كثيرون يعتقدون أن بداية الفيلم ونهايته تبدآن وتنتهيان بانتهاء
التصوير، ولكن في الحقيقة أن الفيلم يبدأ بالرقابة وينتهي بقرار الموافقة
أو الرفض للعمل، فهذه معضلة كبيرة يرى صناع السينما فيها الرقابة
ديكتاتورًا صارمًا يصدر فرماناته من دون تحفظ، وآخرون يرمون الرقابة
بالتعسف، وهناك مَنْ يعتبرها انتقاصًا من حرية الإبداع وتقتله.
والصراع بين الرقابة وصناع السينما في مصر مثل لعبة القط والفأر، ولكن
المشكلة الأكبر هي الجهات الأخرى التي من الضروري أخذ موافقتها إذا تناول
الفيلم مواقف أو مشاهد تتعلق بأي من هذه الجهات، مثل الأزهر إذا كان الفيلم
يتعرض لمسائل دينية، أو الكنيسة إذا كان فيه شيء يتعلق بها أو الرئاسة أو
الشرطة أو الجيش أو أي جهة ترى أن العمل يمس مقامها، ولكن الرقابة تبرر
موقفها بأنها ترى أن هناك موضوعات أفلام تبذل فيها جهودًا كبيرة لإيجاد
نقاط تلاقٍ مع الجهات التي يصطدم بها العمل، وفى المقابل يتهم بعض صناع
السينما الرقابة بالمحاباة مع بعض الجهات، حيث تمر أفلام من دون مشكلة
بالرغم من إيقاف أفلام تتضمن الموضوع نفسه.
المشكلة قائمة ومستمرة، وبدأت الأصوات تعلو متهمة الدولة بإتاحة مساحة
كبيرة من الحرية للصحافة التي تخوض في كل شيء، بينما تكبل الأفلام المصرية،
ما جعل المنتجين في أغلب الأحيان يفرضون رقابة ذاتية شديدة على إنتاجهم،
وهو أخطر وأسوأ أنواع الرقابة. كان للرقابة رأي أدلى به رئيسها السابق
الناقد علي أبو شادي أكثر من مرة ردًا على تلك الاتهامات، حيث أكد أن
الأعمال التي تعرض على الرقابة تخضع لمعايير محددة تتفق مع القانون، وهى أن
يلتزم الفن بالأدب في تناوله لأعلى رأس في الدولة، وكذلك الالتزام في مسألة
مشاهد الشذوذ أو إثارة الفتنة الطائفية وغيرها من القضايا، مؤكدا أيضا أن
الحرية متاحة في حالات النقد الموضوعي الموظف بشكل مهني وحرفي جيد، والذي
يمكن أن يوصل الرسالة إلى من يهمه الأمر أو الجمهور.
أبو شادي أشار الى أن هناك مساحة كبيرة من حرية التعبير في مصر، والكل
يحاول أن يستغلها في زيادة التعبير والجرأة، لكنه عاد وقال: لا أنكر أن
الرقابة هي الجهة الأولى التي تصطدم بهذه الحرية في حدود مهامها، ولكنني
خلال فترة رئاستي للرقابة حاولت المضي في الطريق الصعب، حتى لا أكبل أيادي
المبدعين من خلال معالجة المشاكل والمصاعب مع الجهات الأخرى التي يتعرض
السيناريو للحصول على موافقتها. ولكن صناع السينما والنقاد والمؤلفين كان
لهم رأي آخر رفضوا خلاله كل التبريرات التي تناولتها الرقابة في مواجهة
الأعمال الكبيرة والقيّمة، واتهموها بالاهتمام بالأفلام التافهة التي لا
قيمة لها وتمريرها واعتراضها على الأعمال الهادفة.
تبريرات واهية
السيناريست عمرو عاطف قال إن الرقابة لا تعي ما يريده الجمهور، رافضًا
عرض السيناريوهات على جهات أخرى، ومتسائلاً: ما الهدف من عرض السيناريوهات
على الأزهر أو الكنيسة أو الجيش أو وزارة الداخلية؟ وقال: لا أعتقد أنه
يمكننا أن نتقدم في مجال السينما إلا إذا أتيحت للمبدعين حرية عريضة تمكنهم
من تقديم فن راقٍ يتناول قضايانا بمسئولية وموضوعية.
