غالباً ما تنتهي التجربة السينمائية عند اصحابها مع انتهاء الفيلم. بل
ان بعضهم "ينتهي" من العمل بعد إتمام كتابة السيناريو. أما إيليا سليمان
فما زال يعيش مفاعيل أفلامه لاسيما أحدثها "الزمن الباقي". ولا أقصد بذلك
"الحياة الثانية" للفيلم كما يطلقون على مسيرة الافلام في المهرجانات ودور
العرض. بل ان سليمان مازال يعيش "الحالة" او "الحالات" السينمائية التي
أثمرت "الزمن الباقي" بحثاً وكتابة وانجازاً. هذا على الأقل ما كشفه اللقاء
معه خلال زيارته الاخيرة الى بيروت حيث قدم فيلمه في إطار "مهرجان السينما
الأوروبية"، ممهداً لخروجه في الصالات المحلية الاسبوع المقبل. وصف العمل
بالتجربة التي لا تتكرر والتي لا تخضع لاستراتيجيات مسبقة. وقال ان التجربة
لا تنتهي بانتهاء الفيلم بل تتحول قلقاً وجودياً مستمراً. يتحدث عن فيلمه
كما لو كان يعيد اكتشافه. فبعض الاشياء لايزال خافياً عنه وقد يحتاج الى
مشاهدته من جديد ليتمكن من وصف التجربة بكلمات وأفكار. يلج في التفاصيل
مستمتعاً بتفكيكها ومن ثم جمعها. فبهذا الفيلم اكتشف أهمية التفاصيل، أهمية
الهامشي. يطلق على تجربة صنع الفيلم توصيفات مختلفة مثل "الصوفية" وينسب
الى "القدر" بعض التفاصيل الذي لا يملك تفسيراً واضحاً لحدوثه. يعلن نهاية
مرحلة ولكنه لا يستبعد ان يستكمل مشروعه المقبل ما بدأه الحالي. يعبر كل
هذا عن حقيقة واضحة وهي ان ثمة بركاناً يتحرك خلف المظهر الهادىء لايليا
سليمان تماماً كما هي حال فيلمه الذي يغلي بالافكار والسخرية والالم
والخيال والواقع، خلف إطار يروي ملحمة من دون ان يكون ملحمياً.
في ما يلي الجزء الاول من المقابلة المتحور بشكل اساسي حول "الزمن
الباقي" وسيليه جزء ثانٍ يتحدث فيه المخرج عن مفهوم فلسطين واشكالية
الانتماء وعن الآني والآتي.
·
[ هذه الرغبة في السرد، في
العودة الى أصول الاشياء والبوح بها من الألف الى الياء، من أين جاءت في
"الزمن الباقي" ولماذا الآن؟
ـ إنها رغبة بالفعل، تعود الى سنوات طويلة خلت. تخيّلي ان معظم
الأشياء التي يتحدث الفيلم عنها، رواها لي والدي قبل ثلاثين عاماً، واستمر
بتردادها على مدى كل تلك السنوات. هذه حكايات وغيرها موجودة قبل أن أبدأ
مسيرتي في السينما. أما لماذا تفجرت تلك الرغبة الآن وجاءت في مكانها
المناسب، فهنالك أسباب.
عندما مرض والدي، طلبت اليه ان يكتب حكاياته، ويدون ما علق في ذاكرته.
من جهة، كنت على يقين من انني سأعود الى تلك الحكايات في أحد أفلامي،
تماماً مثلما عبر الكثير منها الى فيلمي السابقين، ولذلك كنت أخشى الاعتماد
على ذاكرتي فقط لاستعادتها. من جهة ثانية، وجدت ان الكتابة ستشغله. أذكر
تماماً انني طلبت اليه كتابة وقائع من دون "إنشاء"، وأفكار وخواطر وان لم
تكن كاملة أو واضحة. بل انني ذهبت أبعد من ذلك، موحياً إليه ان يكتب
انطباعاته عن الاحداث وأن يذكر تفاصيل هامشية من مثل حالة الطقس مثلاً
والأشخاص الذين كانوا برفقته عند وقوع هذه الحادثة او تلك.
·
[ بمعنى آخر كنت تريد منه ما
يشبه السيناريو!
ـ صحيح ولكنني لم أقل له ذلك. كان يطلعني على ما يكتبه تدريجياً
وبصراحة لم أكن أكيداً من قدرتي على صنع فيلم يمتد على طول تلك الحقبات.
كنت أخشى التحدث عن حقبة لم أعشها ولا أعرفها. فقط تأملي في حجم التغيير
الذي يفرضه ذلك علي، لجهة اختلافه الشديد عما أنجزته في "سجل اختفاء" و"يد
إلهية" وحتى عن أفلامي القصيرة. هذا التحول كان مخيفاً بالنسبة الي وأصبح
مخيفاً أكثر حين أدركت انه يقوم على تحول على الصعيدين الميتافيزيقي
والحسي.
كان سؤال الكاميرا يؤرقني. يكفي ان أفكر أين يجب أن تكون، موقعها،
مسافتها، وظيفتها... حتى أتوه وأتردد حيال القصة برمتها. كيف يمكن أن أكون
موثوقاً في روايتي لهذه القصة؟ هذا السؤال لا استطيع الاجابة عنه حتى الآن
بنظريات، ولكنني أستطيع القول ان التجربة أثمرت ما أردته بطرق مختلفة عصية
على الشرح أحياناً.
[ الموقع
·
[ سؤال الكاميرا كان يجول في
راسي أيضاً لدى مشاهدة الفيلم. ليست الكاميرا بالضيط وانما موقعك أنت في
السرد وتنقلك بين وجهة نظر والدك في الجزء الأول وصولاً الى حضورك "الغائب"
كمراقب صامت في الجزء الأخير...
ـ الكاميرا هي أنا بهذا المعنى. ولكن دعيني أشرح كيف اشتغلت على مسافة
الكاميرا من الاشياء وموقعها. في المنحى الكلاسيكي، اقتراب الكاميرا من
الموضوع او الموقف او الشخصية يقوم على ادعاء مضمر بالمعرفة والفهم. اي
انها تقترب لأنها تعرف أو لأنها متفوقة في هذه اللحظة. وبالمعنى عينه، يعني
ابتعادها محاولة الفهم أو اكتشاف شيء لا تعرفه. في "الزمن الباقي"، وجدتني
أقوم بالعكس إذ اقتربت عندما كنت لا أعرف وابتعدت حين كنت أعرف. والمعرفة
هنا تساوي الإحساس. لذلك لا أبالغ إن قلت لك ان موقع الكاميرا في كل لقطة
بالنسبة الى الشخصية كان يُحدد بالسنتيمتر الواحد. نروح أنا ومدير التصوير
نحرك الكاميرا سنتيمتراً الى الوراء ومثله الى اليمين او الى اليسار حتى
أصل الى المسافة الصحيحة بإحساسي. بهذا المعنى، كان العمل مثيراً جداً.
