء التي
اقتبسها من الرسوم واللوحات الزيتية أو بعض المؤلفات المختلقة. كان هذا على
مستوى الحس مطابقًا تمامًا لصناعة السينما باعتبارها إحدى الصنائع، حيث
تبدو السينما من هذا المنظور الضيق كتجميع أو كاتحاد مجموعة من الفنون
التخطيطية، والرسم، والمسرح، والموسيقا، وكل شيء آخر – ما عدا السينما التي
لم تكن هناك. كما لو أن مجموع كل هذه الأجزاء يعطي هذا الفن الجديد.
لنكن منصفين – ثمة سوء فهم هائل، فالسينما محكومة بطبيعة خاصة ومحددة لها
تميزها عن الفنون الأخرى. إيزنشتاين لم ينجح في التعبير من خلال فنه عمّا
نسميه خصوصية الفن السينمائي. لقد قام بتوظيف شيء ما من كل أنواع التخصصات
والفنون لكن دون أن يدرك ما هو بالضبط المطلوب في الفن السينمائي، ولو كان
قد أدرك ذلك لحذف كل إسهامات الفنون الأخرى وأبقى فقط على ذلك الشيء
الجوهري فيما قدمه إلينا.
·
هناك، رغم كل شيء، هذا الفيلم عن
المكسيك...
تاركوفسكي: نعم شاهدت هذه المادة عندما كنت في الخارج. بالنسبة لي تبدو لي
ضعيفة جدًا، ساذجة، سواء في التمثيل، أو تطور الشخصية، أو المواقف
المعروضة. إنه مسرح أحداث فقير، بوستر مُصمم بسذاجة بالغة.
لكن دعنا نتأمل "إيفان الرهيب" على سبيل المثال. أنا لم أفهم على الإطلاق
لِمَ كان الجزء الأول من الفيلم هكذا، فكما تعرف، فإن هذا الجزء قد نال
الموافقة بل والإطراء، بينما كان الجزء الثاني موضعًا لإدانة صارخة.
لماذا؟! لا أستطيع أن أفهم هذا. لقد تحدث أيضًا عن "أوبريشنا" أو تبرير
الإرهاب، تحدث بالتحديد عن ذلك، مبررًا الإرهاب، حيث كانت تقطع الرؤوس من
اليمين واليسار، وبخاصة رؤوس "البوير"، أبناء العائلات الأرستقراطية
العريقة الروسية.
يقف "إيزنشتاين" في هذا الفيلم إلى جانب تدعيم الاستبداد (الأوتوقراطية)،
مع تقوية نظام السلطة المركزية. كان واضحًا حتى للعميان ما الذي يريده هذا
الفيلم. وفجأة بدلاً من أن يمطرونه بالذهب والميداليات بدأوا في اضطهاده
بسبب هذا الفيلم. لغز كامل!
بعد ذلك صنع فيلمه التالي (وأنا لن أشير هنا إلى "ألكسندر نيفسكي" فكل شيء
واضح، الرغبة في إرضاء توقعات المجتمع واضحة) وعنوانه "مروج بيزين".
·
أنا لا أعرف هذا.
تاركوفسكي: ما الذي تعنيه بأنك لا تعرف؟ لابد أنك تعرفه إذا كنت تسألني عن
"إيزنشتاين". كان عن أحد أبطال العشرينيات والثلاثينيات في القرن العشرين،
في زمن المشاعية الاشتراكية، كان صبيًا، كان تلميذًا رائدًا (عضو كشافة)،
ومن سوء حظه أنه كان من عائلة من "الكولاك" (المزارعون الأغنياء في روسيا)،
ثم أصبح، كيف لي أن أصف هذا، أحد القديسين السوفيت لأنه أبلغ السلطات عن
والديه.
·
آه، إذًا لقد عرفته، ذلك هو
"بافليك موروزوف".
تاركوفسكي: حسنًا، بالضبط هذا هو من أتحدث عنه.
·
لكنني لا أعرف هذا الفيلم.
تاركوفسكي: هذا هو بطل الفيلم الذي قدمه "إيزنشتاين" كقديس، كضحية، كضحية
مقدسة، الشهيد الذي ضحى بحياته لأجل فكرة. وإيزنشتاين يفقد نفسه، فجأة
يبدو أنه على شفا كارثة. أنا لا أفهمها. إنها تبدو ككل شيء مجرد خلفية
وأجزاء من الماضي. كان يبحث عن إمكانية تعزيز بعض أفكار بعينها كانت ضبابية
في ذلك الوقت وانتشرت فيما بعد. وعلى نحو مفاجئ رفضوا كل هذا. بالرغم من
أن... هذا لا بد أن يقال – كان تاريخ هذا الفيلم كما يلي. عندما بدأ
"إيزنشتاين" التصوير، أصدقائه، الزملاء، حذروا السلطات من أن "إيزنشتاين"
يصنع فيلمًا مضادًا للسوفيت، شكلاني ومضاد للسوفيت مع بعض الصوفية المشبوهة
إضافة إلى تشويش الذهن، وهكذا على تلك الوتيرة. الرعب الذي أصيبت به إدارة
التصوير السينمائي جعلها تبلغ "ستالين". كانت هناك حسابات في الموضوع.
وطالب "ستالين" بضرورة إحضار المادة إلى الكرملين. أخذ يشاهد المادة: رأى
شيئًا يحترق، براميل تتدحرج إلى أسفل المنحدر من الطابق الثاني، محاولة
لإنقاذ سلع "الكلوخز" (المزرعة التعاونية) التي أشعل المزارعون "الكولاك"
الأغنياء – طبيعيًا – النار فيها. البراميل تتدحرج من حظيرة تحترق، مرة،
مرتين، ثلاث مرات، في لقطة طويلة وعن قرب، من زاوية مرتفعة، ومن زاوية
منخفضة... بعد هذا لم يستطع "ستالين" أن يتحمل أو أن ينتظر وصاح: هذه
الفضيحة كافية! وترك الغرفة. من وجهة نظري كان "إيزنشتاين" هو أحد أعظم
المُنَظرين وأشهر المتميزين المتفردين في السينما السوفيتية، كان ضحية
لتآمر أصدقائه عليه، لقد تم تحطيمه بيد زملائه.
ولأنني أعرف الناس، وقد اعتدت مقابلة هؤلاء الذين أخذوا في هذه الاجتماعات،
التي لم تكن تنتهي، يتهمونه بالشكلية والشذوذ الأيديولوجي، كانوا يصيحون،
وطالبوا أن يعترف بصحة اتهاماتهم ضده، وأن يدين نفسه، أعرفهم، ناقشت هذا
الموضوع معهم، لقد اختلفت نظرتهم تمامًا عقب المؤتمر العشرين، وقدموا
أنفسهم كزملائه الذين يدافعون عنه، كانوا يحكون بعض الحكايات الخرافية عن
"إيزنشتاين" الذي ادعوا صداقته لهم. كلهم كانوا يدوسونه بأحذيتهم . معظمهم.
أعلم هذا جيدًا من هؤلاء الناس أنفسهم الذين كانوا يزعمون صداقتهم له.
حسنًا، ذلك هو ما كان... إنها مجموعة قصص حياتية غريبة جدًا.
·
ودوفجينكو؟
تاركوفسكي: بالتأكيد "دوفجينكو" هو المُقرّب إلى قلبي، لأنه شعر بالطبيعة
كما لم يفعل غيره، إنه مولع بالفعل بهذه الأرض، وملتصق بها. وهذا بصفة عامة
مهم جدًا بالنسبة لي.
بالطبع أتذكّر بدايات دوفجينكو المبكرة خلال فترة السينما الصامتة الخاصة
به – كان يعني الكثير بالنسبة لي. أفكر قبل كل شيء في مفهومه عن روحانية
الطبيعة، هذا النوع من وحدة الوجود.
من زاوية ما أو بمعنى من المعاني – ليس حرفيًا بالطبع – أشعر بقربي الشديد
من وحدة الوجود. ومذهب وحدة الوجود ترك لدى دوفشينكو انطباعًا قويًا، لقد
أحب الطبيعة جدًا، كان قادرًا على رؤيتها والشعور بها. وهو ما مثل معنى
كبيرًا بالنسبة لي، وأنا أعتبره مهمًا جدًا. برغم كل هذا لم يستطع صناع
الفيلم السوفيت أن يشعروا بالطبيعة على أية حال، لم يستطيعوا فهمها، لم تلق
لديهم أي صدى من أي جانب، لم تكن تعني لهم شيئًا. "دوفجينكو" كان المخرج
الوحيد الذي لم يشق طريقًا للصورة السينمائية بعيدًا عن المناخ والجو
العام، بعيدًا عن هذه الأرض، عن هذه الحياة، إلخ. بالنسبة للمخرجين الآخرين
كل هذا كان مجرد خلفية، طبيعية تقريبًا في إطار الصنعة، خلفية خرساء وميتة
بينما بالنسبة له كان هذا هو الجوهر والعنصر الأساسي، لقد كان يشعر بطريقة
ما أنه مرتبط داخليًا بحياة الطبيعة.
·
مثل هذا الفنان الحساس للطبيعة،
الشاعر بها والمندمج بها، ربما يكون في أيامنا هذه هو "شوكشين" في "شجرة
التوت البري الأحمر" على سبيل المثال.
تاركوفسكي: آه نعم، نعم... بالطبع، هذا يمكنه أن يشعر بالطبيعة، لقد نشأ
وصار يافعًا في الريف ولم يكن ممكنًا له سوى أن يشعر بالريف ويفهمه.
لقد عاش هذا الجوهر، بالتأكيد. لكن "دوفجينكو" كانت لديه المقدرة على
إظهاره، "شوكشين" لم يظهره على الإطلاق، الواحد منا على الأكثر يستطيع فقط
أن يحدسه. فمناظره تفتقر إلى المهارة الفنية، بل هي مبتذلة أحيانًا، كأنها
تدخل أفلامه بمحض الصدفة. لكن "دوفجينكو" أولاها اهتمامًا كبيرًا لقد كافح
من أجل أن يجد نفسه في الطبيعة.
·
هل توافق على أن نطلق على أفلامك
رومانسية.
تاركوفسكي: لا، لا أرغب.
·
رغم أننا نجد فيها مثل هذه
القضايا الرومانسية تتواتر كالرحلات الرومانتيكية للبحث عن الهوية الفردية،
والقيم المطلقة، نتعامل مع تقديس العالم، ونبحث عن المقدس، نُؤسطر الأحداث
(نخترع الأساطير للأحداث)، وأخيرًا، نحن لدينا ثقة تامة في الصفاء والنقاء
الأصلي للثقافة الروحية التي يعرضها الفنان. كل هذه الروحية هي شيء
رومانتيكي جدًا.
تاركوفسكي: قلت هذا بشكل جميل جدًا لكن تولّد عندي انطباع بأن ما ميزته
هنا ليس من الرومانسية في شيء. فما قمت بوصفه الآن لا شيء منه بالتأكيد
يتناسب معها. أظن "إضفاء الرومانسية"... حينما أسمع لفظتي "إضفاء
الرومانسية" أخاف. لأن هذا الإضفاء هو محاولة... بل هو ليس محاولة، إنه
طريقة مبالغ فيها للتعبير عن رؤيتك للعالم، إدراكك للحقيقة حيث الإنسان يرى
ويعيش الأحداث الحقيقية – في عالم حقيقي أكثر مما هي عليه من حقيقة.
والحال هكذا عندما تذكر شيئًا ما مقدس، عليك أن تبحث عن الحقيقة، إلخ... –
بالنسبة لي هذه...
