ترفض المخرجة المصرية تهاني راشد الإشارة، ولو عن بعد، لحال النوستالجيا
التي تملأ فيلمها الثاني «جيران»، بل أنها ترد بعنف على أحد المتفرجين
متهمة إياه بإساءة فهم فيلمها مدافعة بشدة عن كل شخصياتها وعن فكرتها
العامة مستنكرة وصف «العشوائية» الذي أطلقه ذلك المتفرج على طريقة تصويرها
وربما على سكان حي «غادرن سيتي» موقع أحداث فيلمها.
عرض فيلم «جيران»، الذي يشكل ثاني أفلام راشد بعد عودتها إلى مصر منذ
ثمانية أعوام، لأول مرة خلال الدورة الثالثة لمهرجان الشرق الأوسط
السينمائي الدولي الذي أقيم في أبوظبي في الفترة 8-17 أكتوبر/ تشرين الثاني
الماضي. ويأتي هذا الفيلم الوثائقي بعد فيلم راشد الأول «البنات دول» الذي
أثار ضجة كبرى واتهمت على إثره بتشويه سمعة الفتاة المصرية.
في «جيران» تصحبنا تهاني في رحلة في حي غاردن سيتي، الحي الصغير في حجمه
الكبير في رمزيته، والذي يعكس صورة مصر المعاصرة بكل سلبياتها وإيجابياتها،
مسلطا الضوء على «ما لا يعرفه المصريون أنفسهم» عن معاناة سكان الحي والحال
التي يعيشوها، وذلك بحسب تعبير صحافية مصرية حضرت العرض الأول للفيلم
بأبوظبي.
فكرة الفيلم نشأت في ذهن راشد ومساعدتها منى أسعد على اثر استضافة السفارة
الأميركية بالقاهرة لراشد لعرض فيلمها «البنات دول». التقت راشد السفير
الأميركي حينذاك، ليدعوها إلى حفل استقبال كان قد نظمه لجيران السفارة بحي
الغاردن سيتي وهم المتضررون بشكل كبير من الطوق الأمني المحيط بمنطقة
السفارة.
تقول تهاني «حينها طلبت من السفير السماح لي بتصوير حفل الاستقبال، فرحب
بذلك، وهكذا بدأنا تصوير الفيلم. لم نكن نعرف وجهتنا لكنها كانت فرصة أردنا
استثمارها»
وتواصل «كان حديث الأهالي مع السفير خلال حفل الاستقبال يتركز على الحالة
الأمنية التي يعيشها الحي والتي يفرضها وجود السفارة فيه وما يتسبب فيه ذلك
من معاناة للأهالي. من هنا انطلقنا وبدأنا في جمع حكايات الأهالي تلك. حين
تعمقنا في الأمر اكتشفنا أن غاردن سيتي يمتلئ بالحكايات التي تستحق أن تفرد
في فيلم توثيقي»
بالطبع لم تكن تهاني راشد أو مساعدتها تهدفان من وراء تقديم الفيلم
للمساهمة في تخفيف حدة الوضع الأمني في غاردن سيتي، هما تتمنيان ذلك لكن
راشد تقولها صراحة «لا أظن أن فيلمي سيفعل أي شيء بهذا الخصوص. ما أردته
فقط هو أن أطرح مشكلة أولئك الذين يعيشون بالقرب من السفارة الأميركية
ويعانون ... إنهم يخسرون رزقهم ولا أحد يسأل عنهم»
لكن لماذا غاردن سيتي على وجه التحديد، ما الذي يميز هذا الحي عن سواه
تقول راشد «عشت في هذا الحي وأعرف كم التحولات التي مر بها وأعلم أن سرد
حكاياته يعني سرد تغيرات الواقع المصري منذ الثورة حتى اليوم»
وتواصل «في الفيلم يتحدث طبيب الأسنان والروائي علاء الأسواني عن غاردن
سيتي الذي كان يشبه باريس ويعيش حالة رفاهية لم تكن تشبه تلك الموجودة في
أي حي مصري آخر. غاردن سيتي يعكس واقع مصر عبر عقود مضت»
هي تجربة ذاتية إذن تلك التي قادت راشد لأن تحكي معاناة ساكني «غاردن
سيتي»، وهي تعاطف بل وربما انحياز، ترفض راشد الإقرار به، مع الساكنين
الارستقراطيين ممن تسببت ثورة الضباط الأحرار في إن يفقدوا كل امتيازاتهم.
راشد على أية حال تنتمي لطبقة ارستقراطية تسببت الثورة في أن تهاجر إلى
كندا».
وراشد ترد بعنف على مشاهد يرى أن الفيلم صور الماضي الجميل وأشار إلى
الثورة التي شوهته، ثم يتهمها بمحاولة تصنيف شخصيات فيلمها وتصوير بعضهم
على أنهم عشوائيات.
تهاني ترفض ذلك وترد بعنف قائلة إن «كل متفرج من حقه أن يشاهد الفيلم بنظرة
مختلفة، لكني لا أظن أن تصويري لعائلة بركة قلل احترامي لهم، هؤلاء أشخاص
بسطاء ولكني لم أصور أي أحد بعشوائية. وأنا لا أحاسب أحدا في فيلمي، بل إني
استعرض سلبيات وإيجابيات كل مرحلة»
وحول النوستالجيا والحنين إلى الماضي وهما الواضحان في فيلمها تقول تهاني
«لا يوجد في الفيلم نوستالجيا، حالة الحنين هي ليست حنين للماضي، أحمل
حنينا للفترة التي كان الناس يحترمون فيها بعضهم، لا أحن للماضي كماضٍ بل
لأشياء فقدناها»
وتواصل «لم أهتم كثيرا للأفكار التي تحملها الشخصيات التي صورتها، بالنسبة
لي الإيديولوجية تأتي بعد الناس، ما أحبه هو الناس، لا يهمني ما إذا كانوا
ينتمون لليسار أم لليمين، بل ما هم عليه وما يكافحون من أجله. قد لا أتفق
مع بعض من ظهر في فيلمي في أفكارهم وفي اتجاهاتهم لكني أحترمهم، أحترم
ذاكرتهم، أحترم ما يريدون أن يعلمونا إياه.