الإحساس في الفيلم متعدد. مشهد الأم على الشرفة "لحظة عاطفية" بامتياز.
بينما تابلوهات الـ48 ومشاهد الكوريغرافيا يطغى عليها الاحساس "الفني".
·
[ أظن ان هذا القلق وصل الى
الذروة في الشق الذي يروي 1948.
ـ بالطبع لأن هذا الجزء هو الابعد عني وأيضاً لأنه فرض على تحديات
كثيرة وأسئلة. فكنت أسأل نفسي مراراً: هلى أبتعد عن السرد؟ هل أكسّره؟ قبل
وقت قليل من التصوير أدركت ان الركون الى "الأسلبة" (Stylistics) التي أعرفها في شق 1948 سيكون خطأ فظيعاً. لا أدري اذا كان ما قادني
الى ذلك الخيار هو نوع من ارتداد أوقفز الى الأمام، ولكنني شعرت انه من
الملائم جداً أن يقوم جزء الـ48 على السرد، هذا النوع من السرد، وأن ينفتح
الفيلم رويداً رويداً على صمت أكبر ويصبح بعيدأ من المتناول على الرغم من
أن الجزءين التاليين أقرب عاطفياً.
انها المرة الأولى التي اقوم فيها بهذا النوع من الشغل في ما يتعلق
بتفاصيل مرحلة. لم أترك بيتاً يطل على الشارع الرئيسي في الناصرة لم اسأل
أهله عن الاتجاه الذي سلكته سيارة رئيس البلدية في المشهد الافتتاحي للجزء
الاول في اللفيلم. هذا النوع من البحث قربني من حقبة 1948، كذلك كون أبي هو
صاحب الرواية والتجربة، والبيت الذي يظهر في الفيلم الذي تقطنه "أولغا"
العمة هو في الواقع بيت جدي. والبيت الآخر هو بيتنا.. هكذا تسلل الموضوع
الي ببطء من دون أن يزيل عني ذلك الشك والتردد. لم أرد استثمار تلك المعرفة
السابقة بالاشياء وبحكايات والدي في الفيلم. خشيت أن أبدو متعجرفاً أو
متفوقاً وخفت من أن أفوت علي فرصة المعرفة والاكتشاف. أن أروي الـ 48 في
فيلم أمر لن يتكرر، لذلك كان لا بد لهذا الجزء من ان يكون كاملاً
و"مثالياً" لأن ما من عودة ثانية إليه، على الأقل ليس بتلك الطريقة. وفكرت
انه اذا توقف المشروع بسبب الانتاج، فستكون لدي على الاقل مرحلة 1948
كاملة. لذلك لم أتنازل عن اي تفصيل. أعدنا بناء المكان على صورة الماضي.
ورشة حقيقية في الشوارع والمنازل. أزلنا أعمدة الكهرباء الحديدية
واستبدلناها بخشبية وفصّلنا بزات الجيش الاسرائيلي (الهاغانا) في انكلترا
وأعدت طلاء منازل 1948 أربع مرات للحصول على مظهر الطلاء الزيتي الذي كان
موجوداً وقتذاك.
هذا الفيلم كان مرهقاً وصعباً وممتعاً.
·
[ حين تتحدث عن هذا التفصيل
الصغير المتعلق بالبحث التاريخي، يخطر لي ان اسألك عن أهمية إعادة بناء
الرواية التاريخية في فيلم تصفه بأنه يعبر عن نظرتك الخاصة حتى الى
التاريخ؟
ـ تكمن أهميته في انني في كل أفلامي أحرص على استيلاد اللحظة، عاطفية
كانت او متخيلة، من واقعة عشتها او سمعت عنها أو ذكرى بعيدة. ومشهد سيارة
رئيس البلدية ذاك كان المقدمة للدخول في الرواية لذلك اردت ان اقدمه وكأنني
عشته. ثمة منحى آخر لهذا البحث الميداني، اذا صح التعبير، هي شخصية والدي
تحديداً. فالرجل يكاد يكون أسطورة بالنسبة الى من عرفوه. عندما بدأ الممثل
صالح بكري التحضير للدور، نزل البلدة وسأل عن "فؤاد سليمان". بدأت تنهال
عليه حكايات لا أعرفها وهو بذكائه وفطرته هضم كل ذلك وخرج بشخصية تشبه
والدي الى حد مخيف. المهم ان هذه الشخصية التي هي مزيج من قبضاي وشهم وعاشق
للفن و..و.. كانت قريبة من الاسطرة ولم يكن من سبيل الى نزع تلك الهالة
عنها سوى التأكد من الحكايات من مصادر أخرى.
·
[ ماذا عن الجزءين الآخرين؟
السبعينات والحاضر؟ هل كانت الخيارات الفنية فيهما اسهل؟
- إذا قلت اسهل فسيعني ذلك انني اتبعت خطة واضحة للوصول الى ما وصلت
اليه في حين ان الامور سارت في اتجاه اكتشفت لاحقاً انه الاتجاه الطبيعي،
لا أدري كيف او لماذا. في النهاية، بدا ملائماً تماماً أن تكون مرحلة 1948
هكذا وان تفتح مرحلة السبعينات أكثر مع بقاء العائلة وشيء من السرد وأن
تنتهي بانحلال لا تفهمين كيف سيكمل. ثم يأتي الجزء الأخير ـ الحاضر ـ
الأكثر تكثيفاً والأقرب الي والى المشاهد ربما. لم يكن تصويره سهلاً ولكن
كان من السهل معرفة اين ستكون الكاميرا، اي موقعي. الجزء الاخير كان صعباً
لجهة الضغط العاطفي. مشاهد الام على الشرفة وفي المستشفى لم تكن سهلة على
الإطلاق. فالممثلة كانت تستخدم اشياء والدتي وتمثلها عملياً في حركتها
ومشيتها.
[ التحول
·
[ غالباً ما يرتبط المخرجون
بعلاقة تحول بأفلامهم. بالنسبة اليك، ما الذي يصنعه الفيلم بك؟
- سأبوح لك بشيء، لا أدري اذا كان سيجيب عن سؤالك أم لا. أحياناً تكون
اللحظة عاطفية جداً ومشحونة ولكنك لا تصلين فيها الى لحظة الحقيقة عند
تصويرها. النضج مسألة اساسية هنا. من المؤكد انني لو أقدمت على تصوير مرحلة
1948 من قبل كنت سأفشل. والواقع ان محاولات استعادة تلك المرحلة سينمائياً
بدأت قبل "يد الهية" او خلال كتابته. كنت أكتب شيئاً قريباً مما أنجزته في
"الزمن الباقي" ولكن مرض والدي حملني على ترك السيناريو وقتذاك وملازمته.
