فيلم جورج كلوني الأخير «الرجال الذين يحدقون في الماعز» متعدد
الوجوه، لأنه يحتمل الكثير من التفسيرات والقراءات. كلمات بطله كلوني في
المؤتمر الصحفي، الذي عقده بعد عرضه الأول في فينيسيا، دلت على «حيرته» حين
قال: ليس هذا فيلما عن حرب العراق، انه فيلم كوميدي عن بعض الأفكار
المجنونة التي بدأت مع نهاية الحرب الفيتنامية واستمرت بعد ذلك طويلا، ربما
حتى الآن! وأضاف: انه ليس تعليقا على الحرب العراقية، لأنه من الصعب جدا أن
يعكس الفيلم جو حرب ما زالت مستمرة!
كلام كلوني قد يكون مقنعا، إذا ما عرفنا أن قصة الفيلم مقتبسة أصلا عن
رواية حملت الاسم نفسه كتبها جون رونسون تدور حول وحدة خاصة تابعة للجيش
الأميركي تشكلت في أواخر السبعينيات وكان الهدف من تأسيسها إعداد جنود
قادرين على اكتساب قدرات خارقة، غير تقليدية، يحاربون بها أعداء أميركا،
كقدرتهم على اختراق الجدران الاسمنتية، وشل تفكير العدو بالغناء والموسيقى،
وحتى قتل الماعز إذا ما حدقوا فيها طويلا. ومع كل هذا، فأكثر مشاهد الفيلم
وأحداثه كانت تجري في العراق، وطبعا تفاصيل أخرى، أقل، كانت تجري خارجه.
ولهذا ينبغي النظر اليه باعتباره فيلما عن العراق وأبعد منه، شريط عن
مغامرة الحرب التي تورط فيها الأميركيون الآن، كما سبق أن تورطوا في أماكن
أخرى، وكان عليهم، بعد خيبة أملهم في تحقيق نصر ساحق، التفكير، بمخارج
وحلول تخلصهم من ورطتهم بأي شكل من الأشكال، فكانت من بينها فكرة إرسال
الجندي لين كاسادي (الممثل جورج كلوني) الى العراق في مهمة سرية كلفته بها
فرقته الخاصة المسماة «جيش الأرض الجديد»، وهي امتداد لـ«لواء وحي العصر
الجديد» الذي تأسس في العام 1979 بعد حرب فيتنام وكان الهدف من تأسيسه
إيجاد أساليب نفسية جديدة، غير عسكرية، قادرة على إخضاع العدو وجعله يستسلم
بالكامل كما يستسلم الجدي للأسد. كانت مهمة الجندي كاسادي «ذي القدرات
الخارقة» تركيع العراقيين وإخضاعهم، كما يخضع الجدي أمام الأسد!
حقل تجارب
أجمل ما في عمل المخرج غرانت هيسلوف، حفاظه البارع على روح الكوميدية
العالية للفيلم. ولهذا يمكننا القول إن فيلمه ينتمي الى كوميديا خالصة، مع
إمكانية إضافة كلمة «سوداء» ليكتمل المعنى. هيسلوف في الظاهر لم يكن معنيا
بالحرب العراقية، قدر اهتمامه بالفكرة الفانتازية ذاتها والسخرية من
الكيفية التي أقنع بها الجندي الهيبي بيل كاندو (الممثل جيف بريدغيز) قيادة
أعتى الجيوش بأهمية تأسيس فرقة خاصة بذوي القوى الخارقة والقادرة على تحقيق
النصر في كل حرب تخوضها أميركا في المستقبل. الفكرة نفسها (ويا للسخرية)
خطرت في باله بعد تعرضه لإصابة خطرة في حرب فيتنام أحالته الى التقاعد!
خلفية الحدث وكل ما له علاقة بالخوارق وفرقها يستعيدها المشاهد عبر
تنقلات زمنية تبدأ بعرض الحالة اليائسة التي وصل اليها الصحفي بوب ويلتون
(الممثل ايوان مكغريغور) بعد اكتشاف خيانة زوجته له، الأمر الذي دفعه الى
البحث عن مغامرة صحفية في العراق ليتخلص بها من القنوط الذي كان يعيش فيه.
خيار يكفي لإثارة الشفقة والسخرية، لكن، وبعد إضافة المخرج شيئاً من
الفانتازيا اليه، صرنا نتعاطف معه بصفته كائنا بريئا ومغلوبا على أمره.
لحظة الفرج جاءته في الكويت، حيث كان ينتظر اللحظة المناسبة لدخول العراق،
هناك التقى مصادفة الجندي كاسادي الذي اقنعه بمرافقته في مغامرته السرية.
