«مهرجان دمشق» أعلن ولادة مخرج هو جود سعيد. «مرة أخرى» عنوان باكورته
الروائيّة التي تغوص في المنطقة الشائكة للعلاقات السوريّة ــ اللبنانيّة.
تجربة تعد بمنعطف جديد في السينما السوريّة
في المشهد الأخير من “مرةً أخرى”، تعبر جويس جسراً خشبياً معلَّقاً
فوق نهر يفصل الحدود السورية عن اللبنانية، بمساعدة مجد، ابن ضابط سوري
(قيس الشيخ نجيب). تدور أحداث المشهد خلال اندلاع حرب تموز 2006، وكان على
تلك السيدة اللبنانيّة، مديرة أحد المصارف الخاصة في دمشق (بياريت قطريب)،
أن تتسلّل عبر الحدود الشمالية، للالتحاق بابنتها العالقة في طرابلس. فاز
الشريط بـ“جائزة أفضل فيلم عربي”، و“جائزة لجنة التحكيم الخاصة” في «مهرجان
دمشق السينمائي الدولي”، الذي اختُتم مساء السبت. ولعلَّ المشهد المذكور
يختصر فكرة العمل، الذي تدور أحداثه على خلفية العلاقات السورية ـــــ
اللبنانية، في الفترة الممتدة بين الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982،
وحرب تموز 2006.
تشوب هذه العلاقة الملتبسة شكوك من الطرفين. اللبناني لن يعبر جسر
الأمان من دون مساعدة السوري. وقصّة الحب التي تنشأ بين جويس وابن الضابط
تنتهي بقطيعة، حين تكتشف بمساعدة زميلتها في العمل أنّ مجد يتجسّس على
مكالماتها على الـ«تشات». اكتشافٌ يعزّز شكوكها في من كان وراء مقتل والدها
في الحرب الأهلية اللبنانية. وها هي الحرب الأخرى تجبرها على طلب المساعدة
من حبيبها السابق.
الشريط ليس حربياً كما سيتوقّع بعضهم، وإن كانت معظم مشاهده تجري في
مواقع عسكرية. نادراً ما تخرج الكاميرا إلى الشارع. نحن لن نرى شوارع بيروت
أو شوارع دمشق، بل فضاءً مغلقاً وكتيماً، كأنّ الحياة تجري في ثكنة.
سنتعرف بدايةً إلى ضابط سوري صارم ومتوحّد (جوني كوموفيتش)، يُفجع
أوّلاً بمقتل زوجته برصاص قنّاص. يربّي ابنه الوحيد في دير للراهبات في
بيروت، يرعاه هناك عسكري يعمل تحت إمرة الأب (عبد اللطيف عبد الحميد).
الطفل الذي يقضي إجازاته الصيفية في المعسكر، يعبث مرةً برشاش فيصاب في
رأسه، ويعيش في غيبوبة ثلاث سنوات. حين يستيقظ من غيبوبته، يستعيد ذاكرة
مشتّتة، من خلالها سيستعيد سيرة والده، يعيد بناءها في مشاهد حيادية تنقصها
العاطفة. يلجأ جود سعيد إلى خلخلة البنى السردية للفيلم وفقاً لذاكرة
الشاب، ومرجعياتها المضطربة.