تلك التجربة أثمرت "يد الهية". فكرت في ان أبدأه من الـ48 ولكنني اكتشفت
انني لا أملك النضج الكافي...
·
[ هذا يعيدنا الى ما قلته في
البداية عن اسباب تحقيق رغبتك القديمة بالسرد في هذا الوقت بالذات...
- صحيح تماماً. والنضج هنا نوعان: شخصي وسينمائي وعلى الاثنين أن
يتزامنا ويتطابقا ليخرج فيلم مثل "الزمن الباقي". على فكرة، كنت أنوي تصوير
مشاهد الأم أولاً مع والدتي ولكن لأسباب انتاجية ارتأينا أن نبدأ التصوير
مع مرحلة 1948. حين وصلت الى مشاهد المستشفى ومرض والدتي، بدأت تساورني
الشكوك. هل من الضروري ان أفعل ذلك؟ ليس سهلاً تصوير لحظات شخصية من ذلك
النوع أمام فريق عمل كامل. انه بمثابة التعري التام أمام الجميع. في مرحلة
معينة أثناء التصوير داخل المستشفى، أوقفت التصوير، طلبت من جميع أفراد
طاقم العمل المغادرة باستثناء المصور ومساعدي وخرجت لتدخين سيكارة قبل أن
أعود الى التصوير.
في مرحلة الكتابة، تختلف الأمور. هناك إحساس بألم اللحظة، ولكنها تبقى
بعيدة، حبراً على ورق، يمكن العودة اليها وتعديلها او حتى الاستغناء عنها
تماماً. ولكنني سعيد أنني قمت بذلك.
على صعيد آخر، التجربة بدلت حياتي ليس فقط بمفاعيلها ولكن ايضاً بما
رافقها من أحداث واقعية. فقد اصبحت يتيماً بعد هذا الفيلم من دون أن أفهم
تماماً ما يعنيه ذلك. ولكنه شعور غريب الا يعود هنالك مكان ترتبط به وتعود
اليه. فكرة العودة الى الناصرة الآن تبدو مخيفة. الواقع انني زرتها بعد
التصوير وأقمت العرض الاول للفيلم فيها. لم أمكث أكثر من يومين وكان يمكنني
ان أعرج على بيتي ولكنني لم أفعل. لم أواجه بعد هذا الواقع الجديد. مازلت
هارباً وان كنت أعتقد انه يجب علي ان أفعل. كنت أفكر قبل ايام بيني وبين
نفسي ان هذه التجارب القاسية من الفقد والمواجهة واليتم... هي ربما من
مستلزمات هذه السينما التي أنجزها ومن مستلزمات اللذة التي تمنحني السينما
اياها. لكن المشكلة تكمن في ان الفيلم ينتهي ولكن التجربة لا تنتهي، بل
تكمل على شكل حالة وجودية.
·
[ هل تقول اذاً ان الكتابة عملية
مؤلمة؟
- في بعض مراحلها، نعم. هنالك بالطبع الأجزاء التي تقوم على الضحك الى
درجة الاحراج لأنني في الواقع أكتب وأقهقه عالياً، أضحك على نكاتي! يأتي
ذلك غالباً بعد جرعة كبيرة من الألم. بعدها، أتوقف، منتشياً بإلهامي، أحتسي
كأساً، أدخن سيكارة وأطبخ لأن الطبخ مصدر كبير للمتعة بالنسبة الي.
[ السخرية
·
[ السخرية السوداء والتهكم من
العلامات الفارقة في أفلامك ومحور الكثير من النقاشات النقدية. قل لي، كيف
تكتب هذه المشاهد؟ هل تأتيك خلال الكتابة بشكل تلقائي ومنسجمة مع النص؟ أم
انك تنتج أفكاراً لمشاهد من ذلك النوع ومن ثم تقوم بتسقيطها في الاماكن
واللحظات المناسبة؟
- من الافضل أن نتحدث عن ذلك من خلال إعطاء أمثلة. لنأخذ البالون الذي
يحمل صورة عرفات ويطير فوق الحاجز في "يد إلهية". كنت مقيماً في فرنسا
آنذاك في مشغل خاص بالكتابة. وصلت الى مرحلة في السيناريو علقت فيها، الى
حائط مسدود كما يُقال.كنت أريد تهريب الفتاة التي أحبها معي على الحاجز.
انها بالمبدأ لحظة درامية. كان الطقس حاراً جداً. واثناء بحثي في الدرج عن
غرض ما، وجدت بالوناً سائحاً كنت قد اشتريته قبل فترة في القدس عليه صورة
عرفات. مددته قليلاً، فظهر وجهه مشوهاً وتمزق البالون. ضحكت من الموقف
وولدت الفكرة. الامر عينه ينطبق على مشهد الدبابة في "يد الهية". كنت أقود
السيارة على طريق منبسط وآكل المشمش. مررت بدبابة اسرائيلية، رميت بزرة
المشمش وبدلاً من أن أشتم وألعن قلت: "بم"! توقفت الى جنب الطريق، كتبت ما
حدث معي وولد المشهد هكذا في السيناريو.
·
[ ماذا عن مشهد القفز بالزانة
فوق حائط الفصل في "الزمن الباقي"؟
- أظن ان هذا المشهد وُلد من الوجع. هذا الجدار الثخين المقرف الذي
يظهر "حيونة" الاسرائيليين وتعجرفهم. وربما كانت لهذا المشهد بداية أخرى
عندما كنت رئيس لجنة تحكيم في مهرجان رام الله. رفض السؤول عن المهرجان عرض
فيلم سيمون بيتون "الحائط" بحجة انه لا يريد عرض فيلم سياسي! تخيلي مهرجان
في رام الله بدون سياسة! المهم انني طلبت منه إحضار الفيلم وقررت عرضه على
حائط الفصل في بلدة العيزارية على حدود القدس. وقلت للشباب الفتحويين
والجبهويين أن يطلبوا من جميع المشايخ الاعلان عن عرض الفيلم على المآذن.
نظرت الى الحائط وقتذاك وقلت "أخو الـ..." كيف سنعلق شاشة على حائط بطول
تسعة أمتار؟! ولكننا فعلنا وحاز العرض اهتماماً كبيراً جماهيرياً
وإعلامياً.
تبقى هذه القصص راسخة. أوتعلمين؟ أحياناً الوجع يتوزع على مدى زمن
معين ويخرج هكذا في شكل مشهد من هذا النوع الذي في الفيلم.