ثم تضيف «لم تواجهنا المشكلة في إقناع الآخرين برواية حكاياتهم لكن في
اختيار القصص التي نصورها، كانت هناك الكثير من الحكايات ولم يرفض أي أحد
أن يروي قصته، المشكلة كانت في تجميع المادة واختيارها»
تهاني لا تعود إلى ماضي غاردن سيتي عبر حكايات أبناء وأحفاد الأسر
الارستقراطية التي دمرتها الثورة وبددت أحلامها وقضت على مستقبلها وحسب،
لكنها وبتكنيك مختلف ومميز، تمزج مادتها الوثائقية بمواد مأخوذة من أرشيف
السينما المصرية يتضمن لقطات من أفلام تم تصويرها في الحي الشهير أو في
قصور وفيلل أصبحت الآن خرائب مهجورة جالتها كاميرا تهاني بما يشبه الحسرة.
تعتمد راشد في فيلمها المزج بين الوثائقي والروائي، وهي كما تشير مساعدتها
«تملك قدرة وبراعة أن تحول أي شخصية عادية لشخصية روائية»
وعلى رغم الصعوبة التي واجهت تهاني في العثور على مادة فيلمية جيدة، إذ إن
«هناك مشكلة كبيرة في أرشيف السينما المصرية، إذ إن كثير من الأفلام مفقودة
رغم التراث السينمائي المصري الهائل. كذلك فإن المادة الأرشيفية التي
استخدمناها لم تكن ذات جودة عالية وكان واجبا عليها أن نقوم بعمل مونتاج
لها لنتمكن من استخدامها في الفيلم»
لكن لماذا اللجوء للأرشيف السينمائي
ترد راشد «أردنا أن نستخدم السينما المصرية كمرجع للحياة في هذا الزمن،
لأنها كانت تعكس واقع الحياة وأسلوبها في ذلك الوقت، وكانت توضح كيف كان
الناس يتحركون ويعيشون»
المخرج المصري يسري نصر الله، الذي كان حاضرا للعرض، وافقها الرأي وأضاف
«أن استخدام تهاني للمادة السينما بهذا الشكل مشابه لحالة المعمار في
القاهرة وأنا أرد هنا على المتفرج الذي كان مستاء من حالة الحنين إذ لا أظن
أن هناك من يحن لفترة سابقة بالتأكيد أنت تريد أن تحافظ على تراث معماري أو
سينمائي أو تحفظ تاريخ السينما المصرية، لكن هذا ليس حنينا إلى الماضي، إنه
حفاظ على ما يعكس حضارتك»
قد تكون تهاني لجأت لهذا التكنيك في فيلمها لأنه كما قالت «الفيلم طويل
وكان علي أن أشد المتفرج لفيلمي وأجعله يستمتع به»
وربما، وهنا تضيف منى، مساعدة راشد في الإخراج، فإن «هناك موضوعا آخر أردنا
أن نتطرق له إذ إننا حاولنا عمل مقارنة بين غادرن سيتي حين كان حيا راقيا،
وبين الأحياء الراقية اليوم، التي تقع خارج المدينة وتحاط بأسوار عاليه
تعزلها عن المجتمع، فيما لم يكن الحال كذلك مع الطبقات التي عاشت في غاردن
سيتي»
قدمت تهاني راشد عبر فيلمها «جيران» مفهوما جديدا لصناعة الفيلم الوثائقي،
تمكنت وهي بذلك تسجل سابقة ربما في الفيلم الوثائقي العربي من أن تشد
متفرجيها على مدى ساعتين لمادتها التي مزجت فيها بين الروائي والتوثيقي
والتأريخي. احبت شخصيات فيلمها واحترمتها جميعها، الارستقراطي المتظلم من
تسلط الثورة عليه، والمهمشون المؤمنون بشعارات الثورة والذين لا يزالون
يتمسكون بها ويعيشوها.
وفي تعليقها على بعض شخصيات فيلمها تقول «بعض شخصيات الفيلم تعطيك أملا،
كبائع الجرجير ابراهيم السيد وهو الذي يسكن بالقرب مني. هذا الرجل الذي أره
يوميا وأعرف تماما كيف يعيش وإلى أي مدى يعاني لكني لا أستطيع أن أفعل له
شيئا».
وتواصل «كثير من العبارات وردت على لسان بعض شخصيات فيلمي أعجبتني كثيرا،
أهمها العبارة التي جاءت في قصة أوردها المفكر اليساري المصري محمود أمين
العالم حول قيام مجموعة من جلادي السجن بضرب العالم ورفاقه إبان سجنه في
نهاية الخمسينيات ليعلق أحد السجناء بعد انتهاء نوبة الضرب بالقول «داحنا
موتناهم من ضربنا»، وتهاني تقول «كلمات العالم معبرة إلى حد كبير عما آلت
إليه الأمور في مصر».
الوسط البحرينية في
12/11/2009 |