·
هذه ليست الرومانسية؟
تاركوفسكي: هذه ليست الرومانسية لأنني لن أتمكن من أن أجعل الحقيقة أكبر
مما هي عليه. بصفة عامة الحقيقة بالنسبة لي أكبر بكثير مما يمكن أن أجده
فيها، أكثر عمقًا وأكثر قداسة من قدرتي على الإدراك. الرومانسيون الحقيقيون
اعتقدوا أن الحياة كانت أغنى بكثير مما كانوا يرونها عليه، أعني كانوا
يخمنون، اعتقدوا أن الحياة لم تكن بسيطة أبدًا، بل أن بها عمق، قليل مما
يمكن أن نسميه غرابة، وميتافيزيقا، ما بداخلها يفلت من إدراكنا، ما لا يمكن
أن نفهمه عن طريق المعرفة.
كانوا يحاولون تخمينه، يحاولون أن يُظهروه ويعبروا عنه. دعني أضرب مثالاً:
هناك أناس بإمكانهم أن يروا الهالة، بالتحديد وهج متعدد الألوان يحيط
بالجسم البشري، هؤلاء الناس الذين يمتلكون هذه الأحاسيس المتطورة إلى درجة
أعلى من غالبية الناس. تحدثت منذ فترة ليست بالبعيدة إلى رجل كهؤلاء في
برلين، صيني – يمكن أن يعالج أمراضك، يعرف جيدًا أو بالضبط ما هي ظروفك،
حالتك، ما الذي تشعر به، ما هي مشاكلك – بإمكانه أن يرى كل هذا عن طريق
الهالة.
·
هذه الظاهرة أكدها المصور
الفوتوغرافي "كيرليان".
تاركوفسكي: نعم هذه التجارب ذات صلة بها – لكن مثل هذا الشخص ببساطة يستطيع
رؤية هذه الهالة بعينيه، بينما الرومانسيون حاولوا اختراعها، خمنوا افتراض
حدوثها – بينما الشاعر بإمكانه أن يراها. لربما تقول: لكن كان هناك شعراء
فيما بين الرومانسيون. بالطبع، أنا لا أنكر هذا. كان هناك "هوفمان" الذي
أهيم به ببساطة، كان هناك "ليرمونتوف"، "تيتشيف"، واحد من أكثر الناس
عمقًا، شاعر مذهل، كان هناك العديد منهم... هذا كله حقيقي. لكن هل بإمكاننا
أن نطلق عليهم بالفعل رومانسيون؟ – إنهم ليسوا رومانسيين، بالتأكيد هم
ليسوا رومانسيين. و"هوفمان" رومانسي. لذا عندما يقولون لي: الرومانسية...
يكون من الواضح أن الشكل المستخدم من قِبَل هؤلاء الفنانيين يصبح مُبجلاً،
مُفخمًا، موقرًا. اعتقد أن الحياة جميلة بالقدر الكافي، بها ما يكفي من
العمق والروحانية وهي تنطق بأشياء كثيرة غير ظاهرة لحواسنا العادية، وإنه
ليس من الضروري تغيير أي شيء – نحن الذين من الواجب عليهم أن يهتموا
بتطورهم الخاص، على مستوى الإيمان أي الحس الروحي أو الكشف، بدلاً من
محاولة جعل الحقيقة أكثر جمالاً. لذا كان الرداء الذي لبسه الرومانسيون أو
هم يلبسونه للظواهر قد نتج عن نقص الإيمان في داخل الفرد وغالبًا نقص
الإيمان في كل إنتاج لخيالنا.
·
إنها الأنانة، أي إنكار الوجود
الخارجي.
تاركوفسكي: نعم. بالنسبة لي على المستوى الشخصي الرومانسية، أو على الأقل
واحدة من أهم مكوناتها هي أنانة، أما معالجتي للوجود الخارجي فهي شيء مختلف
تمامًا. حسنًا، "دوفجينكو" قال ذات مرة بذكاء شديد أنه حتى في بركة صغيرة
عَكِرة بإمكانه أن يرى انعكاسات النجوم. هذا النوع من الصور أستطيع أن
أفهمه تمامًا. لكن إذا قال أحدهم أنه يستطيع أن يرى "حشد من النجوم المرصعة
في السماء وملاك يحلق حولها"، سيكون شكلاً مجازيًا مفتعلاً، غير صحيح
بالمرة، زال من الحياة. لكن هذا هو المفتاح، "دوفجينكو" استطاع أن يراه
لأنه كان شاعرًا، الحياة بالنسبة له كانت أكثر خصوبة جدًا، مليئة
بالروحانية، أكثر مما هي عند هؤلاء الذين يرون في الواقع من حولهم ليس غير
تكملة أو ملحق أو إضافة، أي ما يُتمم أنشطتهم الإبداعية الخاصة، التي هي
الأصل والأساس من وجهة نظرهم.
الحياة الرومانسية تزود الفنان بالأسباب، أو هو يحتاج إليها، ليبدع في حين
أن الشاعر يبدع دون اتكال على أدوات أو وسائل، يبدع لزومًا، لأنه من داخله
هو ذاته تبدأ الروح الحية الواعية في الفيض بالإبداع. هكذا يكون الفنان
الروحاني، والشاعر – بعكس الرومانسي – يفهم جيدًا أكثر من أي شخص آخر أنه
شبيه بالإله. هذا شيء منطقي. هذا هو ما تعنيه القدرة على الإبداع. كما لو
أن هذه المقدرة كانت مُفترضة ومزروعة فيه منذ البداية، لا دخل له فيها ولا
هو من زرعها. الرومانسي يحاول دائمًا على العكس أن يوجد أو يجد في موهبته،
في نشاطاته الإبداعية الخاصة، بعض الجمال الخصوصي الذي من وجهة نظره.
·
أو بِشارة.
تاركوفسكي: بشارة . جميل. هنا أنا متفق معك.
·
هناك كلمة في البولندية ،
"فشيز"، نقول على سبيل المثال "آدم ميكيوفيتش" كان "فشيز" الأمة، نبي،
العراف الذي يكتشف أو يرى قبل الأمة، الحقائق المخفية...
تاركوفسكي: نعم ، نعم ، نعم. ما عدا أن هذه ليست هي الرومانسية.
·
ما سبب ذلك؟
تاركوفسكي: أيضًا "بوشكين" كان هكذا، وأيضًا العديد من الفنانين التاليين،
إنهم ما يزالوا موجودون حتى اليوم وهم يقدمون إنتاجهم... أعتقد أن
الرومانسية، بمعناها الضيق، أعلنت عن نفسها عندما أسكرت الفنان بعبادة
نفسه، بخلق نفسه في فنه. هذه ميزة رومانسية أجدها بغيضة. أيضًا هذا التأكيد
الذاتي هذا العرض اللانهائي للذات، ليس نتيجة للإبداع، إنه هدفهم وليس
الإبداع الذي هو وسيلة وحسب لتأكيد الذات. هذا شيء لا أجد موافقة عندي عليه
وبصفة عامة هذه الرومانتيكية لا أحبها، فهي متكلفة، لوحات مدعية، مدعية
بفظاعة، مفاهيم لزوم الصنعة، إلخ. كما في "شيلر" عندما كان البطل يرحل على
البجعتين. أتذكر هذا؟ إنها سقط متاع، إنها ببساطة دونية العمل الفني أو
الأدبي. بالمناسبة في روسيا، وأعتقد في بولندا، لا يوجد على الإطلاق فنانون
من الذين يتحدثون عن أنفسهم كثيرًا مثل "نوفاليس، وكليست، وبيرون، وشلر،
وفاجنر".
·
لكن هذه هي الرومانسية الفردية،
واحدة من أهم الملامح الأساسية المميزة لمذهب الرومانسية.
تاركوفسكي: هذه هي الفردانية أي التمحور حول الذات، تُفكر فقط ضمن حدود
"وماذا أيضًا هناك يخصني؟"، وفي ذلك أقصى حالات الادعاء الباطل فظاعة،
الحاجة إلى أن تصبح النفس مركز الكون.
أما القطب الآخر المقابل للعالم الذاتي هذا فهو العالم الشعري الذي أعتقد
أنه شرقي، ضمن الثقافة الشرقية. خذ على سبيل المثال موسيقى "فاجنر" أو، أنا
لا أعرف، "بيتهوفن" – تلك المناجاة التي لا تنتهي عن النفس: أنظر كم أنا
فقير أقاسي، لست ألبس سوى الأسمال البالية، بائس وحدي مثل "بروميثيوس"
العتيق... وانظر كيف لي أن أحب، وهنا كيف لي... هل تفهم؟ أنا، أنا، أنا،
أنا.
تعمدت منذ فترة ليست بالبعيدة الاستماع إلى موسيقا من القرن السادس
الميلادي، كانت موسيقا صينية كلاسيكية شعائرية. تجعل الفرد يذوب ذوبانًا
مطلقًا، في العدم، في الطبيعة، في الكون. هذا هو القطب المقابل في النوعية.
كلما كان الفنان قادرًا على أن يُذيب نفسه في العمل الفني، وبذلك يختفي هو
نفسه دون أثر، يكون هذا هو الشعر الفائق أو الغير قابل للتصديق. سأقتبس
مثالاً أجده فاتنًا تمامًا. في يابان القرون الوسطى عاش العديد من الرسامين
الذين وجدوا ملجأ في بلاط القائد الوريث أو أقاموا مع بعض اللوردات
الإقطاعيون... – كانت اليابان مُقسَّمة وقتها إلى مقاطعات عديدة متأخرة –
كانوا فنانيين ممتازين، أصحاب أمجاد إلى حد كبير، وكانوا يصيبون أعلى درجات
الشهرة. ولكن بعد أن يحققوا هذا، يختفي الكثيرون منهم فجأة، يفرون بعيدًا.
يختفون كلية ثم يظهرون في بلاط قائد آخر كشخصيات جديد مجهولة تمامًا،
وبأسماء أخرى، ويبدؤون مهنتهم كرسامين في البلاط من لا شيء من نقطة البداية
يبدعون أعمالاً بإسلوب مختلف تمامًا. بعضهم عاش بهذا الأسلوب خمس أو ست
مرات.
·
الاتضاع أو إذلال النفس...
تاركوفسكي: هذا ليس إذلالاً. الواحد يمكن أن، أنا أفترض، يسميه إذلالاً لكن
أنا أفضل أن أستعمل كلمة مختلفة – بالنسبة لي يكون هذا تقريبًا مثل الصلاة
التي فيها الـ "أنا" الخاصة لا أهمية لها. لأن الموهبة الممنوحة لي معطاة
من أعلى و – إذا أنا أُعطيت هذه الموهبة حقًا – فأنا بطريقة ما مُميز. وإذا
أنا مُيزت فهذا معناه أنني يجب أن أعمل بهذه الموهبة، فأكون عبدًا، ولست
مركز الكون – إنه واضح جدًا. أنت ذكرت الإذلال بشكل صحيح جدًا لكن هذا شيء
مهم أكثر بكثير من الإذلال.
·
الآن نحن قريبون من "أندريه
روبلوف"...
تاركوفسكي: حقًا، هو قبل شيء كان رجل دين تقي، راهب...
·
لكن الشخصيات في أفلامك تبدو
كالأبطال الرومانتيكيين، إنها دائمًا على الطريق وهذه الرحلة – الحج تصبح
تلقينًا: على سبيل المثال "ستالكر" تمت صياغته حسب نمط نموذجي للتلقين
الرومانسي.
تاركوفسكي: في هذه الحالة... أنا لا أعتقد أنك تزعم أن "ديستويفسكي" كان
رومانسيًا؟ لكنه لم يكن رومانسيًا – إذا نظرنا إليه في زمانه، في نظرته
للحياة. رغم أن أبطاله دائمًا على الطريق، أيضًا.
·
أكثر مما لو أنهم في متاهة.