بدأت حقبة جديدة سيقطف ثمارها آخرون، بعد خروج الجيش السوري من لبنان
الشاب الذي درس هندسة الكمبيوتر في الخارج، يلتحق بوظيفة مرموقة في
المصرف الخاص الذي تديره جويس، ويتصرف بعنجهية مستمدة من سطوة الأب الغائب،
الذي استُشهد في لبنان. هناك مشاهد للشاب وهو يمارس ألعاباً عنيفة على
الكمبيوتر، كأنّه يستكمل بها عنف الحياة العسكرية التي عاشها في كنف الأب،
وعدم قدرته على الانخراط في حياة طبيعية. موت الأب لن يحرّره من تلقّي
الأوامر. إذ يستكمل أداء هذا الدور مساعد الوالد، الذي يتكفّل بإدارة شؤونه
اليومية، ويتبناه كابن له. هذه الحياة الخانقة ـــــ رغم رفاهيتها ـــــ
تزيد عزلة الابن عن محيطه، وخصوصاً بعد فقدان حبيبته جويس، وتحذير «العم»
له من الافتتان بما يتعدّى المغامرة العابرة. على الضفة الأخرى، تتعرّف
جويس عن كثب إلى طبيعة حياة السوريّين بتنويعاتها، ونظرتهم إلى اللبناني
المختزلة بمفهوم رومانسي عزّزته أغاني فيروز ومسرحيات الرحابنة. هكذا ينهض
الشريط على سرد بصري متناوب، يتكشّف عن إشارات موحية، كمشهد دفن الأب، أو
مرور جويس أمام مقهى يعرض على شاشة ضخمة خطاب حسن نصر الله خلال حرب تموز،
وعدم اكتراثها لحماسة الحضور. حماسة لا تختلف عن وقائع مباراة رياضية
خبرتها في مشهد سابق، أو فشل مجد في إقامة علاقة عاطفية.
هذا السرد المتشظّي يجد تمثّلاته الجمالية في كولاج حكائي تعوزه
الرهافة في بعض مفاصله. ذلك أنّ ما هو سَيْروي محض (من سيرة) في ذهنية
المخرج، يتماهى بالمتخيّل، فتضيع البوصلة في محطات كثيرة. يعزّز ذلك حذر
السيناريو ـــــ لأسباب رقابية على الأرجح ـــــ في مقاربة مناطق شائكة في
كشف مصائر شخصيات الفيلم. صورة الأب الذي لم يغادر الثكنة يوماً، تتأرجح
بين صرامة العسكري من جهة، وعدم قدرته على كشف مشاعره الشخصية نحو الابن من
جهة ثانية. نراه يسلّم مصيره للآخرين، مكتفياً بسطوة موقعه. هكذا ستنطوي
حقبة، وتبدأ أخرى، وسيقطف ثمارها نائب الأب (عبد الحكيم قطيفان) بعد مغادرة
الجيش السوري الأراضي اللبنانية، إذ يتسلّم موقعاً اسخباريّاً مرموقاً.
تتجلّى سطوته في ممارسات نفعية، مثل شراكته في المصرف الذي يعمل فيه الابن.
جود سعيد (1980) الذي درس السينما في باريس، وأنجز شريطين قصيرين هما
«مونولوج» عام 2007، و«وداعاً» عام 2008، يخوض هنا أولى تجاربه الروائية.
ويبدو أنه أدار ظهره متعمّداً لمنجز السينما السورية، معتمداً جماليّات
السرد المغاير، وبناء مشهدية خاصة تعد بمنعطف سينمائي قد يفتح أبواب
السينما السورية على آفاق جديدة.
حصاد «دمشق»
انتزع الفيلم الكوري الجنوبي «الجبل الأجرد» للمخرجة سو يونغ كيم
ذهبية «مهرجان دمشق السينمائي الدولي» في ختام دورته السابعة عشرة التي
أقيمت في «دار الأوبرا» في دمشق يوم السبت. وكانت الجائزة الفضية من نصيب
الفيلم الإيراني «عشرون» للمخرج عبد الرضا كاهاني، فيما ذهبت البرونزيّة
إلى «كازانيغرا» للمغربي نور الدين لخماري. ومنحت «جائزة مصطفى العقاد
لأفضل إخراج» للفيلم البرازيلي ـــــ الإيطالي “مراقبو الطيور” لماركو
بيتشيس. وإلى جانب فوز جود سعيد بجائزة لجنة التحكيم الخاصّة، وجائزة
الفيلم العربي، منحت لجنة تحكيم الفيلم العربي جائزتين خاصتين لشريطي «كازانيغرا»
و«واحد صفر» للمصريّة كاملة أبو ذكرى. وفي فئة الفيلم القصير، نال الشريط
الألماني «واجاه» للسينمائيَّين سوبريو سين ونجب بلغرامي الجائزة الذهبية.