قضية شائكة
فيما رأى الفنان هاني رمزي، صاحب المشاكل الدائمة مع الرقابة، ومنها
الجزء الثاني لفيلمه نمس بوند، أن القضية بالفعل شائكة، خاصة أن الجهات
التي تتداخل وتتقاطع في مسألة الرقابة رأيها يصبح فوق الرقابة نفسها، وذلك
عندما ترفض الشرطة مشاهد محددة يقوم عليها البناء الدرامي للفيلم، ولا
تتنازل عن موقفها، كذلك الكنيسة أو الأزهر أو الرئاسة أو غيرها، فهذا يجرد
الرقابة من دورها ولا يتم الإفراج عن السيناريو أو الفيلم إلا بموافقة أي
من هذه الجهات التي يتعلق موضوع الفيلم أو جزء منه بها، والمؤسف حقًا أن
بعض الأعمال تحجز بلا رد لشهور طويلة أو لعام أو أكثر لدى أي من هذه
الجهات.
أوضح رمزي أنه كان يعتقد أن للرقابة الرأي النهائي كما يحدث في كل
الدنيا، لأنها لديها القدرة على تقييم العمل إذا ما كان يمس جهة بعينها أو
فيه خروج عن الواقع في المعالجة، وتبدي رأيها في معالجة المسألة مع الجهة
المنتجة بالحذف أو التعديل، مع مراعاة ألا يمس الحذف أو التعديل صلب
الموضوع أو بناء العمل، وقال أيضًا: أتساءل.. لماذا لا يكون في لجنة
الرقابة ممثلون لتلك الجهات الحساسة يشاركون في اجتماعات الرقابة عند قراءة
السيناريو أو مشاهدة العمل متكاملاً ومن نفس المكان يصدر القرار النهائي
بدلاً من اللفة الطويلة التي تعطل الأعمال أو تجردها من محتواها الفني
والأدبي؟
تخبّط رقابي
يؤيد هذا الرأي بشكل كبير المخرج خالد يوسف، الذي يؤكد رفضه تحويل
السيناريو إلى جهة غير الرقابة، خاصة أن المؤلفين والمنتجين يحاولون
استغلال مساحة الحرية المتاحة إلى أعلى درجة لخدمة العمل وتوظيف الموضوع
بمسئولية، ولكن للأسف الرقابة مازالت تعيق حركتنا، وقال: الغريب أنه من
الممكن الاعتراض على سيناريو والموافقة على آخر مشابه له، ويمكن أن يكون
السيناريو الذي تمت الموافقة عليه أكثر حدة وجرأة من السيناريو المرفوض
الأكثر موضوعية.
ولكن الكاتب يوسف معاطي الذي يعد أكثر المؤلفين تعرضًا لمشاكل مع
الرقابة كان أكثر موضوعية في تناوله للقضية، بل حاول وضع حلول منطقية
لتجاوز أزمة الرقابة التي ظلت تشغل بال المبدعين، حيث أكد عدم اعتراضه على
عرض السيناريوهات على جهات أخرى غير الرقابة، وقال: لكن لماذا لا نستعين
نحن بهذه الجهات خلال تنفيذ العمل إذا كان يتعرض لأي موضوع يتعلق بهذه
الجهات ونشاورهم فيما يمسهم أو ما يرونه غير موضوعي، أو على الأقل المساعدة
لحظة التنفيذ في التعبيرات أو شكل التعامل مع ما هو محظور الخوض فيه إذا
كان سيسبب ضررًا محددًا أو غيره.
معاطى طالب المنتجين بإعطاء الأفلام شيئًا من المصداقية من خلال
معايير تخدم العمل، ولا مانع من تناول قضايا أو شخصيات ولكن علينا مراعاة
كثير من الجوانب عند التناول، وهي عدم المساس بتلك القضايا أو الشخصيات
ودورها الأساسي بالإساءة إليها أو السخرية منها وعدم استغلال أي ظروف طارئة
لخدمة أغراض لا تخدم الهدف.
