في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي كان من الواضح أن لجنة التحكيم
التي ترأسها الفنان يحيى الفخراني لم تجد أي صعوبة في أن تمنح الجوائز
للفيلم الفلسطيني «أميركا» للمخرجة شيرين دعبس. فمن بين 11 فيلماً عربياً
حصل الفيلم، ولأول مرة في تاريخ هذه المسابقة العربية، على جائزتين: جائزة
السيناريو وجائزة أفضل فيلم، وتصل قيمة الجائزتين إلى 35 ألف دولار.
وبرغم أن هذه المسابقة تنافس فيها عدد لا بأس به من الأفلام المهمة
التي مثلت 9 دول عربية، ولكن كان للفيلم الفلسطيني كل هذا الإجماع!! نشعر
في هذا الفيلم بهمس الكفاح والنضال والمقاومة، وليس مظاهرها ولا حتى
صوتها.. امرأة مكافحة هي العنوان الذي استندت إليه المخرجة من خلال الممثلة
الفلسطينية نسرين فاعور التي حرصت على أن تأتي لمهرجان القاهرة على نفقتها
الخاصة. فهي من هؤلاء الذين نطلق عليهم عرب إسرائيل، أي الذين ظلوا في
بلادهم شمال فلسطين ورفضوا أن يغادروها، ولهذا هم مضطرون أن يحملوا جواز
سفر إسرائيليا. وهناك دائماً إحساس لدى عدد من المهرجانات العربية بأن
إرسال دعوة لهؤلاء قد يفتح عليهم أبواب الجحيم نظراً لجواز السفر
الإسرائيلي الذي يحملونه مضطرين. ورغم ذلك، فإن بطلة الفيلم جاءت للمهرجان
على نفقتها وبلا دعوة.. وتصدرت المنصة في المؤتمر الصحافي الذي أعقب عرض
الفيلم. ولكن هذه قصة أخرى تؤكد إصرار هؤلاء الفلسطينيين على المقاومة،
ومهما كان الثمن فهم سيواصلون الحياة!! حلم الهجرة إلى أميركا يدفع الشعوب
الفقيرة للاستسلام لهذا الوهم الجميل، حيث يصبح الأمل في الثراء هو الصورة
الثابتة التي لا تتغير مهما أثبت الواقع أن الأحلام تتبدل إلى كوابيس..
وعندما نتحدث عن شعب بلا وطن، فإن طريق الهجرة إلى أميركا يتحول إلى وطن..
لأن الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة كما قال علي بن أبي طالب.
ودائماً لا يفارق المغترب، خاصة في البداية، الإحساس بأنه يستطيع أن يقفز
فوق قدراته المحدودة وأن يصبح ثرياً بين يوم وليلة حتى ولو لم تكن لديه أي
إمكانيات!! المخرجة شيرين دعبس، ذات الأصل الفلسطيني، بفيلمها «أميركا»
تقدم تفاصيل الحياة القاسية لعائلة فلسطينية تعيش داخل أراض تسيطر عليها
السلطة الفلسطينية.. أم مطلقة تؤدي دورها نسرين فاعور، وهي موظفة بأحد
البنوك، لديها سيارة صغيرة وتعيش مع ابنها.. يقدمها لنا الفيلم وهي تعاني
آلام العيش منفردة على المستويين الاقتصادي والنفسي.. كما نرى التعنت
الإسرائيلي عندما يجبر جنود الاحتلال ابنها على أن يقف أمامهم عارياً وهم
يفتشونه عبر الحدود. منذ البداية وهي تسعى للهجرة للهروب من تلك المعاناة
اليومية، لكنها تبدو وكأنها تستجير بالرمضاء من السعير. تهاجر إلى أميركا
لتلحق بشقيقتها، التي تؤدي دورها هيام عباس. ومنذ الوصول إلى المطار ولا
أحد يعترف في أميركا بالهوية الفلسطينية. لا يعتقدون أنها دولة ذات سيادة..
تصادر علبة البسكويت التي تخبئ بداخلها تحويشة العمر من الدولارات القليلة
التي جمعتها طوال حياتها. عندما يكتشفون أنهم عرب، يعاملونهم كمتهمين
ومتطرفين. تلك النظرة يبدو أن شيرين دعبس كاتبة ومخرجة الفيلم أمسكت بها
لأنها عايشتها من خلال هجرتها الواقعية إلى أميركا. أول عائق يواجهها هو
اللغة، فهي غير قادرة على التواصل بالإنجليزية فلا تملك إلا مفردات قليلة.