·
[ غريب كيف ان هذه التفاصيل
عندما ترويها تبدو عضوية تماماً في علاقتها بأفلامك. ولكن قراءتها تتم
دائماً من زاوية تنظيرية. كأن يُقال مثلاً ان هذا النوع من السخرية وربما
الفانتازيا هو اسلوبك في المقاومة بما يصوره خاضعاً لمنطق واضح. هل هذا
التوصيف خارج عن السياق؟
- سأقول هذا بصوت منخفض حتى لا يسمعني أحد في هذه المقابلة. لا أدري
إذا كنت في مكان ما "دوغماتي". هناك نوع من الرغبة في الانتقام، تبرز في
مشاهد من هذا النوع. أقصد مشهد الدبابة أو الديسكو هو تعبير حقيقي عن حالة
رام الله. هذه المشاهد على الرغم من كل شيء، تبرهن ان لا حيطان ولا دبابات
ستنفع. ستكون هنالك دائماً مقاومة.
في أماكن أخرى، يولد المشهد الساخر من رغبتي في أن "ألسع". انها حال
مشهد الجنود الاسرائيليين في الجزء الاول يصادرون الاثاث والميغافون
ويستمعون الى أغنية ليلى مراد "أنا قلبي دليلي". هذا المشهد لم يكن في
السيناريو. ولكن خلال البحث عن مكان للتصوير، دخلت منزل امرأة سبعينية،
أخبرتني كيف سرقوا بيتها وأثاثها وصورها العائلية والاشياء التي كانت قد
جلبتها معها من شهر العسل، على مرأى منها ومن زوجها بعد تهديدهما بالقتل.
سألتني عن الفيلم، فأخبرتها ببعض الاشياء. ثم اصطحبتني في جولة داخل المنزل
لأرى آثار الرصاص الذي كان لايزال موجوداً منذ 1948. روايتها أحزنتني وهي
دمعت عيناها على الرغم من مرور أكثر من ستين سنة على الحادثة. وجدتني أقول
لها "سأنتقم لك!" سألتني كيف، فأجبتها بأنني لا أدري ولكنني سأفعل. ذهبت
الى المنتج وقلت له انني سأضيف مشهداً. جن جنونه لأننا كنا نمر في ضائقة
مالية. ولكنني كنت مستعداً لحذف مشهد آخر. وحين سألني عن ماهية المشهد، قلت
له انني لا أعرف ماذا ساصور ولكنني سأحتاج الى اكسسوارات من تلك المرحلة.
لاحقاً كتبت المشهد بتلك الكوريغرافيا لأنتقم. للأسف توفيت السيدة قبل
مشاهدة الفيلم. ولكنني مرة أخرى، وجدتني أقطن منزلها الفارغ وأقوم بعمليات
المونتاج الاولية مع المونتيرة هناك. هذا المشهد في الفيلم مهدى الى تلك
السيدة.
أستعيد كل ذلك لأقول لك ان الافكار التي تصنع السينما عندي هي من
تراكم سنين.
·
[ هذا المشهد بالذات حاورني
بطريقة مختلفة. لقد وجدت فيه روح هذا الجزء من الفيلم لجهة انه يفكك الرمز
ويتخفف منه. انه مشهد يقول صراحة او يترجم الافكار الكبيرة عن مصادرة
الثقافة والتراث...
- جميل ما تقولين ولكن لم يكن ذلك غرضي منه. أردت أن السع كما ذكرت.
أكثر ما يؤذي الاسرائيلي نعته بالسرقة. "أخوات الـ..." سرقوا بلداً بكامله
ويحتجون على مشهد سرقة اثاث منزل! تل أبيب ملأى بالأثاث الفلسطيني. كان
موشي دايان ينقله بواسطة الهليكوبتر!
للمشهد ايضاً بعد أخرى اذ تقصدت اظهار الجنود بصورة انسانية مبالغ
بها. يسمعون الموسيقى ويغنون ويدخنون... انهم بشر يشبهوننا بأشياء كثيرة
ولكنهم قادرون على القتل. الانسان لديه طاقة شريرة هائلة، تمكنه من التحول
من ضحية الى جلاد في خلال أيام. وهذا كان موجوداً منذ البداية ولكنه أصبح
أكثر وضوحاً اليوم مع سقوط كل الأكاذيب. قرفهم وفاشيتهم وصلا الى مرحلة لم
يعد ممكناً فيها الكذب حتى. لم يعد ضرورياً أن نثبت اي شيء. كل شيء بات
واضحاً.
[ الرحلة ـ التجربة
·
[ عندما قدمت الفيلم في مهرجان
الشرق الاوسط السينمائي في أبو ظبي، تحدثت عن رحلة صوفية ومخاض إبداعي
واشياء كثيرة أخرى جعلتني أستحضر عنوان فيلمك السابق "يد إلهية" كتوصيف
ملائم ربما لعملية صنع هذا الفيلم.
- ذكرت قبلاً اننا صورنا الفيلم بحسب تسلسله على الشاشة. الجزء الاول
الخاص بالنكبة، استهلك الكثير من الموازنة وكان شاقاً بكل معنى الكلمة.
ولكنه من جهة ثانية، منحني ثقة وأماناً. تعرفين ان عملية الكتابة في
السينما يتخللها إحساس بعدم الامان. نكتب أشياء كثيرة ونستعرض عضلات ونسعى
الى التأثير. مع بدء التصوير، بدأ الاحساس بعدم الامان يتلاشى وأصبحت
الأشياء أكثر تركيزاً. عندما وصلنا الى الجزء الثاني، السبعينات، بدأت
مرحلة القحط. ولكن لا أدري كيف هدأت الأمور. ما ساقوله لك الآن هو ملخص
لعملية طويلة علي أن أبحث فيها أكثر لأفهمها أكثر. أصبحت لدي ثقة بالتفاصيل
الصغيرة واكتشفت انني أستطيع أن اصنع بها المعجزات. انطلقت طاقة ابداعية
هائلة في رأسي تحت ذلك الضغط لم أكن أدرك وجودها أصلاً. اصبحت مناضلاً في
سبيل البقاء. لم تعد الامور تقلقني. صرت أصل الى موقع التصوير مرتاحاً،
استقبل المشكلات بروح النكتة وأعلن للجميع انه سيكون يوم تصوير رائع. من
المذهل كيف ان هذه الطاقة انتقلت الى الجميع. هذه هي الصوفية التي أتحدث
عنها: الوصول الى حالة ذهنية لا يمكن النزول منها. وهذه حالة لم أختبرها من
قبل. حلّ علي نوع من التواضع واكتشفت، تحت ضغط التقشف، كوريغرافيا جديدة هي
كوريغرافيا العيون. لا أدري صرت أرى الاشياء بوضوح. لا ليست الوضوح هي
الكلمة المناسبة وانما...
