هل الإنسان «قنفذ» له أشواك تمنع الآخرين من الاقتراب؟.. «القنفذ»
حيوان كسول كما يبدو من الخارج، بعض البشر بالفعل كذلك يضعون دائما حائلا
بينهم وبين الناس وكأنهم يرفعون لافتة مكتوبا عليها ممنوع الاقتراب، إلا أن
هذا لا يعني أنهم بالفعل يرفضون الآخر. بطلة الفيلم الفرنسي «القنفذ» الذي
أخرجته «منى عشاش» والحاصل على الكثير من جوائز مهرجان القاهرة (جائزة
النقاد العالميين الفيبرسي، جائزة الهرم الفضي، جائزة أحسن إخراج) ولو كانت
لوائح المهرجان تتيح له جوائز أخرى لكانت بالتأكيد من نصيبه لأن الحد
الأقصى طبقا للائحة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لا يسمح بأكثر من
جائزتين للفيلم نفسه. بطلة الفيلم «بالوما» طفلة في الحادية عشرة من عمرها،
أدت دورها «غارانس لو جوليومييك»، تقرر الانتحار يوم عيد ميلادها الثاني
عشر الذي يحل بعد 156 يوما، ولكنها تمسك بكاميرا تريد أن تسجل كل اللحظات
التي تمر في حياتها. التصوير هو فن تثبيت الحياة وتوثيقها، كان ذلك هذا هو
هدفها، وفي التوقيت نفسه تضع الخطة للتنفيذ وهي أن تحصل كل يوم على حبة من
تلك المهدئات التي تتعاطاها والدتها وأن تأخذ في نهاية الفترة المحددة وقبل
عيد الميلاد الجرعة كاملة.. وهكذا تغادر الحياة بإرادتها. الموت أحد
الأسئلة التي تراودنا في كل سنوات عمرنا. ونحن أطفال يبدو سؤالا ملحا..
نستهين عادة بالموت ولا نخشاه.. لا يرعبنا حدوثه لكننا دائما نريد أن نتعرف
عليه، ولهذا يقدم السيناريو مشهدا مبكرا حيث يموت أحد الجيران، وتحاول
بالوما معرفة مشاعر الميت معتقدة أن الموت مجرد إغفاءة فتغفو مع نفسها
وتلعب دور الميت.. «بالوما» مثل «القنفذ» طفلة قليلة الكلام تميل للتخفي
خلف صمتها الدائم بتلك الكاميرا التي تبدو فيها وكأنها تتجسس على حياة
الناس، والحقيقة أنها تريد أن تمسك بالحقيقة، ولهذا نراها وهي تضع أحيانا
كأسا فارغا، وتصور بالكاميرا ثم تضع في الكأس ماء، من خلال تغير المنظور
الذي تشاهده، لأن أي مؤثر خارجي يلعب دوره في تغيير ملامح الصورة، وهذا
بالطبع ما تؤكده العلوم الطبيعية، ولكن أيضا كل شيء يتغير عندما تضيف إليه
إطارا خارجي.
المخرجة ذات الأصول العربية «منى عشاش» تستهويها الحياة والموت
والإطار الخارجي، وهكذا تدخل إلى أصول اللعبة شخصيتان، البوابة التي أدت
دورها «غوسينا بلاسكو» والياباني الذي أدى دوره «توغو أغاوا».. الياباني هو
الذي يلتقط الطفلة عندما يعرف أنها كانت تتعلم اليابانية، ويبدأ في تصحيح
بعض كلمات لها، وفي الوقت نفسه يحرص على أن يصنع معها جسرا من التواصل، وهي
القليلة الكلام تبدو في حالة توافق معه، ربما جنسيته المختلفة عنها تصنع
لديها تلك الحالة من الرغبة في المعرفة. أبطال الفيلم يقطنون في عمارة تجمع
عددا من أفراد الطبقة الغنية.. الطفلة «بالوما» أبوها وزير، وهي لا تكتفي
بالتصوير بل تضيف أيضا رؤيتها لما تراه ولهذا تمنح الصورة بالكلمات ظلالا
لتلك الشخصيات، ونكتشف مثلا أن الحوار يحمل معلومات درامية للشخصيات كان هو
الجسر الدرامي لتوصيلها.. مثل أمها المكتئبة التي تتعاطى حبوبا مضادة لهذه
الحالة، ونرى أيضا والدها الذي يخشى أن يفقد منصبه الوزاري في أي لحظة..
الشخصية المحورية هي البوابة التي أدت دورها «غوسينا بلاسكو» لا ترى هذه
السيدة التي ترملت قبل 10 سنوات في نفسها سوى أنها قبيحة وعجوز وقصيرة
وسمينة وفي الوقت نفسه لا تحلم بأي شيء خارج نطاق تلك الغرفة التي تعيش
فيها مع قطتها، فهي نموذج للعامل المثالي الذي يؤدي واجبه من أجل أن يعيش
حياة خاصة به.. ولهذا لا تتجاوز أحلامها مكان حجرتها، كما أنها لا تتقيد
بالمكان فقط حيث إن زمانها منضبط أيضا بمواعيد العمل، ولهذا نراها في مشهد
ترفض أن تسلم أحد الجيران مظروفا لأنه جاء قبل مواعيد بداية عملها الرسمي..
