علينا أن نعترف أننا وصلنا إلى اللحظة التى أصبحنا نتمنى فيها أن
نصادف عملا سينمائيا يصطلح على تسميته فيلما.. وأن ذلك أصبح يتحقق فى حالات
قليلة
عندما يكون لدى صناع العمل رغبة حقيقية فى التعبير عن هم
مجتمعى إنسانى وفنى يؤرقهم
ويمسنا من قريب أو بعيد.
فما بالك إذن عندما يحمل هذا العمل توقيع
سيناريست بحجم هانى فوزى ومخرج مثل أسامة فوزى اللذين قدما
سويا على مدار السنوات
الماضية أعمالا مهمة على مستوى الصورة وعلى مستوى المضمون أيضا.. يبرز منها
بحب
السيما الذى يكاد يكون الفيلم السينمائى المصرى الوحيد الذى ناقش إشكالية
العلاقة
بين الإنسان وربه برقى بصرى وإنسانى جرىء.
فوزى وفوزى يضعان بصمتهما
على فيلم تستقبله دور العرض المصرية خلال أيام قليلة جدا وهو
بالألوان الطبيعية
ويراهنان على مصداقيته فى طرح هموم إنسان قدر له أن يكون فنانا فى مجتمع
يضع عشرات
القيود، دينية وفكرية ومجتمعية على إبداعه الذاتى بل ويطرحان من خلال هذا
البطل
يوسف تساؤلات قد تبدو عامة بينما قد تكون فى واقع الأمر تعكس
همومهم وخواطرهم
الشخصية.
*يوسف والأشباح
بالألوان
الطبيعية هو ليس فيلما تقليديا عن قصة حب بين شاب وفتاة تواجه مجموعة من
الإحباطات
وإنما هو عن سلسلة من المغامرات بين يوسف وأشباحه.. تلك الأشباح التى بدأت
تطارده
منذ أن ألقى به القدر بين أسوار كلية الفنون الجميلة بعد أن
كانت أمه متوسطة الحال
تتمنى أن ينتهى به المطاف فى كلية الطب أو الهندسة كما هو حال جميع الأمهات.
سامحنى يا رب لأنى ضعفت واخترت الدنيا تانى ونسيت الآخرة.. تلك الجملة
التى تتردد على لسان يوسف أو كريم قاسم فى بداية الإعلان الترويجى للفيلم
هى
المفتاح لجميع التساؤلات والأجوبة.. ولعلها تعيد إلى ذهنك سواء بقصد أو
بدون قصد،
نفس الحوار الذى كان يدور من وقت لآخر بين محمود حميدة، وربه
فى بحب السيما، ولكن
فى الحقيقة هو ليس تشابها بين الفيلمين وإنما تأكيد على إصرار هانى فوزى
على الدخول
فى مناطق الحيرة والصراع التى دائما ما يعيشها الإنسان خاصة عندما تتناقض
رغبته فى
الاستمتاع بلذات الدنيا مع قوانين دينية صارمة.
إعلان الفيلم شمل فى
أقل من دقيقتين عددا لا بأس به من المتناقضات فهناك المحجبات، المنقبات،
الفنانون،
العاريون، والعاريات.. المتزمتون والمتحررون.. مثلما حفل بقدر لا بأس به من
الإشارات التى جعلت البعض يتوهم أن أسامة يقدم توليفة جنسية
ساخنة وملتهبة خاصة فى
ذلك المشهد الذى يطلب فيه الأساتذة من الطلبة أن يخلعوا ملابسهم من أجل حصة
خاصة
برسم وتشريح الجسد البشرى.. ولكن التفاصيل التى تنفرد بها روزاليوسف تؤكد
عكس ذلك.
*بين
الحرام والحلال
الفيلم باختصار
شديد يقتحم أسوار كلية الفنون الجميلة ويعيد إحياء المحاضرة التى تم
إلغاؤها رغم
أهميتها الشديدة والخاصة بتعلم كيفية رسم وتشريح الجسد البشرى.. يصطدم
صناعه
بالعقول المتحجرة التى حلت محل الإبداع داخل كلية من المفترض
أنها تحتفى بالفن،
بالحرية وبالحياة.. ويعكس الصراع بين البطل يوسف وبين كل الموروثات الدينية
والاجتماعية التى تجعله يتوهم أن الفن الذى يقدمه حرام.. ومن ناحية أخرى
تربطه قصة
حب صعبة مع زميلته يسرا اللوزى ابنة الطبقة الثرية ولكنها قصة
حب تواجه مشاكل
كثيرة.
روزاليوسف علمت أن الرقابة لم تتحفظ على أى مشهد من مشاهد
الفيلم بل على العكس أشادت بمستواه، بلغته الفكرية والبصرية على حد سواء
ولكن
الملحوظة التى أدهشت كل من شاهد الفيلم هى أن هناك مسحة ناضجة
وعميقة من التدين
بمعناه الحقيقى وليس الزائف تغلف الفيلم الذى ليس فيلما جنسيا صاخبا كما
يتصور
البعض الأمر الذى جعله يمر بدون أزمات على عكس ما تصور الجميع.