الأخبار اللبنانية في
08/11/2009
جود سعيد: نظرة نقديّة وبوادر سينما سوريّة جديدة
دمشق ــ
وسام كنعان
تدور أحداث “مرّة أخرى” في زمنين مختلفين، استطاع جود سعيد أن يتنقّل
بينهما من دون أية إشارة مباشرة. يعيش بطله مجد حالة حب يحيطها ظرف مادي
متخم بالترف، مع زميلة له (كندة علوش). هنا تتسلّم أرملة شابة لبنانية تدعى
جويس نوفل (بياريت قطريب) إدارة المصرف الخاص حيث يعملان، ويقع الشاب في
غرام مديرته الجديدة. في حرب تموز 2006، لا تجد جويس طريقة للعودة إلى
بلدها، سوى يد مجد الممدودة لمساعدتها. يلغي هذه الأخير قرار هجرته، من أجل
إيصالها إلى برّ الأمان.
مجد هو ابن أحد كبار الضباط السوريين في لبنان، خلال الاجتياح
الإسرائيلي عام 1982. يروي الشريط بدقّة جبروت وصلابة الوالد العسكري. نراه
يفقد في دقائق الفيلم الأولى زوجته برصاص قنّاص، فلا يبدي تأثراً. نراه
أيضاً يصاب برصاص الحرب، فيرفض أن يحقن بإبرة مخدِّر خلال العملية. لا
تفجعه كذلك إصابة ابنه برصاصة في رأسه تفقده الذاكرة. لكنّ الضابط يظهر في
نهاية حياته في ظرف نفسي رديء. يحمل مسدسه ويردّد أن زمانه ولّى، نادماً
على بعض أفعاله، طالباً من التاريخ أن ينساه. بدت الشخصية مهيّأة للانتحار،
لكنّ المخرج لم يكشف تلك النهاية الحتمية، تفادياً لربطها بأحداث الواقعية
المشابهة.
فيلمه المقبل أيضاً عن العلاقات ــ السورية اللبنانية
ظلّت قصّة الشريط تدور حول فكرة واحدة مدروسة بعناية فائقة، ضمن
دلالتها الواضحة وإسقاطاتها على ما جرى في لبنان منذ الثمانينيات حتّى حرب
تموز. تبدو وجهة النظر أحادية، يرفض صاحبها اقتحام الرأي الآخر أو تحريكه.
هذا باسثناء الإشارة الواضحة إلى الثراء الفاحش لبعض كبار الضباط السوريين
في لبنان، في ما قد يكون إشارة إلى بعض تجاوزات الجيش السوري في لبنان
وأخطائه.
تنحو كاميرا سعيد إلى التوازن بطريقة مطلقة، من دون التأثر بمدرسة عبد
اللطيف عبد الحميد، رغم مرافقة الأخير للشريط طيلة الوقت. اختيار مواقع
التصوير المقنعة، أسهم في بناء جمالية الصورة وحداثة اللغة البصرية. هكذا،
بدا المخرج متمكّناً ممّا تعلّمه أكاديمياً في الغرب.
في المقابل، حاول الشريط التكثيف قدر الإمكان، فوقف عاجزاً عن تبرير
بعض أحداثه. نرى مديرة المصرف تقع في غرام أحد موظفيها بشكل سريع جداً
ومفاجئ. ثمّ يصور الفيلم عودتها إلى بلدها بعد مساعدة حبيبها، كأنّها في
رحلة أخيرة لن تعود منها أبداً... تاركاً الباب مفتوحاً للتأويل السياسي لا
أكثر. قد يجد المشاهد البعيد عن حيثيات الملف السوري اللبناني صعوبة بالغة
في التواصل مع أحداث فيلم «مرة أخرى». أمّا مخرجه، فقد تسلّم جائزتَيه بيد،
ويستعدّ ليشغل كاميرا عمله الثاني باليد الأخرى. فيلمه الجديد، سيكون عن
العلاقات السورية ـــــ اللبنانية أيضاً، لكن من خلال مقاربة أخرى.
الأخبار اللبنانية في
08/11/2009 |