تاركوفسكي: لا يهم. إنها دائمًا نفس قصة الإنسان الباحث، السائر نحو هدفه،
مثل "ديوجين" بمصباحه. "راسكولنيكوف" في "الجريمة والعقاب" – بالطبع كان
أمره نفس الشيء، لا تجعل أقل الشك يساورك في هذا. "إليوشا كارامازوف" – نعم
بالطبع. إنه أيضًا دائمًا على الطريق – لكنه ليس رومانسيًا. لهذا عندما
تقول "إنسان دائمًا على الطريق" – هذا ليس ضروريًا كسمة لتعريف الرومانسي،
فليس هذا هو الأكثر أهمية في الرومانسية.
·
عندما تحدثنا عن أبطالك قلنا
عنهم، هائمون، حجاج. وهنا سؤال: بالنسبة لبطلك، الهائم، الحاج، أليست هناك
أية فرصة أمامه لكي يخترق فوضى الأحداث التي تهدده دائمًا؟ الزمن لا يرحم
في أعمالك، يُحوِّل كل شيء إلى خراب: الوقت والأحداث يؤذيان ويبيدان
الشخصيات، ومادة كل شيء. هل تعتقد ببقاء القيم مثل الإخلاص، وإحساس الفرد
بكرامته، وحقه في تحقيق ذاته؟
تاركوفسكي: م م م. من الصعب أن تُسمي هذا سؤالاً، إنه حشد من المشكلات
المتنوعة التي قمت بتسجيلها. من الصعب بالنسبة لي أن أجيب عن سؤال كهذا صيغ
بشكل واسع. من ناحية هناك ذكر للزمن الذي لا يرحم الذي يبيد الشخصيات –
وبعد ذلك تقول: "ومادة كل شيء". هذا غير واضح تمامًا بالنسبة لي. وبعد كل
شيء تلك الشخصيات ليست مجرد "مادة" وحسب. كل شيء مادي يخضع للفناء لكن هذه
الشخصيات ليست مجرد مادة – بل هي أولاً وأساسًا أرواح.
·
بالطبع.
تاركوفسكي: لذلك أعتقد دائمًا أنه من المهم – على نطاق الروح الإنسانية غير
القابلة للفناء – أن أعرض المادة، التي هي موضوع للتضاؤل، والانحلال
والتخريب والفناء – في مقابل الروح التي هي غير قابلة للتخريب أو الإتلاف –
أنت لن تجد هذا رغم ذلك في "روبلوف"، مع أننا نتعامل بوضوح فيها مع الدمار،
وهناك الإبادة أو الإعدام لكن هذا على مستوى التخريب الأخلاقي، وليس مقابلة
الروحي ضد الفيزيائي... بينما في "ستالكر"، بل ولنقل بالفعل في "المرآة" –
عندنا على سبيل المثال هذا البيت الذي لم يعد بعد موجودًا بينما نجد ما
يمكن اعتباره لمسة من روح المكان تظل إلى الأبد. الأم، عندما تذهب إلى
الخارج – أتتذكر هذا؟ – كانت تبقى دائمًا كما هي. كان مهمًا بالنسبة لي أن
أعرض هذه الشخصية أو الروح الخاصة بالأم باعتبارها خالدة. بينما الباقي
خاضع للانحطاط والتلاشي، بالطبع هذا مُحزن – فالروح تشعر بالحزن أحيانًا
لرؤيتها نفسها ترحل عن الجسد. هناك بعض التوق والحنين إليه، حزن وهمي. هذا
أيضًا بديهي ويبرهن نفسه بالنسبة لي، فهذا التدمير لا تبالي به الشخصيات،
فقط الأشياء المادية.
لهذا كان من مهم أن نحصل على هذه المقارنة – لكي نعرض الحقيقة من منظور
رحلة الفناء، فالمادة وإن شاخت أو بقيت إلى ما بعد زمنها، إلا أنها توجد
داخل زمن بذاته – بينما الإنسان يبقى دائماً كما هو، أو بالأحرى، لا يبقى
كما هو ولكن يتطور، إلى ما لا نهاية.
أنت تتحدث عن الكرامة. من الواضح أن الكرامة مهمة جدًا، أكثر أهمية من أي
شيء آخر. وأنت تتحدث عن المسار، الرحلة. إذا كنا نتحدث عن الرحلة، وأيضًا
بشكل مجازي، يكون ليس من المهم تحديد مكان الوصول أو نهاية الرحلة، المهم
هو الشروع في الرحلة.
·
في "ستالكر" على سبيل المثال...
تاركوفسكي: دائمًا، وفي كافة الظروف. وفي "ستالكر"؟ ربما، أنا لا أدري.
لكنني أريد أن أقول شيئًا آخر – أن المهم رغم ذلك ليس هو ما حققه الفرد
بمجهوده، لكن دخول الفرد في المسار لتحقيق ما سوف يحققه. لماذا لا يهم إلى
أين الوصول؟ لأن الطريق لا نهائي. والرحلة ليست لها نهاية. لأجل هذا فلا
أهمية مطلقًا لحجم الإنجاز أي للعاقبة سواء كنت واقفًا بالقرب من البداية
أو بالقرب من النهاية – لأن أمامك مُسبقًا رحلة لن تنتهي. وإذا لم تدخل
الطريق – أهم شيء على الإطلاق هو دخوله. هنا تكمن المشكلة. لهذا فإن ما
يعنيني ليس المسار نفسه ولكن لحظة دخول الإنسان، دخوله أي مسار كان.
في "ستالكر"، على سبيل المثال، الدليل نفسه ربما لا يكون مهمًا أبدًا
بالنسبة لي، الأكثر أهمية هو "الكاتب" الذي ذهب إلى "المنطقة" كمارق
براجماتي، ورجع كرجل يتحدث عن الكرامة الإنسانية، ويدرك أنه لم يكن رجلاً
جيدًا من قبل. حتى أنه يواجه لأول مرة فيها هذا السؤال: هل الإنسان جيد أم
سيئ خير أم شر؟ وإذا هو فكّر في هذا السؤال بالفعل – فإنه يكون هكذا قد دخل
الطريق... وعندما يقول الدليل أن كل مجهوداته قد أهدرت، فلا أحد يفهم
شيئًا، ولا أحد يريده – إنه مخطئ لأن الكاتب فهِمَ كل شيء. ولذلك فإن
الدليل نفسه ليست له أية أهمية.
شيء آخر مشوق في هذا الصدد. أردت أن أعمل فيلمًا آخر، تتمة لستالكر بينما –
كان هذا ممكنًا فقط في روسيا، في الاتحاد السوفيتي، إنه مستحيل الآن لأن
الدليل وزوجته يتطلبان كدورين أداءهما بنفس الممثلين. شيء آخر مهم هنا: لقد
تغير، إنه لم يعد يعتقد أبدًا أن الناس بإمكانهم أن ينالوا هذه السعادة،
سعادة التحول الذاتي، التغيير الداخلي. وقد بدأ هو في تغيرهم بعد ذلك
بالقوة، بدأ يجبرهم ويخطفهم إلى "المنطقة" بواسطة بعض الحيل – لكي يجعل
حياتهم أفضل. تحول إلى فاشي. وها نحن لدينا مثالية يمكن – لأسباب
أيديولوجية واضحة – أن تتحول إلى النقيض، وعندما نجد أن الغاية تبرر
الوسيلة تتغير شخصية الإنسان.
قاد ثلاثة رجال إلى "المنطقة" بالقوة – هذا هو ما أردت أن أعرضه في الفيلم
الثاني – وهو لا يخجل أبدًا حتى من إراقة الدماء مادام يُنجز هدفه. هذه
بالفعل هي فكرة أعضاء محكمة التفتيش أولئك الذين يصمون أنفسهم بالإثم، من
أجل... إن جاز التعبير... من أجل...
·
الخلاص.
تاركوفسكي: الخلاص. هذا هو ما كان يكتب عنه "ديستويفسكي" طوال الوقت.
·
في "الشياطين".
تاركوفسكي: في "الشياطين" وفي "الإخوة كرامازوف". حتى أنه في "الشياطين" لم
يكتب عن هذا – هناك بصفة عامة إنكار للحافز الأول، أيًا كان هذا الحافز،
حتى أكثر الحوافز نبلاً... ينكر حتى تلك.
·
تلك هي "الشياطين".
تاركوفسكي: نعم، تلك هي "الشياطين". لكن في "الإخوة كرامازوف" كتب عن
الاشتراكية، بالضبط عن كل أولئك الناس الذين يُؤثِّمون أنفسهم ويحملون على
أكتافهم وزر خطيئة العنف باسم سعادة الجماهير.
·
أو باسم بعض الأفكار أو أشياء
أخرى.
تاركوفسكي: أو أفكار. هذا لا يهم. في هذا الخصوص، الأكثر أهمية بالنسبة لي
ليس الطريق نفسه – الذي هو أيضًا مهم، بالطبع – لكن بشكل عام موضوع هؤلاء
الذين يدخلون أولا يدخلون الطريق، سيشرعون في الرحلة أو لن يشرعوا.
لذا كل هذه السمات التي استمعت إليها هنا بالطبع مهمة بالنسبة لي. كل
الميزات الإنسانية مهمة إلى أبعد الحدود بالنسبة لي. الكرامة، الحرية...
الحرية الداخلية – في ضوء وعيك بأن الحرية السياسية والحرية الروحية
مفهومان مختلفان. عندما نتحدث عن الحرية السياسية فإننا في الحقيقة لا نقصد
الحرية – وإنما نقصد الحقوق. الحق في العيش بطريقة تتفق وضميرنا، تلك التي
نعتقد بأنها ضرورية. الحق في خدمة المجتمع – كما نفهم نحن هذه المهمة. الحق
في أن تشعر بأنك حر. الحقوق. وبعض الواجبات، بالطبع. الواحد لا بد أن يكون
له حقوق بغض النظر عن أي شيء آخر. لكن عندما نتحدث عن الحرية، يستقر في
الذهن... لا أدري – إذا أردت أن تكون حرًا فستكون دائمًا حر. نحن نعرف أنه
حتى المسجونين يمكن أن يكونوا أحرارًا. أيضًا يجب على المرء ألا يربط
الحرية بالتقدم، هذا غير ممكن بالتأكيد. منذ بداية الوعي الإنساني والإدراك
الفردي، والإنسان يمكن أن يكون إما حرًا أو غير حر – إحساسه الداخلي أي
المعنى الباطني لكلمة "حرية". لذلك عندما نتحدث عن الحرية يجب ألاّ نخلط
موضوعي الحقوق والحرية، حرية الروح الداخلية.
إنهم هنا لا يفقهون أي شيء مما أقوله عن الموضوع . منذ فترة ليست بالبعيدة
كنت في لقاء مثل هذا وكتبوا بعدها في الجرائد: إنه لغريب جدًا أن يتحدث
"تاركو فسكي" عن بعض الروحانيات. بالطبع – إنه غريب بالنسبة لهم، فهم
ببساطة ليست لديهم أية فكرة، إنهم لا يفهمون ما أقوله.
إنهم لا يدركون أنني أتحدث عن الروحانية بمعنى أن الإنسان يجب أن يعرف
لماذا يعيش، يجب أن يفكر في معنى حياته.
ومن يبدأ التفكير في هذا يكون لديه بمنظور معين بصيرة ببعض الضوء الروحي،
هذا السؤال لن ينسى ثانية، ولن يستبعد، إنه بالفعل على الطريق. أيًا كان،
إذا هو لم يسأل نفسه أبدًا هذا السؤال، فسيحرم من روحانيته، سيعيش بشكل
برجماتي، كحيوان. ولن يفهم أي شيء. لا شيء من هذا يفهمونه. وعندما يكون
صحفيًا هو الذي كتب عني هذا – أنا ببساطة صدمت. بالتأكيد هو يعتقد: منذ
ذكرت الروحانية، أن هذا بالتأكيد شيء ما يتعلق بالكنيسة الأرثوذوكسية،
تقريبًا شيء حول بعض الأكليروسية. بالنسبة له بالتأكيد لن تجد لديه أسئلة
عن الروح الإنسانية أو مغزى سعي الإنسان الأخلاقي الواجب عليه خلال رحلته.
