ما الذي يدفع مخرجاً سينمائياً عرف باتساع نطاق خياراته إلى إنجاز عمل
سينمائي
يقوم على سيرة حقيقية لشخص يكرس نفسه لملاحقة وكشف إحدى أكبر مؤامرات
الفساد في
تاريخ بلاده، بعد أن قدم ما يتقاطع مع هذا السباق في فيلم سابق أنجزه قبل
عشر سنوات
مضت؟
فيلم «المخبر»، أحدث أفلام المخرج ستيفن سوديربيرغ، الذي بدأت عروضه
العالمية
قبل أسابيع، يقدم مرة أخرى شخصية تبدأ عادية لا تخرج عن النمطية في شيء
لتنتهي عامة
واستثنائية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. انه فيلم يستدعي للذاكرة
فيلمه
«إيرين
بروكوفيتش» (2000)، على رغم اختلاف مسعى الشخصيتين وبنيتهما الاجتماعية
والنفسية.
إذا كان سوديربيرغ قد قدم هناك قصة حقيقية عن أم عزباء تعيل ثلاثة
أطفال تقوم
بمفردها بكشف واحدة من أكبر جرائم التلوث البيئي لتتحول إلى بطلة قومية،
فهو اليوم
يعيد في «المخبر» تقديم قصة حقيقية أخرى تدور أحداثها في بداية تسعينات
القرن
الماضي، لكن عن موظف رفيع في إحدى الشركات الزراعية العملاقة
يساعد على كشف مؤامرة
تلاعب في تحديد الأسعار تعد الأخطر على المستوى الدولي.
لم يحدث قط أن قام موظف يشغل منصباً بهذه الرفعة والمسؤولية في واحدة
من أكبر
الشركات في العالم بالوشاية على الشركة التي يعمل فيها مكرساً ثلاث سنوات
من حياته
لتسجيل وتصوير كل تعاملاتها ولقاءاتها وصفقاتها مع شركائها الدوليين. لكن
هل هذا
فقط ما جعل من قصة مارك وايتيكير الحقيقية الذي لعب دوره ببراعة «مات ديمن»
حكاية
فريدة؟ وهل تكمن هنا استثنائية شخصية بطلها؟ وبالتالي هل فكرة
التشويق التي بنى
عليها سوديربيرغ فيلمه قائمة فقط على كشف ما ستؤول إليه عملية التجسس تلك
من داخل
هذه الشركة الكبيرة لمصلحة مكتب التحقيق الفيديرالي؟
بصمات أسلوبية
لم يأت تميز سوديربيرغ في
مواضيعه بقدر ما في طريقته في قول المعروف والمتفق
عليه ببصمات أسلوبية لونت وميزت خياراته. إنه مخرج يملك من الطموح الفني
الخالص ما
جعله يقدم في بداياته «جنس، أكاذيب، وشريط فيديو» (1989) ليحصل عنه على
سعفة مهرجان
كان السينمائي الدولي، قدّم أخيراً «تجربة الصديقة» (2009). ويملك أيضاً
حرفية صانع
الأفلام التي تستقطب جمهوراً عريضاً وتحقق أرباحاً تجارية
«أوشن 11» (2001) ، و «أوشن
12» (2004)، و «أوشن 13» (2007)، والتي يأتي «المخبر» 2009 من ضمنها. وفي
المنطقة الوسطى بين الطموح الفني الخالص والاعتبارات الجماهيرية التجارية
تأتي
أفلام متقنة الصنع كـ «تجارة المخدرات» و «إيرين بروكوفيتش»
اللذين ترشح عنهما
لأوسكار أفضل إخراج في العام 2000 نفسه فحصل عليها عن الأول وحصل عن الثاني
على
أوسكار أفضل ممثلة لجوليا روبيرتس تحت إدارته، محققاً كذلك أفلاماً أخرى
كملحمة
«تشي
غيفارا» 2008 وغيرها...
إذاً ماذا وجد سوديربيرغ في كتاب الصحافي كورت إيكنوالد ودفعه لتحويله
إلى فيلم
سينمائي، مجازفاً في ترك المشاهد يرى فيه محاولة لاستثمار نجاح سابق في
الموضوعات
التي تتعلق بحالات بطولية فردية في مواجهة مؤامرات فساد تقف وراءها كبرىات
الشركات
ذات الصلات النافذة؟ قد تقودنا محاولة الإجابة عن تساؤل كهذا إلى مكان أبعد
من
الإطار العام للقصة والموضوع المطروح لنجدنا نقف عند التشويق
بحد ذاته كنوع سينمائي
ومن قبله أدبي. وهو ربما ما أراد سوديربيرغ الاشتغال عليه واختبار تلوينة
جديدة من
تلويناته.
لا يكتفي فيلم «المخبر» برسم خط خارجي وحيد للتشويق. فقد سمحت تركيبة
شخصية مارك
وايتيكير في التنقل بين مستويات عدة للتشويق حيث رسم لنفسه انعطافات مفاجئة
جعلته
ينحرف عن التشويق الخارجي ليصل إلى تشويق داخلي يتعلق بالبطل ودوافعه
واضطرابه
النفسي. فشق بذلك لنفسه خطاً موازياً أعطى للفيلم انطلاقة
جديدة ليكون المشاهد في
الربع الأخير منه أمام حالة من الشك تدفع باتجاه إعادة قراءة ما سبق بناء
على معطى
جديد اكتمل فجأة ليؤكد أننا أمام شخصية تنفي في كل مرة ما أكدته سابقاً
وتؤكد ما
سرعان ستعود وتتراجع عنه لاحقاً لأسباب ستشطر بدورها التشويق
إلى مستويين جديدين.