·
[ تقصد صفاء؟
- تماماً صرت الاشياء بصفاء. الأمر يشبه التجربة الدينية من حيث انني
كنت أعيش في عالم بعيد من الماديات. هذه التجربة تركت أثراً ليس على الفيلم
فقط وانما علي أيضاً. خرجت من الفيلم أكثر تسامحاً وتقبلاً وأقل حدة انما
من دون انهزامية. صرت اقابل الاشياء بابتسامة. صرت "كليشيه".
أعتقد ان تلك التجربة التي رافقت صنع الفيلم ملتصقة بفضاء الصورة. ثمة
أحاسيس وعواطف تتسرب من الفيلم الى مشاهديه. ثمة صلة تولد لا تفسير لها
ربما ولكنني على يقين من انها مرتبطة بمسيرة العمل.
·
[ أعتقد ان ما تتحدث عنه من طاقة
ايجابية انعكس على الفيلم بشكل واضح لجهة تجنيبه المرارة. فالفيلم على
الرغم من سوداويته لا مرارة فيه.
-أوافقك الرأي تماماً. ولكن كثيرين يخطئون التفسير. هناك من قال لي
انه شعر انني في هذا الفيلم انهزامي او استسلامي. ومنهم من يعتقد انني
"همدت" ولم أعد قادراً على الحرب. هذا برأيي نابع من رغبة في الحكم على
الأشياء أكثر من الاحساس بها.
·
[ ماذا حلّ بتلك الاجزاء في
السيناريو التي كان يجب ان تصور رحلتك في باريس ونيويورك؟ سمعت انك حذفتها
لاسباب انتاجية؟
-كلا ليس الانتاج هو السبب ولكن ساقول لك ما حدث. بعد نحو خمسة ايام
من بدء تصوير الجزء الأول، توضحت الامور أكثر. اتخذت قراراً بالعمل على
السيناريو عامودياً، اي ان اركز على كل مرحلة وأكثفها بدلاً من بسط الاحداث
أفقياً والقفز على مراحل أكثر. هذه هي التفاصيل الصغيرة التي حدثتك عنها.
صارت المسائل التي كانت هامشية تعنيني أكثر من الذهاب الى باريس ونيويرك.
الواقع انني أعدت كتابة الجزءين اللاحقين على اساس هذا الاكتشاف، فحذفت كل
ما يتعلق بباريس ونيويورك وأعدت مشاهد تدور في الناصرة ورام الله، كنت قد
استغنيت عنها بسبب طول الفيلم. تسبب ذلك بأزمة مع المنتجين لا سيما منهم من
شارك في الانتاج على اساس ان هناك نجوماً. كنت مستعداً لاستكمال الفيلم
بمفردي لو تطلب الامر ذلك. كنت انتحارياً بهذا المعنى. بسبب تلك التغييرات
ايضاً، انكمش الخيال والفانتازيا اللذين كانا يحتلان مساحة أوسع في
السيناريو. لا تنسي أيضاً ان والدتي توفيت، فلم يكن ممكناً، انسانياً
ودرامياً، أن أنتقل من مشاهد المستشفى مثلاً الى شطحات خيالية ساخرة.
[ الاتجاه المعاكس
·
[ ولكنك فعلت ما هو "أفظع"
سينمائياً اي السير عكس التيار في ما يخص الايقاع والتصاعد الدرامي. فيلمك
يبدأ بلحظة الذروة او "الأبوكاليبس" ليتحول الى شيء جامد صامت في النهاية.
ألم يجزعك هذا الخيار؟
-"أبوكاليبس" هي الكلمة الملائمة تماماً لبداية الفيلم التي هي ايضاً
بداية إعلان ولحظة ملائمة لاسترجاع ما اوصلنا الى تلك الحالة "الابوكاليبتية".
لا أخفيك ان مسالة الايقاع كانت تخيفني ولكنها في الوقت عينه تبعث في تلك
القشعريرة اللذيذة وتدغدغني. الطبيعي بالنسبة الى فيلم يبدأ من تلك النقطة
الذروة ويدخل في السرد والتاريخ ان يتصاعد ايقاعه مع مرور الوقت. ولكن فكرة
كسر هذا الشيء على غفلة كانت مذهلة بالنسبة الي. وسأقول لك ما هو "أفظع" من
ذلك هو انني قررت ان أعلن بداية للصمت على الشاشة. انه مشهد الأم تاكل
البوظة في المطبخ على وقع "تكتكة" ساعة المنزل. هذا المشهد يعلن دخول
الفيلم والأحداث في زمن وايقاع مختلفين. انهما زمن الام وايقاعها. او زمن
المرض وايقاعه. من المثير أحياناً أن يبدأ الفيلم بشكل عكسي، من السرد الى
الصمت ومن السرعة الى البطء.
·
[ هذه الحلقة المتصلة التي تتشكل
من تداخل الحياة والسينما حاضرة بقوة في الفيلم ولكنها لا تُترجم واقعياً.
هي اقرب الى "الطبيعية" كأنك تأخذ الواقع الى السينما وليس العكس.
-أرفض ان أكون واقعياً وإلا ما نفع الفيلم؟ لماذا أصنع فيلماً؟ ولكنني
اذهب في افلامي الـhyperrealism
التي تتخطى الربط بين الواقع والسينما الى "مسخ" أو تحويل الواقع. هناك
شخصيات ولكنها تتصرف بشكل غير واقعي. ترقص بدلاً من أن تمشي مثلاً. كل ممثل
يدخل الكادر، أعطيه تعليمات الحركة خطوة بخطوة. بهذا المعنى لا توجد
تلقائية الا في أماكن قليلة، شعرت فيها ان السيطرة التامة على حركة الممثل
ستكون ادعاء. هذه الروح لم تكن موجودة في "يد الهية"، اي التلميح الى
الواقع. هنا، استحضرها بواسطة شخصيات آتية من الماضي ومنتمية الى بيئة
سياسية اجتماعية. وأحياناً لأسباب لها علاقة بالخقة والانسانية، تراجعت عن
احكام التماسك بين اعضاء الفيلم بشكل محسوب خوفاً من أن تصل رسالة عكسية
تتحول توثيقاً. "اولغا" ليست وثيقة. الحاجز وثيقة. في الفيلم مناخ الشهادة.