·
يبدون كعبيد للحرية، عبيد
للتقدم.
تاركوفسكي: نعم، نعم، نعم. هذا هو انطباعه الشخصي عن الحرية...
·
كقيمة.
تاركوفسكي: بكل وضوح. وبالمناسبة، إن أنا سألته ما هي الحرية فلن يستطيع أن
يعطيني إجابة لأنه لا يعرف. لأنه لا يعرف ما الذي سيفعله بها، بهذه الحرية.
لكني سأستطرد، السؤال ما كان يجب طرحه بهذه الطريقة. لكن هذه القضية مهمة
بشدة بالنسبة لي. أنا لم أطرح قضية متعلقة بحقوق الإنسان، فهذه لا تهمني.
أنا مهتم بمشكلة الحرية الداخلية.
·
هذه بالفعل مشكلة أساسية
بالتأكيد. والآن – بعد إذنك – إستفزاز صغير. ما هو رأيك – في فنان هذه
الأيام أو هذا العصر، كمُخرج، أو كنبي، أو كموسى القائد شعبه إلى أرض
الميعاد، أم إنه الأخلاقي الفريد الذي يوفي رسالته، أو ربما حِرَفي يبيع
بضاعته، أو أخيرًا "أرستوقراطي روحاني"؟ ألا تستهجن التصاق الناس بالأشياء
المادية، بكماليات المستهلك الصغير ربما؟ ألا ترغب في رؤيتهم وهم في ثياب
الندم والتوبة.
تاركوفسكي: أعتقد أنه لكي أحدد نوعًا ما اتساع هذه المظاهر فمن المعقول
تناول هذا السؤال من منظور عمومي وفي الوقت نفسه أساسي، يعني، يمكنني هنا
أن أرسم الخطوط العامة لوظيفة الفنان بمعناها الواسع، دوره، مكانته في
المجتمع. طبيعيًا ستكون وجهة نظري، قبل أي شيء آخر، أن الفنان يُعبر عن
أفكار أينعت من خلال المجتمع الذي يعيش فيه. باختصار، إنه يكون بمثابة نوع
من الوسط الناقل الموصل، يعبر عن الأراء التي يولدها المجتمع نفسه. لكن
المجتمع لا يستطيع أن يكون فنانًا. فالفن قبل كل شيء فردي، شخصي، إلاّ أنه
بالضبط تجسيد للأمة. لأنه يعمل على أن يكون هو صوت الأمة، نتاجها وصنيعها.
ويحدث أحيانًا أن الأمة، الناس والمجتمع، رغم ذلك لا يقبلون الفنان،
أحيانًا يطردونه ويطاردونه بعيدًا، إنهم لا يفهمون في بعض الأحيان، ولا
يدركون اقتدار الفنان إلا بعد عدة سنوات لاحقة. لكن هذا ليس مهمًا، إنه
يعني شيئًا واحدًا فقط: أنهم لا يعرفون أنفسهم، إنهم لا يعرفون مشكلاتهم
الخاصة. ولذلك لا يستطيع الفنان أن يُعارض ثقافته الخاصة، ثقافة قومه، من
المحتوم عليه أن يفشل في هذه المعارضة، بأية حال هو قادر على معارضته، حتى
عندما يُعبِّر عن مفاهيم تحتوي أفكارًا غير مقبولة للمجتمع المعاصر فإن هذا
لا يعني أن هذه الأفكار ليست متولدة داخل، وضمن، ومن رحم هذا المجتمع.
المجتمع ليس لديه بعد الوقت الكافي ليعي هذه المشاكل والفنان دائمًا لا
يتعمد إدراكها أيضًا – إنه يعبر عنها فقط، ويقدر على أن يشعر بها. بالضبط
لأنه يعبر عنها. لأنه ليس من الحكمة بالضرورة أن يقفز إلى ما وراء نطاق
عصره، لكنه قادر على الإحساس أكثر. إنه كثيرًا ما لا يفهم ما يقوله. إنه
يكرر الكلمات وراء الكبار كالطفل، تكرار دون فهم لما يقوله الكبار فيما
بينهم، وعندئذ يقول الكبار: "عجبًا، ما الذي يقوله هل سمعت هذا؟ إذهب وقف
في الركن! ابق منبوذًا!" أو يعطونه علقة. وهم يضربونه لأنه يكرر الكلمات
التي سمعها في البيت. لقد نما في هذه البيئة فقط. باختصار، أود أن أقول
هذا: دور الفنان المفترض هو أن يكون صوت شعبه – ليس لكي "أن يكون"، المرء
لا يستطيع " أين يكون" باختياره، المرء لا يستطيع أن يقول لنفسه أن "يكون"
صوت الجماهير – ببساطة الفنان يجد نفسه هكذا، يكتشف في نفسه أنه صوت شعبه.
طبيعيًا، ثمة مشكلة: إذا كنت صوت الناس عندئذ قل فقط ما يطلبه الناس منك.
وهنا تكمن المشكلة، الناس لا تطلب منك شيئًا. الناس لا يطالبون أحدًا بأي
شيء. إنه الفنان هو الذي يتصرف وكأن شيئًا ما قد طلب منه، ومتوقع منه.
الناس حقًا يتوقعون، لكن بشكل غير واع. وبالضبط باسم هذا الواجب نحو
الجمهور، والناس، والزمن الذي يعيش فيه، عليه أن يتذكر دائمًا أنه لا يبدع
لنفسه. لكن – ولو أنه لا يبدع لذاته – إلا أن عليه فقط أن يظهر مشاعره
الحميمة.
هنا يجوز أن تجد أن الأفكار القريبة إلى قلبك، وبعض مظاهر عملك الإبداعي
ليس هناك من هو في حاجة إليها، لكن في هذه الحالة أنت لست صاحب حق... هنا
أنت ضعيف، كل ما بإمكانك على الأغلب فقط أن تنتظر مئات السنين حتى تتبين ما
إذا كان الناس مبدئيًا محتاجين إليك أم لا. هذا شيء لا يمكن للمرء أن يُصرح
به بجرأة في عصره الخاص الذي يعيش فيه. إنه من الصعب جدًا أن تكون الاثنين
معًا: مفيدًا للمجتمع وفي نفس الوقت صادقًا، إنه لمن الصعب أن تكون مقتنعًا
بفائدة عمل إذا لم يكن أحد في حاجة إليه. وبالرغم من هذا، ثمة طريق واحد
وحسب: أن تؤدي ما يبدو أنه صحيح. والزمن سوف يثبت هذا. لأن لا أحد يستطيع
أن يحكم على مجهودات شخص في زمن إبداعها. لذلك أمقت محاولات الفنانين
الوعظية، حين يخبرونهم ما الذي يجب وما الذي لا يجب عليهم أن يفعلونه.
خذ أي اتجاه في الفن – يساري، يميني – تجد كل هذا مجرد كلام فارغ مثل،
مثل... أن يكون تمامًا بلا أي معنى. الفنان يمكن أن يؤيدك بالمعنى السياسي
فقط فيما بعد عهد طويل، بعدما، عندما يموت بالفعل، وتبقى فقط كتبه وأفلامه
تحيا. وتتلخص المسألة كالآتي: "أنظر ماذا يقول؟ - نفس الشيء الذي نقوله".
وفيما بعد، قل في السنة التالية، كل شيء يتغير، وتتحول استجابتنا ونراه قد
كان يقول شيئًا مختلفًا كلية، شيئًا ما شد انتباه ثاني أو ثالث رجل يتولى
تقييم الفنان من زاوية أخرى جديدة.
باختصار الفنان ليس صاحب حق، وبالأحرى هو لا يملك الوسيلة التي تجعله أقرب
إلى حاجات قومه أكثر مما هو عليه فعلاً. وبإمكانه فقط أن يعتقد أن الله سوف
يمنحه في آخر الأمر إمكانية أن يكون مطلوبًا من قبل الأمة. سواء نجح أم لا
– فهذا شيء لا يعرفه ولا يمكن أن يُعرف على الفور، والسينما بوضعها المتميز
في هذا الخصوص فن خطير جدًا لأن نجاحها يمكن توقعه على الفور.
·
ليس هناك وقت.
تاركوفسكي: ليس هناك مرور للوقت. النجاح يجب أن يأتي في التو واللحظة.
ولهذا فإن نجاح صانع الفيلم أو الأفلام غالبًا لا يعني على الإطلاق أن
عالمه هذا من الداخل قد تطابق، إن جاز التعبير، مع زمنه ومعاصريه، والمشاكل
التي يعاصرها – وقومه – دعنا نضع هذا كله بهذه الطريقة.
·
إذًا لدينا سؤال...
تاركوفسكي: حسنًا. أنا لم أجب بعد إلى الآن على أي سؤال من الأسئلة
السابقة. لذا أود أن أقول لك شيئًا آخر ذا صلة بكل هذا، بالطبع، ستقول:
نبي. ما الذي يعنيه هذا: النبي؟ دعنا نقل أنهم كثيرًا ما يدعون
"ديستويفسكي" بالنبي. حسنًا، نعم ، لكن هو يمكن أن يُدعى كذلك، ويستحق هذا
اللقب.
·
كان عنده هذه الحقيقة. الحقيقة
النبوية.
تاركوفسكي: نعم، لكن "بوشكين" أيضًا كان عنده حقيقة نبوية كما كتب عن نفسه
كما تعرف – في "النبي"، هذه القصيدة الرائعة التي تغوص في العقلانية. لكنك
على صواب، على صواب بالكامل. بالطبع: نبي، الفنان نبي، وعادة من نوع
الأنبياء الذين لا تقبلهم أوطانهم. حسنًا، دعنا نأخذ "بوشكين" كمثال. إنه
شاعر، كان محبوبًا في دائرته الصغيرة. ولم يكن هناك العديد من بين أصدقائه
– أو حتى من بين معاصريه – ممن قالوا "إنه عبقري". فقط كان مجرد شاعر، مجرد
"بوشكين". ولم يتحدث أحد عنه مثلما نتحدث اليوم عن عبقري ينتمي إلينا.
وعندما أعدََّ "شوبان" مقطوعاته المتخصصة، ببساطة كان موسيقيًا أو ملحنًا.
لكن الآن نسمع: كان روح الأمة، كانت مقطوعاته ظاهرة فريدة – باعتبار شعرها
وتركيبتها الروحية الرقيقة – ليس له نظير أيًا كان في الثقافة الأوروبية،
إنه ظاهرة مدهشة. أتفهم وعندما كان حيًا... كانوا فقط مجموعة من الأصدقاء،
"جورج صَند" وكل فرد آخر، إلخ.
·
الحياة هي الحياة وحسب.
تاركوفسكي: الحياة هي نفسها نعم، لكن هذا التعبير أكثر رشاقة بطريقة ما،
لكنها معظم الوقت مرعبة، وصعبة. لهذا، حسنًا... أو دعنا نقول
"دويستويفسكي". في البداية كان "ديستويفسكي" مرفوعًا إلى القمة من جانب هذا
الـ... "بيلنسكي" الذي هاجمه فيما بعد. "بيلنسكي" الرهيب – من وجهة نظري.
باختصار، لا أحد قادر أبدًا على التنبؤ بمكانة هذا الشاعر أو ذاك في
المستقبل. بالطبع إذا كان نبيًا، صوت جماهيره، إذا كان ممتلكًا ملكة روحية
داخلية، إذا قام بمعانقة الذروة الروحية لقومه، بمعانقة روح أمته – عندئذ
بوضوح لن يكون أي شيء آخر سوى نبي. هو بالتأكيد يستحق أن يكون نبيًا.