علمنا
أيضا أن معظم المشاهد الجنسية بالفيلم مبررة فنيا تخلو من أى ابتذال وليست
مقحمة
على سياقه.. ليس هذا فقط بل غالبا ما تنتهى بعكس ما بدأت به أى أن المشهد
ببدايته
الجنسية يحفز مشاعر معينة بداخلك ويقودك فى النهاية إلى حالة
من التطهر نتيجة
للإحساس بالندم والألم الذى يسيطر على أبطاله من وقت لآخر.
الفيلم يعكس
العالم النفسى لـيوسف طالب كلية الفنون الجميلة وبالتالى يخلط طوال الوقت
بين
الواقع وبين الفانتازيا.. وبين هذا وذاك يظهر له شبح أمه التى تتجسد له مثل
الضمير
الذى يؤنبه عندما تراوده خواطر جنسية ما.
مثال بسيط: المشهد الذى يطلب
فيه الأساتذة من الطلبة أن يقوموا بخلع ملابسهم يبدأ بشكل
واقعى للغاية ويبدو
حقيقيا ولكن فى نهايته يظهر شبح الأم فى الصورة مطالبا الابن بالعودة إلى
وعيه
الدينى.. فالمشاهد الجنسية ليست معلقة فى الفراغ وإنما يمكنك قبولها كجزء
من العالم
النفسى للبطل الحائر بين الوعى واللاوعى.. أى أنها بمثابة أحلام يقظة يرى
فيها ما
يعجز عن إدراكه فى الواقع.
وبنفس المنطق يمكنك قبول طول مدة القبلتين
اللتين تخوفت منهما الرقابة فى البداية ثم تجاوزتهما وتقبلتهما
حينما رأتهما على
الشاشة.
*الملحوظة
الوحيدة
كما أشرنا من
قبل لم تتحفظ الرقابة على الفيلم ولكن كانت لها ملحوظة على الورق لها علاقة
بمشهد
يتم المزج فيه بين الشباب وهم يرقصون بعد المحاضرة وبين يوسف وهو يؤمهم
للصلاة ولكن
على الشاشة لم يثر أى تحفظات لأن أسامة فوزى قدمه على أنه جزء من خواطر
البطل وحالة
الحيرة التى يعيش فيها بسبب ذلك القدر اللا متناهى من المتناقضات.
أما
المشهد الذى أثار إعجاب الجميع فهو الذى تقول فيه فتاة الليل داخل أحداث
الفيلم
للبطل مين فيكم الأول فيفاجئها يوسف بأن يطلب منها الوقوف بمكانها حيث يقوم
برسم
بورتريه لها.. وحينما تراه تقع فى حالة بكاء هستيرى.. ثم تحتضن
البورتريه الذى أبرز
الجانب الآخر الأنقى منها وترحل بعيدا..
*الجانب
الآخر
لم تعد الرقابة كما كانت والدليل هو مساهمتها فى خروج فيلم
مثل بالألوان الطبيعية إلى النور دون عقبات تذكر.. ولكنها فى حيرة من أمرها
لأنها
على الجانب الآخر عليها أن تحسم موقفها من فيلم يراهن أيضا على
جرأته الجنسية ولكنه
لا يجرؤ حتى على الاقتراب من حساسية صناع الألوان الطبيعية فى التعامل مع
هذه
الجرأة ولكنه سيحاول انتزاع الحرية التى منحتها الرقابة لصناعه.
هذا
الفيلم هو أحاسيس لهانى جرجس فوزى والذى يروج له على جميع مواقع الإنترنت
على أنه
فيلم يتناول الجنس كما لم يحدث من قبل على الشاشة من خلال رصده لمجموعة من
النساء
ومشاكلهن الزوجية.
هو يزعم أنه يقوم بتعرية مشاعر أبطاله ولكن الحقيقة
هى أنه يقوم بتعرية أجسادهم والدليل أن الرقابة لديها ملحوظات على الورق،
ولكن
فوجئت بأن هانى يصور مشاهد فاضحة سبق أن تم التحفظ عليها،
الأمر الذى يجعلنا نكتشف
أن هانى يجهز لمعركة مفتعلة مع الرقابة كنوع من التسويق لفيلمه..
ولكن
هناك فارقا كبيرا بين الفنان الذى يجيد استخدام الحرية فى استخدام مناطق لم
يمسها
آخرون وبين شخص آخر يستخدم نفس حيز الحرية لا لشىء إلا للتظاهر بأنه يقدم
جديدا فى
حين أنه يراهن على أسوأ ما فى المشاهد.
مجلة روز اليوسف في
19/12/2009 |