تتفتح حياتها قليلا من خلال هذا الغريب الياباني.. هو يرى فيها ما لا
تستطيع هي أن تراه في نفسها ولهذا يوجه لها دعوة يوم عيد ميلاده فهو لا
يطيق الوحدة وتشاهد كيف أن الياباني يحيل شقته إلى وطن صغير.. وطقوس
الياباني في الغربة لا تتغير خلع الحذاء عند الباب، الوجبات اليابانية
الشهيرة، الأكل بأدوات المائدة اليابانية.. لا تقدم المخرجة وكاتبة
السيناريو «منى عشاش» قصة حب ملتهبة فهما في مرحلة عمرية لا تسمح بأي من
ذلك ولكننا نشاهد حالة من الارتياح مزجتها المخرجة بخفة ظل عندما تذهب إلى
الحمام فتكتشف أنها بمجرد الدخول تستمتع إلى موسيقى «موزارت».. ولكن قبل
هذا اللقاء تقدم المخرجة كيف أن البوابة تذهب بعد عشر سنوات إلى محل
الكوافير وتستعير فستانا.. يتكرر الأمر مرة أخرى ولكن هذه المرة بحضور
الطفلة التي تصور البوابة، وتبدأ بينهما حالة من الاكتشاف حتى إننا نرى كيف
أن هذه السيدة تحتاج إلى حضن الطفلة، وتشعر الطفلة بأنها من الممكن أن تعطي
وتمنح مشاعرها تجاه هذه البوابة، وكأنها تمنحها رحيق الحياة وتجعلها تتمنى
أن تصبح مثلها.. وتقول لأبويها إنها عندما تكبر تتمنى أن تختار أن تصبح
بوابة، في حين أنها أرادت الإنسان التي عليه هذه المرأة وليست مهنتها..
يطلب الياباني من البوابة الخروج معه فتتردد وترفض، ثم تترك له رسالة بأنها
توافق وتستعد لهذا اليوم، وتخرج معه وتلتقي بوالدة «بالوما» لا تعرفها
ويقول لها «توغو أغاوا» لم تعرفك لأنها لأول مرة تراك.. نعم تغيرت عندما
بدأت تعيش الحياة وتخرج للشارع تحاول إنقاذ سكير من الموت فهو يقف مخمورا
في عرض الشارع وأثناء محاولة إنقاذه تلقى هي حتفها.. سخرية الموت تلقي
بظلالها على «بالوما».. كانت المخرجة وكاتبة السيناريو قد أكدت ذلك من خلال
الموت والحياة وذلك عندما شاهدنا «بالوما» تضع في حوض السمك قرص منوما من
الذي تتعاطاه أمها تلتقطه السمكة وتفقد حركتها وتلقي بها «بالوما» في
الحمام معتقدة أنها قد ماتت.. ولكننا قرب نهاية الأحداث نكتشف أن السمكة
على قيد الحياة تلتقطها البوابة من حمامها.. الحياة هي القدر، لا نملك أن
نختار توقيته ولا نملك حتى مفاتيحه.. البوابة في اللحظة التي تقبل فيها على
الحياة تموت، والسمكة بعد أن اعتقدنا أنها قد ماتت اكتشفنا أنها لا تزال
تتنفس، ولا يقول لنا الفيلم بشكل قاطع ومباشر إن «بالوما» لن تقدم على
الانتحار، ولكننا نوقن من ذلك فهي أيضا تغيرت من خلال لقائها مع البوابة
وتعرفت أكثر على الحياة ونضجت والصورة التي تلتقطها منحت لحياتها عمقا
ومعنى!! المخرجة «منى عشاش» كانت تحرص على أن تمزج في السرد المرئي للفيلم
بين عين الطفلة وعين محايدة تتابع المشاهد هي بالطبع تتقمص عين الطفلة وهي
تقدم لنا لقطات بعيونها ونتابع الشخصيات بتلك العين ثم ننتقل بعد ذلك في
لقطات أخرى لنرى عين المخرجة نفسها وقد صارت تقدم لقطات موضوعية بعينها هي
ثم في مستوى ثالث تمزج المخرجة بين الرؤيتين معا.. تبدو المخرجة في لحظات
وهي تقدم روح الطفولة من خلال الصور الثابتة في كتاب تحرص على أن تجعل
الطفلة تتابع صفحاته المرسومة بسرعة لتتحول إلى صور متحركة وكأنها تحاكي
نظرية السينما القائمة على أن الصور الثابتة تأتي بسرعة معينة كانت السرعة
المطلوبة في بداية اختراع السينما 16 كادرا في الثانية ثم زادت بعد دخول
شريط الصوت للسينما عام 1927 إلى 24 كادر في الثانية هي سر السينما.. مفهوم
الحياة لدى المخرجة الذي تؤكد عليه هو أننا نحيا من أجل أن نمنح السعادة
للآخرين وهذه هي فقط الحياة!! «القنفذ» يدافع عن نفسه بتلك الأشواك التي
يشهرها في وجه الأعداء، ولكن الإنسان يستطيع أن يحيل أشواكه إلى أجنحة تطير
وتضم وتدفئ وتحمي أيضا الآخرين!!
الشرق الأوسط في
04/12/2009 |