ما هو النبي؟ النبي عمل، من خلق الناس. وهذا يعني أن الفنان نفسه نتيجة،
خلقه الناس بنفس الكيفية التي يخلق بها هو عمله الفني. وكما خلق الله
الأمة، تخلق الأمة الفنان، وهو يخلق عمله. ربما تعرف هذه القصة القصيرة
الممتازة لـ "بورخيس" عن الله وشكسبير.
·
"كل شيء ولا شيء"، فيما أعتقد.
تاركوفسكي: ربما، لقد نسيت العنوان. على أية حال ، هناك أخبر الله "شكسبير"
أنه قد خلق من قِبَل الله بنفس الطريقة التي يخلق بها "شكسبير" نفسه
أعماله. كل الأعمال تتخللها نفس القوة الروحية. لذا نحن لا يمكننا أن ننكر
الرسالة النبوية الملقاة على عاتق الفنان، بأي حال. لكن كيف يقدر المرء على
أن يضرب صدره بقبضته ويُعلن لكل من يهمه الأمر "أنا نبي!"؟ نحن نعرف أنه
كان هناك مثل هؤلاء الفنانين. وآخرون التزموا الصمت – أو ببساطة – واصلوا
إبداعهم. "بوشكين" لم يقل أبدًا أنه عبقري أو نبي. لقد كتب قصيدة عُنوِنَت
"النبي" لكن هو نفسه...
·
لكن الآن لم نعد نهتم بوظيفة
الفنان الاجتماعية. نعني ما لا سبيل لإنكاره. الشخصيات في أفلامك...
تاركوفسكي: أنا لا أتحدث عن وظيفة اجتماعية. أنا أتحدث عن كفاحه من أجل هدف
مثالي أسمى لأنه بدون هدف مثالي سام فإن الفنان لا يمكن أن يوجد. والهدف
المثالي كما نعرف مستحيل المنال. لذا فإن الفنان لا قيمة لكيانه بالمعنى
العملي، إنه قلِق باستمرار بشأن هذا الهدف المثالي وهذا الهدف ليس شيئًا
مؤكدًا، ولا يمكن أن يكون شيئًا نفعيًا بأية حال. وهذا في رأيي هو المأساة
في مجتمعنا المعاصر الذي يتطلب من الفنان تطبيقات ذات فوائد عملية. وعندما
تحاول أن تستخدم الفنان بهذه الطريقة عندئذ ستكسره وتحطمه تمامًا كألعوبة.
ولن يتبقى منه شيء – هنا، ذلك هو ما حدث "لماياكوفسكي".
·
لأنه كان "صوتًا".
تاركوفسكي:لأنه كان صوتًا يقودون نغمته بالقوة. أولئك الذين قدموا إليه
"الطلبات الخاصة بالمجتمع"، وهم "يعرفون جيدًا" ماذا يكون صوت الجماهير.
هكذا كانوا يأخذون الشيء المقدس في أي فنان: الصدق وصوت نفسه إلى نفسه.
هؤلاء الذين قادوه سيقولون: "نحن نعرف ما الذي يجب أن يكون عليه هذا الصوت
وليس أنت". هم يحرمون الفنان من وظيفته، كانوا يستولون عليه، يحطمونه.
وبهذا المعنى فإننا عندما نتحدث عن الحاجة – فإنكم تتحدثون عن
"الأرستقراطية الروحية". دعنا نتفق أولاً – أي نوع من أنواع الأرستقراطية
لدينا في عقولنا. الأرستقراطية، شرط روحي، شرط الفنان... ما هو الفن. ما هي
التحفة الفنية؟ ما معناها وما هو شرطها؟ ما الذي يعبر عنه العمل الفني
عندما يكون تحفة؟ إنها تظهر عظمة معينة للروح الإنسانية. إنها تعبر عن
الهدف المثالي الذي تجاهد هذه الروح من أجله. لقد أشرنا من قبل إلى أن هذا
إنعكاس لأمنيات وتوقعات الناس المختفية. وإذا كان ذلك كذلك إذن فنحن نتحدث
عن نوع من القمة، الذروة. وعندما نتحدث عن القمم والذرى، أيضًا نسأل عن
سبيل الوصول الممكن، إمكانية تحصيل أو نيل الهدف المعبر عنه من خلال العمل
الفني. هنا نحن نتحدث عن الشخصية الفريدة في هذه الظاهرة – نعم أم لا؟
·
نعم.
تاركوفسكي: نتحدث عن عظمة معينة. والمرء بإمكانه التحدث عن العظمة فقط
عندما تكون هذه الظاهرة محاطة بالفراغ. بإمكاننا التحدث عن الثلج الذي يغطي
الذرى إذا كان هناك إمكانية للسقوط من حالق إلى أحد الوديان عبر الفراغ،
أليس كذلك؟
·
لكن...
تاركوفسكي: دقيقة واحدة. هذه الإختلافات بين القمم والوديان. إذ كان هذا
كذلك وإذا كانت الذروة ترمز للسمو الداخلي وارتفاع الروح الباقية داخل
العمل الفني، فإن هذا يعني أن هذه الظاهرة الفريدة جاءت من أجل الجذب،
الاستدعاء، الدعوة إلى موضوع ما، النداء، تمكين الفرد من ترقيه روحانياته،
لأن هذا الفرد ما يزال في مرحلة أو درجة ضعيفة نسبيًا من التطور الروحي. في
مقابل التحفة الفنية، "الماستربيس"، تلك التي في القمة، وفي مقابل المبدع
الذي هو أيضًا في القمة، باعتباره يعكس كل شيء كامن في شعبه.
·
بالتحديد.
تاركوفسكي: نعم. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن تلك التحف، وقد قمنا بتعريف
وظيفتها من قبل، تظهر كهدف مثالي على المرء أن يكافح من أجله – هذا يتضمن
بالتبعية أرستقراطية، استثنائية، تسامي لروحانية الفرد عاليًا فوق كل ما هو
دنيء، وكل ما هو غير روحاني وكل ما هو بائس حقير. هناك توجد رواح الناس
التي تحلق في السماوات فوق الدهماء، فوق السواد الأعظم، فوق الظلمة.
"بوشكين" ميّز هذه الظلمة من روح الأمة. نحن نعرف هذا جيدًا. إنه كتب عن
السواد الأعظم والظلمة، وبالمناسبة، بما في ذلك الأرستقراطية والحاشية
الملكية حيث الفقر الروحي أيضًا. في الوقت نفسه في "بوريس جادانوف" كتب عن
الأمة – "الأمة الصامتة"... – نسب إليها الحاسة الخاصة، أو البصيرة التي
تُخَوِّل لها إدراك ألغاز التاريخ. أضفى عليها سمات روحية وحكمة داخلية
فائقة، باختصار – عندما نتحدث عن الأرستقراطية الروحية، يبدو الفن مثل منظر
طبيعي متسع لمرتفعات منتشرة فوق السهول، فالفن نفسه أرستقراطي. لكنه
أرستقراطي ليس بالمعنى الاجتماعي أو التاريخي لكن بالمعنى الروحي بكل ما في
الكلمة من هذا المعنى. الفن لم يكن ليُوجد إن كان غير أرستقراطي – إذا لم
يكن مُعبرًا عن كفاح من أجل مستوى روحي أرقى.
·
يتولَّد عندي انطباع – قد أكون
مخطئًا – أنك حينما تتحدث عن الجماهير الغربية فإن نبرة ملاحظتك تصبح ساخرة
أو انتقادية جدًا.
تاركوفسكي: إنها ليست كثيرة الانتقاد أو السخرية... هذا النقد ليس موجهًا
بدرجة كبيرة إلى الجمهور الغربي لكن إلى الوضع المذري الذي يجد المشاهدون
أنفسهم فيه، إلى حالة الثقافة في الغرب. على سبيل المثال، عند الروس، حتى
الآن الثقافة والعمل الفني دائمًا ما يُحظيان بروحية معينة، باطنية، أو –
إذا أحببت – بدلالة نبوئية. نفس مفهوم الثقافة أو استيعاب الثقافة ستجده
متطورًا بشدة أيضًا في بولندا. هنا، في الغرب، منذ زمن طويل والثقافة أصبحت
شيئًا للاستهلاك، سلعة للمستهلك. ماذا تعنيه الثقافة بالنسبة لهم؟ الثقافة
هي ما يمكنني أن أمتلكه، كنتيجة لكوني حرًا. وما الذي تعنيه كلمة "حر"؟ –
أنا حر في امتلاك مثيل ما يمتلكه كل شخص هنا. هل الثقافة موجودة في الغرب؟
تبدو كذلك. هكذا أستطيع ولديَّ الحق في استخدامها. وما الذي يعنيه القول:
"أنا أستطيع"؟ حسنًا، فقط – فيزيائيًا، بشكل براغماتي – أنا قادر. لن يخطر
في باله قط مجرد أن يقف وقفة قصيرة ويفكر: نعم أنت تقدر لكن هل أنت قادرًا
على هضمه؟ دعنا نأخذ "جوته" على سبيل المثال – أنت قرأت "فاوست" – لكن هل
كنت قادرًا على قراءته؟ تقدر، بكل وضوح أنت تقدر، من فضلك أذهب واشتري
لنفسك "فاوست". سيحدث فقط أنك لن تشتري "فاوست" لـ "جوته". سوف تذهب لدور
السينما حيث أنك تفضل مشاهدة فيلم لـ "سبيلبيرج"، وإذا ذهبت للمكتبة عندئذ
ستشتري كوميديا أو أفضل المبيعات رواجًا أو أي شيء من تلك الأشياء التي
يشتريها الفرد هنا. هذا كل شيء. لن تشتري "توماس مان"، لن تشتري "هسه،
فوكنر، ديستويفسكي". أنظر، ما أقصده هو: بإمكانك شراء كل شيء، بيد أن على
المرء لكي يستوعب الثقافة أن يبذل جهدًا مكافئًا لجهد الفنان الذي بذله
عندما كان يبدع عمله. وحتى هذا أيضًا لن يخطر على بال هذا المستهلك. إنه
يقول لنفسه: أنا أستطيع أن أذهب وأشتري، كل ما عليَّ أن أفعله هو أن أدفع.
هذا هو هو ما يؤدي إليه الإفتقار إلى الروحانية. لن يخطر على بال هذا
المستهلك أن الفن أرستقراطي – بالمعنى الروحي للكلمة، أنا أكرر، أعوذ بالله
من استعمالي هذه الكلمة بأي معنى آخر. إنهم يقولون: فن النخبة. ما الذي
تعنيه النخبة؟ الفن دائمًا يتوقع أن كل شخص يفترض فيه أن يكون قادرًا على
فهمه، على استيعابه. ينتظر الفن هذه اللحظة التي يفهمه أحد فيها. كل عمل
فني تم إبداعه لهذا الغرض. يقولون: النخبة لأنه لا يُفهم على الفور. ما
الذي يعنيه عدم الفهم؟ الفن لا يمكن أن يكون... قال "جوته": "قراءة كتاب
جيد صعبة تمامًا ككتابة آخر جيد". وهذا يعني أنه لكي يفهم المرء هدف المؤلف
عليه أن يؤدي عملاً روحيًا معينًا. أكرر: الفنان المبدع ليس هو الشخص الذي
يعارض قومه، إنه الفرد الذي يعمل على خدمتهم.