هناك شهادة حول الكورال المدرسي. ولكن من دون تغليفها بالحب والحنان
والتعاطف كنت سأحكم على الفتيات لانهن غنين لاسرائيل. أنا أحبهن لأن من غنى
لاسرائيل، فعل ذلك نتيجة أوضاع مقرفة ومهينة. كل هذه التفاصيل أثرت على
اخراجي للفيلم. "أولغا" المجنونة تبكي عند موت ناصر. صحيح انها تقود
الكورال ولكن لأن الحياة يجب ان تكمل لانها مجبرة على العيش. مجبر ابي على
التواصل مع الجيش الاسرائيلي ليحصل على التصاريح. في اماكن اخرى، أردت أن
أكون قاسياً مثل مشهد سرقة البيت. كان تهريجاً ولكنه ينضح بالرفض. هذا
المشهد يقشعر له بدني. هذه امور اكتشفتها او توصلت اليها بالتجريب وليس من
خلال الاستراتيجيات. الاشياء التي تبدو في الحياة غريبة، تبدو في السينما
أغرب. وكما في الحياة قد تكوتن الاشياء ضدك ولكنها تصب في النهاية في
صالحك، كذلك ايضاً في السينما. احياناً كنت أفقد السيطرة، فأحاول ان انقذ
نفسي فإذا بي انقذ نفسي بشكل جيد وأفرح بما فعلت. أعتقد عندما تستعدين
وترحبين بالارادة الطيبة من دون خلفيات فإنها والعكس صحيح. السؤال هو كيف
نحضر انفسنا لدعوة تلك الارداة؟ هذه قصة لوحدها. اعتقد انني في هذا الفيلم
عثرت على الطريق ولكنني لست اكيداً من امكانية اعادة هذه التجربة ومن ان
هذه الطريق هي نفسها للفيلم المقبل. سابدأ من الصفر وسأجرب.
المستقبل اللبنانية في
18/12/2009
فيلمه "الزمن الباقي" في الصالات اللبنانية
قريباً ومشروعه المقبل بين باريس ونيويورك (2)
إيليا سليمان: فلسطين حَمَلتْ نفسَها أو
حُمٍلَتْ أو أُعيد اختراعها في أماكن كثيرة في العالم
ريما المسمار
بعد نشر الجزء الأول من هذه المقابلة يوم الجمعة الفائت والذي دار حول
أحدث أفلامه "الزمن الباقي"، يتحدث ايليا سليمان في هذا الجزء الثاني
والأخير عن أربعة محاور أساسية هي علاقته بفلسطين، معنى الانتماء، التصنيف
والمرحلة المقبلة.
·
[ ما هو شعور ألا تكون طرفاً؟
ألا تكون منتمياً؟
- تجربتي في السينما في سن مبكرة كانت صعبة مع "سجل اختفاء". بصق
الناس علي وأصدروا فتاوى بحقي في العالم العربي وطردوني من الفندق في تونس
لأنني "خائن" و"عميل". ومزقوا نسخة الفيلم السينمائية. كنت سعيداً جداً
بذهابي وقتها لزيارة بلد عربي للمرة الأولى، حاملاً جائزة مهرجان البندقية.
كنت أشعر بالفخر وبالانتماء. فإذا بي أخرج من تونس بحماية منظمة التحرير
الفلسطينية! في رام الله حدث الشيء نفسه. استنكروا كيف يمكن أن أصنع فيلماً
عن الفجيعة الفلسطينية فيه روح نكتة. في "يد إلهية"، كبرت قليلاً ولم يعد
لدي ذلك الشعور بضرورة أن يكون "مطبطباً" على كتفي أو موافقاً عليّ عربياً.
ولكن لا أخفيك أنني شمت قليلاً عند قراءة ما كتبته الصحافة العربية لا سيما
في مصر عن "يد إلهية"، معتبرة أنني "تبت"- بوصفي كنت "خائناً" في السابق-
ووصفت مسيرتي "من بصل الى بطل" ... بعدها يكبر الإنسان بطرق كثيرة. اليوم
اقول إن المهم في الانتماء هي الصداقة، الصداقة كما تعرفها هانا آريتس. هذه
الصداقة التي لا تنتمي لا الى طائفة ولا الى قبيلة ولا الى مجموعة في مكان
جغرافي محدد. صداقة كونية.
لا أستطيع أن أكون ضحية وليس عندي هذا الادعاء لأن أفلامي مشاهدة في
العالم ولا أشعر أنني مرفوض. لا أشعر بالمرارة لأن الناس الذين كرهوا من
قبل أصبحوا يحبون اليوم ما أفعله، وليس ذلك من منطلق أنني أسامحهم، لأن في
هذا عنجهية، ولكن بات لدي "الوساع" لأفهم الأشياء في سياقاتها. لا اقول
انني انسان سعيد ولكن العكس ليس صحيحاً أيضاً. أحيا بنوع من الهدوء النسبي،
سعيد به. في هذه اللحظة، استمد قوة من الحاضر. أصنع القهوة بطريقتي وأسعد
بذلك. أستمتع عندما اطبخ ويكون تركيزي مبالغاً به حتى لا اجرح البندورة عند
تشريحها. هذه اشياء آخذ منها متعة. على الرغم من حاجتي الى الهرب، تتملكني
رغبة في ان اكون في نفس المكان متجولاً. لا يعجبني انني أدخن وأشرب بكثرة
وأنني لا أنتبه لصحتي لأن هذا عكس افكاري ولا أريد أن أخرب بينما أحاول ان
أبني. من المؤكد ان تلك اشياء يجب ان أحلها مع نفسي. أصبح واضحاً بالنسبة
الي اليوم انني لا اعرض عضلاتي ولا ارغب في ذلك.
·
[ وهل كنت تعرض عضلاتك في
السابق؟
- طبعاً. في الفيلم الاول، أردت أن اثبت اشياء مثل اي شاب صغير مؤمن
بشدة بأمر ويريد اثباته. أردت ان اقدم سينما لأقول انها السينما البديلة.
اليوم، اصبح الشك اكبر من ذي قبل. قلق على اشياء تستحق القلق. إذا أردت وصف
حالتي اليوم بشيء من التجريد أقول ان هناك نوعاً من التمركز اقوى انما من
دون "الأنا".
·
[ هل تشعر ان "الغيتو" الذي حاصر
أفلامك وحشرك في خانة "الفلسطيني" والخانة الأضيق "فلسطيني الـ48" خفّت
وطأته اليوم؟
- أعتقد انه صار أخف من قبل. وليس ذلك بسبب قدراتي ولكن ربما لأن هناك
جيلاً جديداً أخذ مكانه في الصحافة، يختلف عن الجيل السابق الذي كان
مختبئاً وراء سلطة. وحين اقول هذا أقصد الصحافة العربية لأن الصحافة
الغربية، حتى عندما تنعتني بالمخرج الفلسطيني، فإن التسمية تخرج من العقل
وليس القلب. لا يفكرون بفلسطين حين يشاهدون افلامي. وإذا فعلوا، فبعد تدوير
الأمور. بمعنى آخر، فكرة فلسطين ليست متقوقعة في أذهانهم. ربما هذا احد
الاسباب كما ذكرت وربما ايضاً...
·
[ ربما أفلامك ساعدت على كسر ذلك
"الغيتو" ايضاً..