رقابة موظفين
وحول مساحة الحرية المتاحة مقارنة بفترات سابقة، رأى المخرج علي عبد
الخالق أنها الآن أعلى من فترة الستينيات بكثير، وقال: كنا لا نستطيع
الاقتراب من موضوعات معينة ولكن الآن انتهى هذا الموضوع، وعلينا أن نعترف
بذلك أولاً، وعلينا أن ندرك أن الصحافة تتمتع بحرية أكبر ويمكنها توجيه
النقد لأي جهة أو أي مسؤول، لافتا إلى أن هناك مَنْ عمل على المقارنة بين
حرية السينما وحرية الصحافة، وهذه مقارنة صعبة لأسباب كثيرة، فمثلا إذا
نظرنا للتلفزيون سنجد مساحة الحرية فيه أقل من السينما فهو مقيد جدًا، حيث
تتعرض المسلسلات للحذف وأحيانًا يكون الحذف مبالغًا فيه، وفي الوقت نفسه
نجد أن برامج التوك شو في التلفزيون أكثر حرية من الدراما التلفزيونية
والبرامج الأخرى.
ولكن، والكلام لعبد الخالق، لم تعد المشكلة هي الرقابة وإنما في
الجهات الأخرى التي لا تبدي رأيها في العمل في إطار لجنة الرقابة بل يحوَّل
إليها سيناريو الفيلم ويبقى طويلاً للرد أو لا يأتي الرد مطلقًا إلا بعد
جهود كبيرة، وغالبًا ما يكون الرد هو المنع، وقال إن الرقابة عندما ترسل
هذه السيناريوهات إلى جهات مثل الأزهر أو الشرطة أو الكنيسة تحاول أن
تتجاوز أي مشاكل أو مسؤوليات تعلق على رقبتها، وهذا انعكس بشكل مباشر على
حرية المبدع نفسه. عبد الخالق طالب في هذا الصدد بأن تعطي السينما حرية
أكبر في التناول بعيدًا عن رقابة الموظفين في تلك الجهات التي ترسل إليها
السيناريوهات وهم لا يعرفون أن حذف مشهد مهم يمكن أن يلغي فكرة كاملة.
البيان الإماراتية في
06/11/2009
قضية شائكة يتضرر منها كل الأطراف
الأفلام .. سندان المنتجين ومطرقة المرجعيات السيادية
والدينية
القاهرة ـ دار الإعلام العربية
رغم الخلاف الحاد والجدل المستمر حول دور الرقابة على الأفلام، اتهم
الناقد عصام زكريا بعض الكتاب والمنتجين بأنهم يحاولون إثارة بطولات بإقحام
قضايا حساسة وشخصيات سيادية في أعمالهم، إما بغرض استجلاب الجمهور أو
استعراض العضلات لتصفية حسابات مع أصحاب شعارات ظلوا يرفعونها في الشارع
بلا هدف أو معنى.
وأضاف عصام: هذا لا يعني أنني أوافق على رقابة متعسفة، ولكن أسأل نفسي
دائمًا: هل يا ترى هؤلاء المنتجون أو الكتاب بخبراتهم الطويلة مع الرقابة
ووعيهم العالي جدًا في صناعة السينما لا يعرفون المناطق الشائكة التي يفترض
الحرص في التعامل معها، خاصة أن ما ترفضه الرقابة في أكثر الأحيان يمس
شخصيات بشكل مباشر، ويسخر منهم الكاتب على حساب كرامتهم ودورهم ، ولذلك ليس
هناك مانع في أن نختلف، ولكن علينا أن نضع أدب الاختلاف نصب أعيننا، وأن
ندرك أن هناك قضايا نتناولها يمكن أن تعمّق الخلاف في مسائل تتعلق بوحدتنا
الوطنية أو تسيء لمؤسسات نعتز بها وتمثل رمزًا لعزتنا، لذلك تجد أن البعض
يتناولها من وجهة نظره أو من خلال مواقفه السياسية، بينما يفترض أن تكون
هناك مراعاة في التناول من خلال نقد جاد وهادف يحفظ حقوق هذه الشخصيات
والمؤسسات وإبراز دورها الإيجابي أيضًا والتأكيد عليه وهذا يمكن تحقيقه.