·
إذا سمحت لنا باستخدام عباراتك –
هل يمكن القول أن الجمهور لم يبدأ بعد سيره في الطريق المؤدي لأفلامك، وأن
الجماهير لا يزال أمامها هذه الرحلة؟
تاركوفسكي: إنه من الصعب جدًا بالنسبة لي أن أرى ما إن كان هذا صحيحًا أم
لا نظرًا لأنني لا أراقب عن قرب ردود أفعال الجماهير تجاه أفلامي. أعرف
شيئًا واحدًا فقط: أن أفلامي كانت تجد جمهورها في الإتحاد السوفيتي بصعوبة
بالغة. لكن مع كل فيلم كان الجمهور ينمو ويزداد ومؤخرًا بالنسبة للفيلمين
الأخيرين ببساطة كان من المستحيل أن تجد تذاكر. تلك الأفلام تم سحبها من
التوزيع بمجرد أن أدركت إدارة "جوسكينو" السوفيتية أن أفلامي أصبحت
جماهيرية. سحبوها على الفور. أطلقوها أول الأمر على أمل أن تفشل فشلاً
ذريعًا. لكن لم يحدث هذا، فقاموا بسحبها.
·
كل أفلامك عُومِلت بنفس الطريقة؟
تاركوفسكي: لا، فقط أشرت إلى الفيلمين الأخيرين: "المرآة" و"ستالكر". هذا
هو ما كان مخططًا. كان هذا طريقًا صعبًا لأنه كان هناك فقط شيء واحد عليَّ
أن أؤديه: أن أكون أمينًا وأتكلم بصوتي الخاص عن الأشياء القريبة مني وتلك
التي أرغب أيضًا في أن تراها الجماهير بالمثل. في البداية كان هذا النوع لا
يجذب المشاهدين، ثم أخذت أعدادهم تزداد بشكل تدريجي.
إنه غريب جدًا: عندما تركت – لسوء الحظ – الإتحاد السوفيتي، كان جمهوري
يتألف من أناس صغار جدًا، أعمارهم بين 16 – 17 سنة – وهم يفهمونني. ببساطة
فهموا أفلامي. ما معنى هذا، فهموا. أنهم قبِِلوها، كانت عالمهم بمعنى ما.
كنت سعيدًا جدًا بهذا الشأن. لكن كقاعدة كان الناس الذين في نفس عمري لا
يجدون أنفسهم قريبين من هذه الأفلام، ليسوا بقدر الشباب الصغار. هذا غريب
جدًا، وأنا لن أحاول أن أُفسر هذا.
نفس هذه العملية حدثت في الغرب، في لندن على سبيل المثال لديهم، أعتقد
خمسة، العديد على أية حال، من عروض أفلامي بغرض التأمل والتحليل. وبالنسبة
للفيلم الأخير، ليس منذ فترة بعيدة، شهر أو حوالي شهر، صفوف المنتظرين كانت
هائلة. ما هذا؟ هل يفهمون أفلامي – أم أنهم لن يفهمونها؟ لا يمكن أن أقول
بالضبط. أو هنا في "استوكهولم"، صفوف المنتظرين أيضًا كانت هائلة، العديد
من الناس جاءوا لمشاهدة أفلامي، بل ولازالت إلى الآن يعاد عرضها... لا
أعرف، أنا عمومًا سعيد بانتشار أفلامي، ولكن هناك خطر هائل عندما أصبح...
حسنًا، عندما يشاهد كل شخص هذه الأفلام. باختصار، يترتب على ما كنا نناقشه
مسبقًا أنه من الخطير جدًا أن ينال المخرج نجاح ضخم في شباك التذاكر. خطير
جدًا. أنا لا أعتقد أن هناك أهمية في محاولة إيصال شيء في هذه الحالة. هناك
من وصل بالفعل لقمة الروحية، عبر التقدم خلال مراحل التطور الداخلي بينما
يدعو الجمهور إلى أن يتبعه. العكس بالضبط – الفنان في هذه الحالة ينزلق
بنفسه إلى مستوى أدنى. ليس هناك شك في هذا.
طبيعيًا، من أجل أن توجد السينما وتستمر يكون على المخرج أن ينال شعبية
وهذه بالضبط مأساة السينما، والحقيقة أنها ولِدَت في مهرجانات للتسويق
والتسوق، في الإثم، في ساحة السوق. كانت عندهم هناك أداة غريبة الشكل:
حينما تنظر داخلها بإمكانك أن ترى بعض البنات يتعرين، وحينما كنت تضع عملة
معدنية كان شيء يحدث. وهذه هي المأساة – لأن السينما لم تتغير قيد أنملة
منذ هذا الوقت، ولكي يصنع السينمائي أفلامًا فإن عليه أولاً أن يحصل على
المزيد من الأموال. هذا الأمر مختلف بالكامل في الفنون الأخرى. المرء
بإمكانه أن يكتب كتابًا وهو جالس في البيت – مثل – مثل "كافكا" الذي كتب
ولم ينشر شيئًا. لكن الكتاب كُتِبَ بالفعل.
باختصار: مسألة الصلة مع المشاهدين والشعبية بشكل عام معقدة جدًا.
واستمراريتها تعتمد ليس على المشكلات والمهام التي يفرضها الفنان على نفسه
لكن على المهام التي يفرضها المنتجين، ويفرضها المال، على الفنان. ربما في
وقت ما مستقبلاً حينما تصل التكنولوجيا إلى مستوى لن تتكلف معه السينما أي
شيء، سوف نضع خوذة معدنية فوق رؤوسنا ونُسجل كل خيالاتنا وتصوراتنا كما في
تصوير المخ بالأشعة السينية ثم نقوم بعملية مونتاج لها في شكل فيلم. سيكون
هذا رخيصًا. لكن عليك أن تعيش زمنًا طويلاً كي ترى هذا متحققًا، كي تتحدث
عن هذا النوع من التكنولوجيا الرخيصة. أما حاليًا فهذا مكلف جدًا.
·
هل للفن البولندي والسينما
البولندية أثر في عملك بأي حال من الأحوال؟
تاركوفسكي: أثر؟ بالطبع، عندما كنت أدرست في (فيجيك) قفزت السينما
البولندية قفزة استثنائية غاية في الروعة، كانت فترة تفتح وإيناع ارتبطت
بأسماء مثل الشاب "فايدا"، و"أندريه مونك"، وآخرين.
·
المدرسة البولندية.
تاركوفسكي: "المدرسة البولندية". كانت معروفة في أنحاء العالم وربما لم
تكن، لكن تأثيرها علينا كان جيدًا. تأثيرها البارز كان في التصوير، الإسلوب
السينمائي في إدراك العالم كما رأيناه مع "إي. جي. فويسك"، المصور الذي عمل
مع "فايدا" وأيضًا مع "مونك"، فيما أعتقد. "رماد وماس" كان بالنسبة لنا
كشفًا مُلهمًا، للكثيرين منا. كل هذا كان مؤثرًا جدًا ومُلهمًا جدًا.
وبخاصة الارتباط مع مصداقية الحياة المُعَبر عنها في أفلامهم، سطوع
شاعريتهم الفوتوغرافية المبنية على الطبيعة والواقعية. كان هذا في ذلك
الوقت شيء لا يصدق لأنه حتى وقتها كانت السينما أوهامًا غير صادقة بالمرة،
مثل – ورق مُقوى. (ورق كرتوني)، أعمال زائفة، سواء في مظهرها أو مخبرها. في
أفلام "المدرسة البولندية" كان النسيج نفسه بالفعل لافتًا للنظر، صناع
الفيلم البولندي كانوا مدركين أنهم يتعاملون مع نسيج من نوع خاص، ولم
يعملوا على تدميره. السينما السابقة لم تُميز أنسجة الصورة أو تقم
بتنويعها، كانت كلها مشدودة بطبقة خارجية، ورق حائط، بعض القماش، حسنًا،
أتعرف – الورق المُعجن (الورق الملوك)، وكانت اللقطات تتم بالطبع في
الأستوديو، ثم جاء التحول فجأة إلى الطبيعة الخالصة، طين، جدران مُهدمة،
وجوه الممثلين بدون ماكياج، كانت تخترق الصورة مجموعة من المشاعر مختلفة
كلية، إيقاع مختلف – وكان هذا مهمًا جدًا بالنسبة لنا في ذلك الحين.
·
في ضوء الحديث عن روابطك
بالثقافة البولندية، هل بإمكانك أن تخبرنا لِمَ استندت في أحد أفلامك على
"سولاريس" لـ "ستانسلاف ليم"؟ ما الذي جذبك لهذه الرواية؟
تاركوفسكي: فكرت كثيرًا جدًا وبتقدير عظيم في "ستانسلاف ليم" ولقد أحببت
أعماله جدًا. أقرأها كلها متى كنت وأينما كنت، أقرأ وأنا مستمتع بنثره لكن
هذا يحدث كثيرًا أن – وأنا آسف لما أقوله – إنه لم يُحب السينما كثيرًا،
ولا يفهم ما هي السينما. لهذا كنا أثناء عملنا معًا شريكان غير متكافئين.
أحببت كتبه إلى أبعد الحدود بينما كان هو لا مباليًا أو حياديًا بالكامل
تجاه أفلامي. باختصار، كان يعتقد، ككاتب... أن الأدب قد وُجد ليبقى أدبًا.
·
أن الأدب هو الأكثر أهمية.
تاركوفسكي: أنا لا أعرف. ليس الأكثر أهمية – لكنه راسخ – كحقيقة. شأنه شأن
الموسيقا، الشعر، الرسم. لكنه لم يستطع أن يفهم السينما، وهو لا يزال
رافضًا لها حتى اليوم. هناك أُناس عديدون هكذا، حتى الأذكياء منهم، الذين
يعرفون بالفعل وبدقة الأدب، والشعر، والموسيقا، لكنهم لا يعتبرون السينما
أحد الفنون. إنهم إما يعتقدون أن السينما لم تولد بعد، أو هم لا يشعرون
بها، إنهم لا يستطيعون رؤية الأشجار في الغابات – بمعنى أنهم لا يستطيعون
أن يميزوا بين السينما الحقيقية والسينما التجارية. والواضح أن "ليم" لا
يعامل السينما بجدية كفن. لهذا فقد أعتقد أننا يجب أن نلتزم بروايته في
السيناريو، يجب ببساطة أن نجعلها مصورة. وهذا ما لم أفعله أبدًا. في هذه
الحالة كان عليه أن يستقدم أحد المخرجين الرسامين أو النساخين وليس أنا.
·
أحد هؤلاء الذين يصنعون "صورًا
حية".
تاركوفسكي: نعم، كلنا نعرف هذا النوع.
- فقط يبدعون في أغلب الحالات صورًا ميتة.
تاركوفسكي: هناك مخرجون كهؤلاء، وأولئك الذين يتبعون عمل الكاتب بشكل دقيق
وحرفي. هناك صور عديدة من هذا النوع وهي دائمًا على قدم المساواة. لأن
عملهم مجرد رسم تصويري كل شيء فيه ميت هناك، ليس فيه حياة ولا تطل منه
حياة، ليس له قيمة فنية. إنه مجرد انعكاس، شيء ثانوي مقارنة بالأصل الأدبي.
وهذا هو ما توقعه "ليم". وإذا كان هو بالفعل يتوقع هذا، فإن هذا شيء لا
يمكنني فهمه. إنه غريب جدًا أن نفترض أنه كان لديه هذا النوع من التوقع لكن
موقفه من السينما أي الفيلم الفني، هو الذي وضعه في موضع رجل يتوقع بالضبط
هذه النتيجة، التوضيح، النسخ الحرفي – بالرغم من أنه ربما لم يكن يريد هذا
على الإطلاق. لكنه عارض بثبات أي انحراف بين السيناريو والسرد الوارد
بحذافيره في الراوية. كان يسخط كلما حاولنا ابتكار خيط جديد.