- كنت ساقول ذلك انما بالدرجة الثالثة أو الرابعة. ولكن يجب ان نكون
حذرين. الدنيا ليست بخير والتقلبات حاضرة وما زال هناك اناس يحاولون
تأطيري. لعلهم اليوم بلحظة انهزامية ولذلك فهم على صمت. ولكن التقلبات يمكن
ان تصعّدهم من جديد بسلطة أخرى. لا أعتقد ان بإمكانهم ان يجرحوني اليوم كما
فعلوا في السابق. قد يجرحونني من طرق أخرى ولكن ليس بواسطة افلامي. انظري
ماذا فعلوا بمحمود درويش ولا اقول ذلك من باب مقارنة نفسي به. تأليه ومن ثم
هجوم لأنه "خان" وطنه بالرجوع الى حيفا. انه موقف يعبر عن ضيق نفس وقبلية،
تسعى دوماً الى انتاج ضحية جديدة. هناك اشياء تطورت وأخرى ترتد. العولمة
تنتج تشرذماً وقبائل جديدة بمفاهيم مختلفة قليلاً. اقول فقط ان السماء ليست
زرقاء ابداً.
·
[ كيف تصف علاقتك بفلسطين اليوم؟
- فلسطين هي المكان الذي ولدت وعشت فيه وتربطني به إلفة لا توصف. وهو
المكان الذي صورت أفلامي فيه وأتعاطف معه وأدعم قضيته اكثر من اي قضية اخرى
وأساند ناسه الذين لحق بهم ظلم رهيب. ولكن هذه الفلسطين لا أعرف اين تبدأ
حدودها وأين تنتهي. اظن ان هذه الفلسطين تكمل معي أينما أذهب، وترتقي عندي
من المكانة الجيو-سياسية الى المفاهيمية. فلسطين لم تعد فقط جغرافيا لا
سيما في هذه الازمة التي نعيشها. فلسطين حملت نفسها أو حُملت أو أُعيد
اختراعها في اماكن كثيرة في العالم. لذلك مسألة الهوية اشكالية جداً
بالنسبة الي ومحاطة بمئة علامة استفهام. القضية ليست قضية هوية بل مسألة
تماهٍ أو تماثل. حين أصنع فيلماً أفعل ذلك لأن هناك جمعاً فلسطينياً في
مليون مكان واريد ان يكون فيلمي متحركاً وليس في مكان جغرافي واحد فقط.
لذلك انا لا اصنع افلاماً عن فلسطين، لأنني فلسطيني الى هذا الدرجة ولأنني
مع كل فلسطين موجودة على الارض. لنأخذ بالاعتبار كل ما له علاقة بالذاكرة
والمكان والرائحة. وبالمناسبة، هذه الرائحة التي ترتبط في ذاكرتي بفلسطين،
اشتمها هنا في لبنان. ربما لهذا اشعر ان هناك ما يجذبني ويرفضني في آن في
لبنان. أشعر انني استطيع ان أعيش هنا. المكان يشبهني كثيراً. أشم رائحة
السمك من الطائرة فينتابني احساس عميق بالانتماء. أجد فلسطين في لبنان. كما
أجد عكا وحيفا هنا. الفارق انني هنا لا ارتبط بتاريخ أو ذاكرة. عموماً، لا
يقف انتمائي على حدود الهوية. ليس لدي حلول نظرية لمشكلة فلسطين. لا أعرف
أن أحارب في مكان واحد. أشعر بلذة حين أقوم بتحريك لفلسطين. حين يشاهد
الناس فيلمي ويستمتعون بمشهد أو تفصيل أو يعيدون النظر في مسألة... اشعر
عندها انني حركت الناس في سبيل قضية فلسطين. اضحك في عبي. اقول اصبحوا مع
الفلسطينيين لأنهم شعروا باللذة. هل هذا وهم؟ لا اعرف.
الامر شبيه بما حدث في رام الله عند عرض الفيلم. ارتجت القاعة لأن
جزءاً من الناس الذين كانوا يشاهدون الفيلم، عاشوا في تلك البيوت في يافا.
يحترق قلبي في وضع كهذا، لأنني أعرف ان العودة مستحيلة وأنهم اذا رجعوا
فليس الى نفس اليافا. الفاجعة صارت والتمزق حدث وما من امكانية لاصلاحه.
هناك فقط فرصة للتعويض. لا يمكن الفلسطينيين يوماً أن يعودوا حتى لو حملتهم
بالباصات من لبنان(!) لن يروا فلسطين. هذه حقيقة موجعة وستبقى موجعة.
بهذا المعنى، لا استطيع ان أمركز نفسي في ألم واحد من دون ان اشعر
الآخر. هذا برأيي ما يعنيه أن يكون الانسان فلسطينياً: ان يشعر ليس فقط
بألمه وانما بكل الآلام الاخرى وبكل الملذات ايضاً. علينا ألا ننسى ان
الفلسطينيين يعيشون، الى جانب الألم، لحظة "يوفوريا" ايضاً. أذهب الى رام
الله أو الناصرة وأرى بوضوح انه مهما حصل هناك اصرار على الضحك والرقص
والعيش وهذه مقاومة قائمة. غريب كم ان المضطهِد اعمى. كيف سيكملون؟ يدخلون
الى الناصرة ويقتلون؟! لا يكفون عن التفكير في "الحل النهائي" والواقع انه
ما من حل نهائي. الجزء الاكبر من المعاناة نابع من هنا من هذا الاستعلاء
والعجرفة وصفات أخرى افظع بكثير.
لست معنياً بإعادة توصيف نفسي وتموضعي. انا مخرج فلسطيني جداً جداً
ولكن هذا يعتمد على من يسأل. إذا أرادوا منحي ميدالية الفلسطيني ليقوقعوني
فلا أريدها. أما اذا هُضم مفهوم فلسطين، عندها أصير فلسطينياً اكثر من
اللازم.
التصنيف مسألة مخيفة. فكري فقط بمهرجانات النساء السينمائية. هذا
النوع اسوأ من التصنيف الفلسطيني. لأن النساء لسن بلداً واحداً ولسن امة
ولسن بالضرورة هوية مركبة وانما هوية مفروضة. انها سجن. وفوق هذا نجلب
المال باسمها. لست ضد جلب الأموال ولكن ضد ان تترجم الى قوقعة فظيعة.
·
[ اليوم بعد ان فقدت ما كان
يربطك بالناصرة كيف تتصور انك ستكمل؟ هل هي نهاية مرحلة حياتية وسينمائية؟
- مع كل الوجع الذي تتسبب به مسألة الانتماء، فإن عدم الانتماء نسبي
ايضاً. مؤخراً، اشعر بانتماء الى لبنان لا اشعر به في فرنسا. أو لنقل ان
احساسي بعدم الانتماء هناك أكبر بكثير من شعوري به هنا. ربما لأن هناك هذا
البحر. أتعرفين ان مشهد صيد السمك في "الزمن الباقي" صور على شاطئ يقع على
الحدود مع لبنان؟ اي انني اذا اردت ان اقود سيارتي من هناك سأصل بيروت في
غضون ساعة! الفكرة تقتلني. أنا في بيروت اقرب الى الناصرة فيما لو كنت في
القدس التي عشت فيها ولكنني كنت اشعر بغربة.