هكذا تجمعت الخيوط الرئيسة لحبكة فيلم اعتمدت على المفارقة وعلى الغرائبية
التي سنستعيدها بحركة فلاش باك تعود بنا الى حركة التأسيس والتدريب في
الولايات المتحدة والعودة في الوقت نفسه الى الواقع الذي كان يشهد أولى
مغامرات صاحب المعجزات كاسادي في صحراء جرداء وقاسية قلبت كل معادلاته
وقناعاته فكشفت لنا، على غير المنتظر، شخصية حالمة واهمة لم تفلح في أي
خطوة من خطواتها التي يفترض المرء إنها كانت مدروسة ومبنية على أسس فلسفة
شرقية روحانية جهد أساتذته «العسكر» تعليمه مبادئها وقيمها التي تركز في
المقام الأول على تكيف الجسد مع الظروف القاهرة، والتي كنا نتوقع انه
يعرفها وينتظرها ما دام أنه جاء ليحقق نصرا عجز جيشه الجبار عن تحقيقه.
لا معجزات
ارتدت عليه كل معجزاته وقواه الخارقة حالما وطأت قدمه العراق ومعه
الصحفي بوب، وكانت هذة المفارقة هي محرك الكوميديا الهادر في الصالة
المظلمة. كوميديا تصاعدت مع كل خطوة وخطأ كان يرتكبه الجندي المعجزة. أكبر
نجاحاته في تلك الصحراء القاسية كانت هروبه والصحفي من الأسر الذي وقعا
فيه. حتى هذا لم يتحقق لولا مساعدة شاب عراقي اسمه محمود (وليد زعيتر) ويا
للمفارقة، هروب أميركي بمعاونة عراقي وليس بمساعدة أحد آخر! صورت كل هذه
«المغامرات» الصحراوية بطريقة كوميدية رائعة، وأثبت جورج كلوني، مرة أخرى،
قدرته كممثل بارع يجيد لعب كل الأدوار في مستوى واحد. وفي الوقت نفسه بدت
المغامرة ذاتها تافهة وعديمة الجدوى فلا معجزات في زمن الحرب وتقاطع
المصالح، الذي ظهر بوضوح حتى داخل المؤسسة العسكرية الأميركية نفسها.
وفكرة القوى الخارقة التي نبعت من الإحساس بالحاجة والرغبة في التخلص
من الدموية والدمار اللذين تسببهما الحروب التقليدية، بدت عقيمة وتجلت في
شريط «الرجال الذين يحدقون في الماعز» عندما ظهر الضابط لاري هوبر (الممثل
كيفن سبياسي) كأحد المعارضين للفكرة، أو من الذين يريدون تحويرها لغاية في
أنفسهم، ولهذا جعل التخلص من المؤمنين بها أولى مهماته كعسكري طموح. هذا
التباين في مواقف المؤسسة العسكرية لعب عليه المخرج هيسلوف بطريقة مذهلة،
ومن خلاله سخر من كل العقلية العسكرية الأميركية التي بدت من خلال تجاربها
الخيالية مدعاة الى التندر والتهكم. وبدلا من الرجوع عن هذا النفس الساخر
صعّد هيسلوف من أسلوبه الكوميدي وزاد من جرعات الاندفاع فيه، ليتجلى في
المشهد المعبر والساخر الذي صور فيه شركة أمنية خاصة كانت تنقل كاسادي
والمترجم العراقي محمود في إحدى سياراتها، وبعد سماعهم فرقعة أحدثتها دراجة
نارية عابرة، بدأوا اطلاق النار على سيارة أخرى، توهموا أنها معادية لهم،
لتتحول شوارع المدينة بعدها الى ساحة حرب بين شركتين حليفتين، لشدتها دفعت
الجندي ومحمود الى الهرب وسط ذهولهما لما يجري في الشارع. والمفارقة الأكثر
مدعاة للسخرية أن العراقي محمود ساعد الجندي كاسادي على الهرب من العراق
فقدم له الأخير اعتذارا صادقا وحده يكفي لكشف بؤس الفرقة الخاصة التي عوّل
عليها لتكون بديلا عن الجيش الأميركي وسلاحه.
في «الرجال الذين يحدقون في الماعز» أثبتت الكوميديا قدرتها على
التعبير وحيلتها في تمرير أكثر من رسالة خطرة، مخبأة تحت عباءتها، مع
احتفاظها بمهمتها الرئيسة في توفير أكبر قدرة من الإمتاع لمتابعيها. في هذا
الشريط ساهم ممثلون كبار أجادوا أدوارهم فجاء الفيلم على قدر ما أعطوا.
كوميديا سوداء هادفة ذكّرت العالم بحرب العراق وورطة أميركا.
الأسبوعية العراقية في
12/12/2009 |