العائق الثاني أن التحويشة التي جاءت بها إلى أميركا بتلك الدولارات
القليلة تضيع منها في المطار. وكأن المخرجة تريد أن تضعنا مع البطلة في هذا
المأزق، ولكنها تخرج منه كعادتها بابتسامة تؤكد معنى واحدا: أن البطلة تريد
بالفعل مواصلة الحياة مهما بلغت قسوتها. الفيلم يقدم علاقة الفلسطينيين من
مختلف الأجيال والثقافات، لأن بنات شقيقتها اللاتي يقمن في أميركا اندمجن
مع المجتمع بينما ابن البطلة كان دائم الشجار مع أطفال المدرسة الذين
يسخرون منه ويصفونه بأنه بن لادن، مما يؤدي بالطبع إلى تناحر وشجار لا يهدأ
بين الطفل وزملائه. لم يكن اختيار الأسرة الفلسطينية بأنها تدين بالمسيحية
عبثاً في الفيلم، لأن المخرجة أرادت أن تقول في حوار مباشر أنهم في فلسطين
كانوا يعيشون بمشاعر الأقلية بين أغلبية مسلمة. كما أنها أرادت أيضاً أن
تقدم على الجانب الآخر ناظر المدرسة التي يدرس بها ابنها، يهودي الديانة من
بولندا، الذي يشعر أيضاً أنه من الأقلية التي هاجرت إلى أميركا. تتجاوز
المخرجة الأديان لتصل إلى عمق الرسالة التي تبناها الفيلم وهي أن التعايش
ممكن مع الناظر اليهودي ـ وهو ليس إسرائيلياً ـ ولكن يدين فقط باليهودية،
وهذا مقصود بالطبع.. فهو يساعد ابنها ويخرجه من السجن، وتعهد أمام الضباط
بمسؤوليته عنه، مؤكدا أن الشجار الذي حدث بين الولد والطلبة في المدرسة لم
يكن لخطأ يتحمله الولد وحده.
من الملامح التي تقدمها المخرجة بخفة ظل، اضطرار البطلة للعمل كعاملة
نظافة في مطعم ملاصق لأحد البنوك. ولأنها بمفهومها الشرقي تعتقد أن هذه
المهنة تهينها أمام شقيقتها، فإنها تخادعها في كل مرة حين توصلها وكأنها
تذهب للبنك الملاصق للمطعم، وبعد أن تدخل من الباب وتغادر شقيقتها المكان،
تعود مسرعة إلى المطعم. وينتهي الفيلم بذهاب الجميع إلى مطعم عربي، بمن
فيهم الناظر اليهودي الذي أصبح صديقاً للأسرة، ويرقصون على أنغام شرقية.
المخرجة لا تقول أياً من أفكارها بأي قدر من المباشرة، لا على مستوى
الدراما أو الصورة أو أداء الممثلين، وتترك دائماً للمتلقي أن يكمل هو
المشهد وأن يصف الإحساس.. كما كانت المخرجة «شيرين دعبس» حريصة أيضاً على
أن يظل الخط التليفوني على تواصل بالأراضي الفلسطينية، حيث تعيش أم البطلة،
لينتقل من وإلى ملعب الأحداث الرئيسية في أميركا. الحنين للعودة إلى الوطن
يعيش دائماً بداخلهم، ولهذا فإن كل تفاصيل الحياة، حتى أبسطها، يصبح
بالنسبة إليها كإكسير الحياة. ومن خلال تلك الحكايات، تتنفس بروح الوطن، هم
يهاجرون نعم، إلا أن في داخلهم رغبة عارمة لكي يعودوا. ورغم ذلك، فلا مفر
أمامهم سوى التعايش والتحايل من أجل البقاء حتى وإن مات بداخلهم حلم الثراء
الكاذب. أدت بطلة الفيلم «نسرين فاعور» دورها بخفة ظل وتلقائية في تعايش
والتصاق بالشخصية. ومن العناصر المميزة للفيلم موسيقى كريم رستم ومونتاج
كيث ريمار. استطاعت المخرجة شيرين دعبس أن تضبط إيقاع الفيلم، وكانت تعتمد
في أغلب لقطاتها على حركة الكاميرا في توصيل التعبير. الفيلم عرض في قسم
«أسبوع المخرجين» بمهرجان «كان» الأخير، وتنافست المخرجة على جائزة
«الكاميرا دور» ـ الكاميرا الذهبية ـ كأفضل عمل أول، ولم تحصل عليها لكنها
حصدت جائزة النقاد العالميين «الفيبرسي» للعمل الأول. وبعيداً عن كل ذلك
فإننا بصدد فيلم يحمل الروح الفلسطينية، شاركت دولة عربية في إنتاجه، وهي
الكويت، وتناول قضية عربية بنعومة وهدوء، وقدمته وكتبته مخرجة عربية
فلسطينية الجذور، شيرين دعبس. استحق عن جدارة جائزة أفضل فيلم عربي في
مهرجان القاهرة. يحمل الفيلم نفساً إبداعياً متفرداً يؤكد أن الوطن يسكن
الفلسطينيين حتى لو سكنوا أميركا!!
الشرق الأوسط في
27/11/2009 |