وربما اذا أردنا ان نكمل في هذا التقطيع ونفلسف الامور بسطحية ولكن
حتماً من دون عقائدية سيتبين انني شمالي الهوى. وشمال فلسطين ارتبط
تاريخياً بلبنان وليس بالقدس. وهذا ليس غريباً لأن الطعام متشابه والرائحة
واحدة. هذا الشعور بالامتداد الجغرافي الطبيعي، علي أن أقاتل من أجله بعبور
منعطفات لا حصر لها بسبب الاحتلال وقرفه.
·
[ يطرح "الزمن الباقي" سؤال
"ماذا بعد؟" بمعنى آخر، كان من السهل في نهايتي: "سجل اختفاء" و"يد الهية"
ان نتخيل "يتبع". ولكن مع الفيلم الحالي، هل انتهى الحديث السابق؟
- ستتفاجئين اذا قلت لك انني عند نهاية توليف الفيلم همست للمونتيرة:
"أرى
to be continued".
لا يعني هذا ان الامر سيحدث حتماً ولكن التتمة تبدو لي طبيعية أكثر من ذي
فبل. حين كتبت مقاطع نيويورك وباريس في سيناريو "الزمن الباقي"، لم تكن أمي
قد توفيت بعد. واذا بموتها يغيّر مسار الفيلم. اليوم، تبدو هذه الأجزاء
الشيء الطبيعي. فيه شي خلص. الذي كان يعيدني الى الناصرة لم يعد موجوداً
والبيت صار أشبه بالأطلال. لذلك نيويورك وباريس وأي مكان آخر هو المكان
الطبيعي الآن. لا أعتقد انني أقوى على العودة الى الناصرة. قد أعود كأي
غريب وسيتذكرني الناس ابن فلان. فكرة العودة لم تعد ممكنة. إنه شعور غريب.
التاريخ والألفة يربطانك بالمكان. تربطني بلبنان إلفة ولكنها ما زالت سطحية
على مستوى كأس العرق وحفنة أصدقاء. انا لست جان جينيه. ولكن هذا الرجل الذي
اشتهر بغجريته، شاهد مرة بيتاً في فلسطين وصفه بحلم حياته وقال إنه لو كان
له هذا البيت لتوقف عن أن يكون غجرياً. عندي رغبة مماثلة في ان اكون في
مكان واحد فيه حاكورة وشجرة زيتون وشجرة تين وأن استفيق كل صباح وأجلس
قبالتهما، اقرأ جريدة وأشرب قهوة. سأنتظر ذلك ليتجسد لاكتشف ان كنت سأتمكن
من الاستقرار في مكان واحد ام لا.
·
[ الآن وانت تتحدث عن الشجر
استعيد مشاهد من "الزمن الباقي" لا تحصى حيث خلف كل شباك شجرة.
- عندي علاقة قوية مع شجرتي التين والزيتون وأيضاً الصبار. بعض أحداث
الفيلم الذي يجري في الناصرة صورناه في "صفوري" التي محاها الاسرائيليون عن
الوجود وصارت اليوم "كيبوتز". لم يبقَ منها سوى أشجار الصبار والزيتون
ودير، لم يلمسوه خوفاً من مواجهة الفاتيكان. شوفي التراجيديا. حين وجدت هذا
المكان، قلت للجميع من اللحظة التي نطأ فيها المكان ستكون هنالك قيود.
ممنوع إدخال الهاتف الخليوي. ممنوع الحكي بصوت عال. هذا المكان يجب ان يبقى
الجنة التي احلم بها. هذا المكان هو فلسطين. هناك تشعرين كم هي نكبة. هذه
هي الخسارة التي توجع. وعندها قلت لو عندي هذا الدير لما تركت فلسطين. لما
تركت الدير. ولكن أعود الى جان جينيه الذي عندما سلمه عرفات مفتاح البيت
الذي اعتبره بيت أحلامه، ذهب اليه مرات قليلة وبعدها كتب انه عندما شاهد
الحلم يصير واقعاً لم يعد يرغب في ان يكون فيه. الفرق بيني وبينه انني سأحب
ان اكون هناك. لا اظن انني سأرفض الحلم اذا اصبح حقيقة. ولكن لو حصل ذلك،
لما كنا هنا نتحدث عن هذا الفيلم. ربما هكذا هي الاشياء، نستمد المتعة من
شيء ونحلم بشيء آخر.
·
[ ساستعير من فيلمك السير العكسي
وأختم الحوار بسؤالك عن بدء الأشياء، أقصد العنوان. بالانكليزية ثمة نبرة
تأكيدية. أما العربية - "الزمن الباقي" - فتفتح باب التساؤلات. الزمن
الباقي لأي شيء؟
- فكرت بالعنوان بالانكليزية وليس بالفرنسية ولا بالعربية. في
البداية، كان مصدره الشعرية وليس الفكرة. ولكنني لاحقاً صرت اعتبره تنبيهاً
ليس على مستوى فلسطين وإنما على مستوى العالم. بهذا المعنى، الفيلم "مايكروكوزم"
عن شي أكبر يحدث في العالم. أحياناً اشعر ان ما من زمن باقٍ لأي شيء. انه
نداء يائس في مكان ما، لنتوقف وننظر. لا أدري اذا كانت هذه المرحلة التي
نمر فيها اليوم عابرة. ولكن الاشياء تقترب من اماكن مخيفة. وأنا بطبعي اشعر
بالخوف والبارانويا. كل الأشياء اصبحت مكشوفة. حتى الحلم ما عدنا نحلم بشكل
صحيح. انتفت الحاجة الى الاكتشاف. ما عدنا نتخيل فقد صار بمقدورنا أن نصل
بالطائرة الى اي مكان اسرع من الخيال. وما عدنا نحلم لأن كل شيء صار عند
عتبة المنزل بالمتناول. تقلصت مساحة الخيال بشكل درامي. صارت الأشياء
ميكانيكية. في هذا العالم الذي نعيشه، التكرار الذي كان من الممكن أن يكون
ايقاعاً يرتقي بنا، تحول رتابة. فقد الصدى. السؤال الكبير هو: هل هذه فترة
عابرة؟ والسؤال الثاني: هل هذا هو انا؟ لست أكيداً. "الزمن الباقي" عنوان
متشائم من دون شك.
المستقبل اللبنانية في
22/12/2009 |