ذلك أن هذا الإداري الرفيع الذي يحمل شهادة الدكتوراه في اختصاصه تحول فجأة
في
انعطافة درامية مفاجأة بعد سنوات من التعاون والتجسس لمصلحة حكومة بلاده
لكشف
التجاوزات الخطيرة لرؤسائه في العمل إلى متهم بالفساد والتزوير
والاختلاس وتبيض
الأموال. ولتأتي الانعطافة الثانية حين بدأ الفيلم يجمع ويكثف ما سرّبه منذ
البداية
من اضطراب ذهني وخلل نفسي حاد في بنية شخصية وايتيكير. تبدت ملامح هذا
الاضطراب
داخل مناخ من الكوميديا السوداء ليصل الانهيار النفسي إلى أوجه
بعد ثلاث سنوات من
الضغط جراء عمليات التجسس والتسجيل لمئات الأشرطة في عواصم العالم التي لم
يتوقف عن
التنقل بينها في رحلات عمله.
غموض وتساؤلات
بعد كل ذلك هل نحن أمام فيلم تشويق قوي وممتع؟ للإجابة علينا أن نحدد
معنى
التشويق(suspense)
واختلافه عن الغموض (mystery)
وعن فيلم (thriller)
التي اعتادت
التصنيفات السريعة للأفلام دمجها في شكل تعسفي فنقترب بذلك من الفروقات
التي قدمها
سوديربيرغ في بنية التشويق في «المخبر».
يطرح «المخبر» في البداية سؤال «من فعل ذلك؟» ما يجعله لا يبتعد عن
فيلم الغموض
لمعرفة حقيقة الأطراف التي تقف وراء مؤامرة التلاعب بالأسعار، لينتقل هذا
السؤال
إلى مستويات جديدة أمام التبدل المستمر للحقائق. أما «كيف سيخرج البطل من
ورطته»
وهو السؤال الذي يطرحه فيلم التشويق عادة ، فيبرز ويسيطر على فيلم «المخبر»
لأن
ورطة وايتيكير تأخذ في كل مرحلة من مراحل الحدث بعداً جديداً يؤسس له سلسلة
الأكاذيب التي لا يتوقف بطلنا عن سوقها حتى لحظة الفيلم
الأخيرة. وأما الإثارة
المسؤولة أولاً وأخيراً عن الإيقاع فقد ضاعت في مكان ما بين خطي التشويق
الخارجي
والداخلي.
التزم «المخبر» بصيغة فيلم الغموض الذي يسعى إلى جمع أجزاء لوحة
مبعثرة لتكوين
صورة متكاملة تجيب عن كل التساؤلات المعلقة واكتمل حل لغز شخصية بطله
ودوافعه بما
يتناسب وخط التشويق الخارجي لكن دون الاشتغال على تفعيل التشويق المتعلق
بالخط
الداخلي الذهني لشخصية مصابة باضطراب نفسي حاد. فعندما بلغت
الحكاية مستوى جديداً
أكثر عمقاً من تطور وقائع معروفة، أفلت سوديربيرغ الخيط المشدود الذي أمسك
فيه
مشاهده وأضاع فرصة استثمار ذلك التشويق في مكان أشد فرادة داخل عقل
وايتيكير نفسه
وصراعه مع وحوشه الداخلية. وإذا كان سوديربيرغ قد نجح في تغريب المشاهد عن
بطله من
خلال التناقض الصارخ بين صوت عقله الباطن ومونولوجاته المتضخمة حول ذاته،
وتعليقاته
على كل ما يجرى من حوله، مهما بدا تافهاً، وبين جدية وخطورة
القضية التي يخوضها،
فقد بدا أنه يفعل ذلك ليصنع من تلك المفارقة مناخاً من الكوميديا، ولم
يفعله ليؤسس
من خلاله أرضية مثالية للدخول في دهاليز عقل مريض ومضطرب.
عشق سيد التشويق والإثارة ألفريد هيتشكوك صدم مشاهده بمخالفة كل
توقعاته في
الشخصية والأحداث والمكاشفات ليترك شخصياته في النهاية أكثر غموضاً عما
كانت عليه
في بدايتها، لأنه أراد أن يبني علاقة متينة مع مشاهده قائمة في شكل أساسي
على الشك
وعدم اليقين، وهي رؤية متكاملة للعالم، وقانون حكم مواضيعه
وعلاقة شخصياته ببعضها
وبمجتمعها. في المقابل صدم سوديربيرغ مشاهديه وخالف توقعاتهم واستطاع فعلاً
أن يترك
بطله في النهاية أكثر غموضاً، لكن دون أن يتمكن من بناء تلك العلاقة
المتينة مع
مشاهده ودون أن يجعله يتورط في تفاصيل شخصية بطله. وعلى رغم
ملامسته قضية في غاية
الأهمية والمتمثلة في فساد وجشع الشركات الكبرى المسؤولة عن الأزمة
الاقتصادية التي
طالت الجميع في عالم اليوم، إلا أنه افتقد للرؤية والطموح في إعادة صوغ قصة
واقعية
تقدم إضافة ما إلى ما قدمته السينما من تجارب إنسانية عاشت شرخاً حاداً بين
ثبات
وتوازن ونجاح اجتماعي من جهة، وبين خلل واضطراب وانهيار نفسي
من جهة أخرى. وهذا
ربما ما جعل فيلم «المخبر» عاجزاً عن انتشال نفسه من مكان بدا يراوح فيه
أطول مما
يجب، فانتهى دون أن يرتفع بشخصية مارك وايتيكير من واقعة تاريخية إلى واقعة
سينمائية.
الحياة اللندنية في
04/12/2009 |