في هذا الوقت أصبح عندنا سيناريو مغاير، ذلك الذي كنت مُغرمًا به. فيه
تقريبًا كل الأحداث حدثت على كوكب الأرض، أو أكثر من نصفها، أي، تناول
الأسباب الكلية التي أدت لظهور "هاري"، لماذا "جاءت إلى الوجود" هناك على
"سولاريس". كان هذا تذكيرًا بـ "الجريمة والعقاب" وكان بالطبع على خلاف تام
مع فكرة "ليم" الأصلية لأنني اهتممت بقضايا الحياة الداخلية، القضايا
الروحية إن صح القول، وكان هو مهتمًا بالصدام بين الإنسان والكون، "هذا
المجهول". هذا هو ما اهتم به بالمعنى الأنطولوجي (الوجودي) للكلمة، خاصة في
مشكلة الإدراك وحدود هذا الإدراك – وهكذا، حتى أنه قال إن هذه البشرية في
خطر، كانت هناك تلك الأزمة في الإدراك عندما لا يشعر الإنسان...، وهذه
الأزمة في تزايد، تتخذ أشكالها من تعدد المآسي الإنسانية، أيضًا، خبرة
علماء التراجيديا وبعد ذلك ينضج كل هذا ويتحول إلى نوع من الإنفجار، قفزة
إلى الأمام، كل شيء يتقدم نحو المستقبل الخ، إن هذا الإنفجار جيد جدًا، أنا
لا أنكر هذا، لكنني لستُ مُهتمًا بهذا على الإطلاق. هذه الرواية جذبتني فقط
لأنني لأول مرة أصادف عملاً يمكن أن أطلق عليه: التكفير، هذه هي قصة
التكفير. ما هو هذا التكفير؟ – الندم. بكل ما تعنيه الكلمة من كلاسيكية
مباشرة. عندما تتحول ذكرياتنا عن الشرور الماضية، والآثام، تتحول إلى
حقيقة، هذا بالنسبة لي هو سبب عملي لهذا الفيلم.
من ناحية أخرى إذا نحن تحدثنا عن هذه القضية، المواجهة مع المجهول – فإن
المظهر الوجودي لهذا لم يكن مهمًا بالنسبة لي ثانية، بل هو بدلاً عن ذلك
يصبح عندي وسيلة استجمام لحالة الإنسان النفسية، لرؤية واستعراض ما يحدث
لروح الإنسان وإذا ما كان الإنسان سيظل إنسانيًا – بالنسبة لي كان هذا هو
أثمن شيء – ليست مصادفة أن بطل فيلمي عالِم نفسي، بطل رواية "ليم" كان
عالمًا نفسيًا أيضًا. إنه يقطن المدينة شأنه شأن كل سكان المدن، مادي
النزعة، يبدو فقط وبالضبط هكذا، على نحو عادي مألوف. بالنسبة لي كان مهمًا
أنه يريد أن يكون هكذا فقط. والمفروض فيه أن يكون رجل ذا مستوى روحاني
محدود إلى حد ما، أو متوسط – فقط بهدف أن يكون قادرًا على خوض تجربة الجهاد
الروحي، تجربة الخوف، ليس كالحيوان الذي يتألم ولا يفهم ما الذي يحدث له.
ما كان مهمًا بالنسبة لي على وجه الدقة كان قدرة الكائن البشري على أن
يُجبر نفسه بشكل غير واعي على أن يكون إنسانيًا، على مستوى اللاوعي وبقدر
ما عنده من قدرات روحية تسمح له بمواجهة الوحشية، وبمواجهة كل ما هو غير
إنساني حتى يظل إنسانيًا. ثم يحدث التحول فيصبح رغم كونه شخصًا متوسطًا
تمامًا، – كما يبدو – يصبح على مستوى عال من الروحية.
يبدو كما لو أنه أدان نفسه، يدخل في المشكلة بشكل صحيح ويرى نفسه في
المرآة. وينتهي به المطاف إلى أن تجعل منه روحانيته رجلاً غنيًا – على
الرغم من قيوده الثقافية الظاهرة التي رأيناها سابقًا. وهو عندما يتحدث إلى
والده يكون مصدر إزعاج، في محادثته مع "بيرتون" يتحدث بتفاهة مبتذلة عن
المعرفة، والمبادئ الأخلاقية، ويحكي بعض القصص المبتذلة، وبمجرد أن يبدأ في
تشكيل أفكاره يصبح تافهًا. لكنه حينما يبدأ يشعر بشيء ما أو يعاني – يصبح
إنسانًا. وهذا لم يُخلِّف أي أثر بالمرة عند "ليم". لم يتأثر مطلقًا. وهذا
أثر فيَّ بعمق. وعندما نال الفيلم جائزة في مهرجان "كان" وهنأه أحدهم،
تساءل: "وما الذي بمقدوري أن أفعله بهذا؟" سأل هذا السؤال باستياء – لكن
ربما يمكن للواحد منا أن ينظر إليه بشكل مختلف ويسأل: "حقًا ما الذي سيفعله
بها؟" لو أنه اعتبر السينما أحد الفنون فسيفهم أن الفيلم، أو الإعداد
للشاشة، إنما هما دائمًا ينهضان على أنقاض فقر الأعمال، إن صح التعبير.
كظاهرة جديدة بالكامل. لكنه لم ير السينما بهذه الطريقة.
لكنني أشكره إلى أبعد الحدود على تلك الأيام التي قضيناها معًا وتحدثنا...
إنه رجل ممتع للغاية، لطيف جدًا. لذا إن أنا شعرت بقليل من المرارة فليس
هذا بسبب معاملته لي ولفيلمي بهذه الطريقة – وإنما بسبب معاملته بصفة عامة
للسينما كلها بهذه الطريقة.
وبالمناسبة، أود أن أطلب منك أن تحمل إليه أطيب تمنياتي، تحياتي وامتناني
الصادق. سوف أتذكر دائمًا بامتنان الوقت الذي عملنا فيه معًا. ما قلته هنا،
أيًا كان، كان لزامًا عليَّ قوله، على الأقل لتسجيل موقف موضوعي.
·
هاتان قضيتان مختلفتان .
تاركوفسكي: نعم. هانحن نضع يدنا على القضية التي دائمًا ما تؤدي بي إلى
مشكلة أكيدة بذاتها. حسنًا، هذا هو ما حدث ذات مرة: قابلت شخصًا ما، كان
رجلاً ذكيًا جدًا، حسن الإطلاع، مُلِم بالشعر والرسم والموسيقا، إلخ. رجل
ذكي. وهو يقول أنه أحب فيلمي الجديد، يعتقد أنه عظيم، شيء ما مثل: "أوه،
أنا سعيد جدًا، شكرًا لك، شكرًا لك". بدأت أتحدث معه وأنا أعرف أنه لم يفهم
شيئًا. هذا فظيع. هذا فظيع. هذا انعكاس لما كنت أتحدث عنه. إنه يشبه إلى حد
ما – الشخص القائل "نعم ، نعم، السينما، أنا أفهمها" – لكن في الحقيقة هو
لا يفهم سينما ولا يفهم ما هي، كيف يتعامل معها، ما الذي يمكننا أن نتوقعه
منها – ما الذي يفترض توقعه منها، وما الذي لا يفترض توقعه منها. وما الذي
تريده؟ بينما شعوره بالكامل كان مطمئنًا مرتاحًا بسيطًا، مثل سمكة في
المياه فيما يتعلق بالشعر، والرسم، والأدب، والموسيقا، إنه أولاً وأخيرًا
مجرد هاو فيما يتعلق بالسينما، غير مؤهل للمناقشة أو التحدث عن هذا الموضوع
– بينما هو مُستعد لهما هذا غريب جدًا. بالنسبة لي كل هذا بصفة عامة أكثر
أيلامًا بكثير من قول أحدهم "حسنًا، أنا لا أفهم فيلمك وفي نظري كل هذا
هراء، هراء إدعائي أجوف، أنا فقط لا أستطيع أن أفهم كيف يتم إنفاق أموال
الحكومة على أفلام كهذه". لقد استلمت خطابات من هذا النوع أيضًا. أثناء
مناقشة "روبلوف" شخص ما كتب مباشرة للـ "كي. جي. بي." لا شيء أقل من
"تاركوفسكي يجب أن يُعاد إلى الخط الوطني لكي لا يستخدم أموال الحكومة في
خلق أفلام ضد الأمة التتارية".
·
التتار؟!
تاركوفسكي: هل تصدق هذا؟ كنت ببساطة... "أثناء الحرب كان التتار جنبًا إلى
جنب مع إخوانهم الروس أراقوا الدماء من أجل مبادئهم وغاياتهم المشتركة
بينما تاركوفسكي يصنع أفلامًا ضد التتار". هل تفهم؟ "يجب ألاّ يُسمح
لتاركوفسكي بصناعة أي شيء آخر إذا هو ظل يعمل أفلامًا مضادة للتتار".
وهناك الكثير من هذا. هؤلاء الناس صاروا حتى جاهلين بتاريخهم الخاص
وبالتأكيد، إنهم لا يعرفون أن هؤلاء التتار في الفيلم أناس مختلفون تمامًا
عن أولئك التتار – المنغوليين الذين رأوهم في "روبليوف". قضيتان مختلفتان
بالكامل، إنهم حتى لا يدركون تاريخهم الخاص.
·
مرة كنت في "قازان" وقلت نفس
القصة هناك، قرأت الخطاب وقلت: أنت تتحدث عن كرامة أهلك التتاريون لكنك لا
تعرف – وكل من يردد كلامك لا يعرف – أنك ليست لديك أية فكرة عمّن تكون،
ولا تتذكّر من هم أسلافك، أنتم هكذا تخلطون أنفسكم بالأمم الأخرى.
تاركوفسكي: نعم. لذا تلقيت العديد من الرسائل المختلفة، أحيانًا يُهينك
بعضهم. أنت حتى لا تشعر بالانزعاج لتلقيك رسائل كهذه لأن القاعدة أنهم
أميون بكل ما في الكلمة من معنى. لكن عندما تفر فجأة نحو شخص ما، حسنًا
دعنا نقول شخص ما لديه آراؤه وميوله الثقافية، وعندما يبدأ فجأة يتحدث
بكلام فارغ عن عمل سينمائي ما أنت قدمته – سترى أنه ينقصه الفهم – وهذا
أكثر أيلامًا تمامًا.
أنا لا أعرف سواء وافقتني أم لا لكن إذا قرأ الواحد كتابًا على سبيل
المثال، أي عمل أدبي، فهناك غيره كثيرون، إذ بقدر الكتب الموجودة هناك
قراء. كل قارئ يرى الصورة التي أبدعها بنفسه، الصورة التي بناها بناء على
تجربته الشخصية – الأكثر من ذلك أن الأدب وصفي والسينما تعبيرية. لكن
السينما أيضًا تتيح للفرد رؤية خاصة به وهو ما أعتبره أنا أثمن بكثير. إذا
كان هذا ممكن في الأدب لماذا تتعين محاربته في السينما؟ فنجد العكس بالعكس
– ويكون الاعتبار فقط لما يقدم العموميات، ويحدد صفات كل شيء، ليكون
مقبولاً عالميًا؟ أنا لا أستطيع أن أفهم هذا على الإطلاق، أعتبره انتقائية
وتمييز أو كيلاً بمكيالين. أعتقد أن العمل الفني يبدعه الجمهور، المشاهدون،
القراء. الفن لن يكون فنًا إذا منع الفرد من إدراك ما يريده أو يراه.
بالطبع المرء يجب أن يكون مستعدًا ومؤهلاً بدرجة معينة لتكوين الرؤية. لكن
ما هو أكثر أهمية ليس كثرة التأهيل والتحضير، ولا مستوى التعليم، لكن
المستوى الروحي. هذا هو التلقي. ليس بكثير من الفهم ولكن التلقي. وإذا أنت
تلقيت عندئذ سوف تفهم، سوف يحل الوقت الذي تفهم فيه.
لذا إذا كان بإمكان الأعمال الأدبية أن تعرض وتفسر لنا حالات ومواقف بطرق
خاصة بطبيعة الأدب، فلماذا لا يجدر بالأعمال الأخرى، لنقل السينمائية، أن
تجد الفرصة في أن تعمل هذا بطريقتها الخاصة وحسب طبيعتها؟ أليس كذلك؟ أعتقد
أنه يجب.
·
السؤال الأخير الذي نحب أن نسأله
لك – أنت تعيش كلاجئ. ممكن أن نشير أو نرمز لحياة الفنانين الروس اللاجئين
فيما نعتقد، بثلاثة أسماء: "بونين ، نابوكوف، سولجنستين". هؤلاء الثلاثة
متنوعون، ثلاثة طرق للعيش كلاجئ. إلى أي طريق من طرق الحياة هذه تشعر
بالقرب؟
تاركوفسكي: لا أستطيع أن أشعر بأنني قريب من طريقة أي شخص في الحياة.
بإمكاني أن أشعر بشخصية إنسان ما ككيان قريب مني.
·
نعم ولكن هذه الأسماء الثلاثة هي
ثلاثة طرق في الحياة كلاجئ.
تاركوفسكي: بالطبع. "بونين"، دون شك. دون شك. لكنني أشعر بقربي منه لأنني
أيضًا أشعر بقربي من أعماله. أنا أعتبره كاتبًا عظيمًا.
·
لكنه يعيش في الماضي، حبس نفسه
فيه. إنه يتذكر، فقط وعلى وجه الحصر.
تاركوفسكي: إنه يتذكر. ما الذي يعنيه هذا: يتذكّر؟ "سولجنستين" يتذكر
أيضًا. و"نابوكوف" يتذكّر أيضًا. أعذرني، كل شخص يتذكر. الأصل في فكرة الفن
مع كل ذلك أنها مبنية على التذكر.
·
لدينا في مخيلتنا نموذج لسيرة
اللاجئ أو تاريخ حياته. كون اللاجئ شخص بإمكانه أن يسجن على نفسه بشكل وحيد
فقط في ذكريات الماضي – مثل "بونين"، أو مُستَوعَب ضمن ثقافة مختلفة، لغة
أخرى – مثل "نابوكوف" – أو يعيش أكثر في المشكلات الخاصة بأمته بدلاً من أو
أكثر من تلك التي يجدها المهاجر في البيئة الجديدة – مثل "سولجنستين".
تاركوفسكي: الروس لا يمكنهم أن يكونوا لاجئين...
·
لا أحد بإمكانه.
تاركوفسكي: إلى جانب ذلك، ضع في حسبانك أن "نابوكوف" ترك روسيا عندما كان
طفلاً، و"بونين" رحل، أجبر على الرحيل بالقوة، كبالغ، كإنسان بالغ،
و"سولجنستين" لم يكن فقط بالغًا وكاتبًا ولكن أيضًا كاتبًا عايش أشياء لم
يحلم بها أبدًا الإثنان الآخران. هذه الصور الثلاثة من الحياة لا يمكن أن
تُضاهى بأي حال. لكن إذا قلت: نموذج – إذًا نحن قريبون من بعضنا البعض ولو
أنني لا أعرف إلى أي حد نحن قريبون. "نابوكوف" لم يكن ليتلاءم مع هذا
التصنيف بالمرة لأنه رحل طفلاً، كان هذا مختلفًا تمامًا. الوحيدان فقط
اللذان تم ترحيلهما "سولجنستين" و"بونين". ولكي تتأكد، أقول لك أنني لا
أمتلك "سولجنستين" و"بونين" – بالطبع ليس لدي تجربة "بونين". "بونين" كما
لاحظت – بالنسبة له حياته هناك انتهت حتى قبل الثورة، كل شيء بالنسبة له
انفصل قبل الثورة بمدة طويلة. والحياة التي وصفها بدت اجترارًا للماضي،
الحياة التي ذهبت وانقضت.
·
هذا هو ما كنت أقصده عندما قلت
أنه سجن نفسه في الماضي.
تاركوفسكي: نعم، من أجل هذا كان يتألم كثيرًا. أحب "بونين" ككاتب. أفهم
ألامه وما هو أكثر – أفهم شخصيته. وقد كان رجلاً حادًا جدًا، صريحًا جدًا،
ليس دائمًا عادل، يحاكم الآخرين بشكل استثنائي، بدافع ذاتي، لم يكن رجلاً
جيدًا جدًا، لنضع هذا جانبًا. لكنني لا أعرف، أكان "نابوكوف" رجلاً جيدًا؟
وهل "سولجنستين" جيد؟ لا أعلم هذا.
لذا عندما نتحدث عن حياة اللاجئ كنموذج إذن "بونين" أقرب، بمعنى من
المعاني، إلى "سولجنستين". في إحساس الناسك الذي عاش به، لم يكن بمقدوره أن
يتكيف أو ينفتح على الحياة الجديدة. بينما "نابوكوف" كتب بالإنجليزية
والروسية – لكن هذا ثانية ينبع من مغادرته المدينة في سن مبكرة.
كان "بونين" يمثل نوعًا سيئًا جدًا من اللاجئين. على سبيل المثال، وأيًا
كان مدى الألم الذي أحس به "سولجنستين"؟ بسبب هجرته، كان "سولجنستين"
قادرًا بطريقة ما على أن يتفاعل مع حاضره وأن يشغل باله بالأمور المهمة،
بالمشاكل. أما "بونين" – فيما أعتقد – فقد أخذ فقط يستعيد ألمه وينفثه بشكل
ثابت وهو ما جعله ممرورًا، لم يستطع أن يكبته داخله، لم يكن قويًا بمعنى من
المعاني مثل "سولجنستن". كان إلى حد ما... كان يبدو أيضًا كطفل. وفي تلك
الأيام كثيرًا ما بدا ليس طفلاً جيدًا.
·
كالأطفال عندما يكونون شكسين
أحيانًا.
تاركوفسكي: نعم. كما هو الحال دائمًا مع الأطفال. شخصيته بصفة عامة كانت
صعبة. لكن من منا شخصيته سهلة؟ "نابوكوف"؟ لا. ربما "سولجنستين"؟ أيضًا لا.
·
وشخصيتك أنت؟
تاركوفسكي: إذا كنت تسأل عني فلن أستطيع أن أعطيك أية إجابة لأنني غير قادر
بالمرة على أن أحكم على نفسي. سوف أحكم خطأ إذا حاولت عمل هذا.
·
"بونين" كان سيعمل نفس الشيء.
تاركوفسكي: ماذا تقصد؟
·
"بونين" سيعطي في الغالب نفس
الجواب عن سؤالنا هذا.
تاركوفسكي: أتعتقد ذلك؟
·
نعم. أعتقد أن كل شخص يفكر
ويتصرف بهذه الطريقة وهو يعتقد أنها طريقة جيدة.
تاركوفسكي: ما هو الجيد.
·
الجيد هو التصرف بهذه الطريقة.
تاركوفسكي: لكننني لم أقل ولا أستطيع أن أقول عن نفسي أبدًا أن ما أفعله
كان أو يكون جيدًا. أولاً، أنا لا أعتقد أنني أعمل كل شيء بطريقة جيدة،
والأدهى، أن الكثير جدًا مما فعلته جاء بشكل سيئ. نعم لكن تلك قصة أخرى لا
محل لها الآن، هكذا أشعر أنني أكثر قربًا وبشدة من "توليستوي" كشخصية. كنمط
لفنان – وهو أقرب إليَّ من، قل، "ديستويفسكي" أو أي شخص آخر، كنمط،
كنموذج.
الظاهرة الأكثر روسية بالنسبة لي، الأكثر أهمية والأقرب لي – بالمعنى
الروحي – هي المشكلة التي حسنًا، لنسمها عقدة "القديس أنطوني". إنها صراع
الروح والمادة. تلك المشكلة "الهاملتية". "هاملت" كما نعرف إبداع
"شكسبيري"، بالطبع، وبالتأكيد ليس "ديستويفسكيًا" – إذًا ليس بإمكان الواحد
منا أن يقول أن هذا اكتشاف روسي. و"القديس أنطوني" كما نعرف أيضًا ليس
شخصية روسية. أيًا كان، هذه العقدة بالنسبة لي هي القضية الأكثر أهمية.
إنها الصراع بين الروح والمادة. إنها معركة يحارب فيها الله الشيطان ثانية
داخل الإنسان. ذلك هو الأكثر أهمية. و"توليستوي" ببساطة شعر بهذا، وعانى
بسبب هذا. كان راغبًا في أن يظل أخلاقيًا إلى الأبد، واجه السؤال وعرضه
مباشرة: ما هو الفن؟ وقرر أن لا أحد في حاجة لكل هذا على أية حال. إنه وهم
التطير البرجوازي. كان بالفعل يساريًا كبيرًا مكتملاً في هذه الأيام. رفض
عمله الإبداعي الخاص، بدأ يكتب مبادئ إلخ. إلخ. أيضًا أراد أن يُفلِح الأرض
ويزرع. صراع. صراع بين المثال والممكن، ما هو محتمل واقعيًا.
·
أعتقد أننا يجب أن نبدأ في أن
نختم هذا الحوار. لقد أخذنا الكثير من وقتك. نشكرك كثيرًا على هذه
المحادثة.
تاركوفسكي: مرحبًا بكما.
·
نتمنى لك عودة سعيدة لوطنك
الأصلي – أنت وأفلامك.
تاركوفسكي: متى ستعود إلى بولندا؟
·
في غضون شهر.
تاركوفسكي: ولِمَ أنت هنا؟ كمراسل صحفي؟
·
لا، بصورة شخصية. أنا أزور
أصدقائي.
تاركوفسكي: حسنًا، فليصاحبكما الله، وإذا كنتما على أية حال قادرين، فلا
تتركا بولندا.
·
ليس لديّ النية للرحيل.
تاركوفسكي: الهجرة عبء ثقيل. أحدهم جاء إلى هنا من روسيا، صديق لي، لا يهم
من هو... "حسنًا، نعم؟ أنا لا أعرف. ماذا؟ كيف؟ ترحل – لا ترحل؟ ما الذي
تعمله؟ كيف تعيش؟" – حاولا ألاّ ترحلا وأفعلا أي شيء ممكن لكيلا ترحل. يجب
ألا أن يفعل المرء هذا.
لا يجب أن يترك المرء وطنه الأم. لا بولنديون ولا روس، السلافيون بشكل عام.
أيضًا أين سيجدون جذورهم السلافية؟ بالطبع بولندا بلد تابع للغرب، دون شك.
لكن أيضًا جذورها تمتد بعيدة في الشرق – ليس بسبب تبعية روسيا للشرق وبصفة
عامة ليس بسبب روسيا ولكن بسبب التوجه العام القوي جدًا نحو الشرق. أنا
أجهر باحترامي لبعض بلاد الشرق: تايلاند، نيبال، أو التبت، أو حتى الصين –
إنها أرض الإلهام الروحي، أكثر قربًا إلى قلبي بالروحانية من فرنسا أو
ألمانيا. برغم كل شيء. على الرغم من أنني أعرف كل هذا، أفهمه وأحبه، ومع
ذلك فقد تأقلم المرء مع أساليب الحياة الغربية، الثقافة الروسية بشكل عام
اليوم هي ثقافة غربية. لكن تبقى هذه الروح، وتلك الصوفية التي تربطنا
تحديدًا وبقوة بالشرق – الذي هو قريب جدًا منا. مع ذلك بولندا بلد
كاثوليكي. والكاثوليكية في بولندا، بالمناسبة، غريبة غير تقليدية، بخلاف
مثيلتها الإيطالية على سبيل المثال، ليس لديهما شيء مشترك – بينما في
الظاهر لدينا البابا مشترك. نعم، كل هذا مهم جدًا... بالطبع بولندا كانت
دائمًا في هذا الموقع بين عالمين، وروسيا دائمًا كانت تُضايق بولندا،
والروس يتذكرون هذا جيدًا ويعرفونه. لكن ما الذي يمكن للمرء أن يقوله.
إيلاف في
23/12/2009 |