وفي الوقت ذاته وجه الناقد الفني انتقادات للرقابة لتعسفها في بعض
الأحيان كرد فعل لأعمال سابقة كانت قد وصلتهم وعانوا في معالجتها وأحيانا
يحكمهم المزاج أو المحاباة لآخرين، وقال إن الرقابة تضم كفاءات لها خبراتها
في المجال السينمائي كان من الممكن أن يكون لها دور كبير في خلق مساحة
عريضة من الثقة والاطمئنان بينها وبين الجهات المنتجة.. لكن الواقع الراهن
يفرضه الاعتماد الكامل على رأي موظفين في جهات أخرى دون تعريفهم ببواطن
الأمور الفنية وإبداء ملاحظات تساعد هؤلاء في اتخاذ قرار مناسب. أما الكاتب
طارق عبد الجليل فيؤكد أنه لا توجد أي معايير ثابتة يتم من خلالها التعامل
مع ما يعرض على الرقابة، واتهم الرقابة بالمحاباة في تقييمها للموضوعات
المطروحة أمامها. وقال إن ما تعرض له فيلم «نمس بوند» في جزأيه الأول
والثاني يؤكد ذلك رغم أن الفيلم لا يتعرض لضابط الشرطة بأي إساءة، ووصف
الرقابة بأنها أصبحت ضعيفة أمام الجهات السيادية خاصة الشرطة والجيش.
وقال إن قوانين الرقابة لم تتغير منذ إنشائها قبل عشرات السنين، بينما
تتغير الحياة، ومصر تشهد اليوم مساحة عالية من الحرية وكان يجب أن تكون
القوانين مواكبة لهذه التحولات التي يفترض أن تجيء لصالح الإبداع والإنسان
عامة. وأشار عبد الجليل إلى أن تحويل السيناريوهات إلى جهات أخرى مثل
الشرطة والجيش والأزهر والرئاسة والكنيسة وغيرها لتكون الكلمة الأخيرة لها
في تمرير عمل أو رفضه أمر خطير بكل المقاييس، ولفت إلى أن خروج هذه الأعمال
من تلك الجهات يحتاج إلى علاقات واسعة، وهذا لا يستطيعه الكثيرون. إلى ذلك
رأى الناقد رفيق الصبان إن الرقابة مثل «الفلتر» ليخرج العمل للجمهور بشكل
جيد، وقال: لا أعتقد أن للرقابة مصلحة في تعطيل عمل بعينه، ولكن في بعض
الأحيان تصطدم بمواقف ومشاهد تمس جهات بعينها خاصة الرئاسة أو جهات سيادية
أخرى، وفي هذه الحالة تجد الرقابة نفسها في مشكلة ولا يمكنها أن تمرر
الموضوع لأنها هي التي ستتحمل المسئولية كاملة في المقام الأول، وإذا لم
توقفه فسيوقف العمل بطرق أخرى، ولذلك فإن اللوم كله على الرقابة أمر فيه
ظلم لها؛ لأن القوانين والنظم التي تحكم عمل الرقابة هي التي تحدد مسارها
وهذه مسائل تتعلق بالتشريع.
غير أن الصبان عاد وقال: أنا لا أعفي الرقابة من بعض الأخطاء ولكني
أعتقد أن إحالة سيناريو لجهة أخرى رغم صعوبة المسألة أمر أصبح واقعًا، خاصة
أننا في عصر تتشابك فيه الأمور بين الداخل والخارج، وهناك ما يمس الأمن
الداخلي وأحيانًا يمس علاقاتنا السياسية والاجتماعية، فعندما ترى الرقابة
أنه بالإمكان التدخل لحل المشكلة من خلال معالجتها تجد نفسها في حيرة إذا
ما كانت الجهات الأخرى ستقبل بهذه المعالجة أم لا، وفي هذه الحالة تفضل
إلقاء المسألة بكاملها في سلة تلك الجهات لتخلي مسؤوليتها.
الصبان يرى هنا أن الحل في تعديل قوانين الرقابة وفرض رقابة ذاتية من
جانب المهتمين على أعمالهم بالعمل على الابتعاد عن الإثارة التي لا تخدم
العمل، خاصة أن هناك أعمالاً تتضمن مشاهد هامشية فيها كثير من التجني
والسخرية على الآخرين مثلما حدث في فيلم «لحم رخيص»، عندما تعرض لبعض
سفارات دول أفريقية وصوّرت واجهاتها، وعادوا بعد بداية عرض الفيلم وحذفوا
تلك المشاهد نتيجة شكاوى من هذه السفارات.
وأكد رفضه للتعسف في الرقابة، وقال: لابد من لقاءات مباشرة بين
المنتجين والمخرجين وكبار الفنانين والمسؤولين في الوزارات المعنية
والرقابة لبحث هذه القضية، فهي بالفعل قضية شائكة جدًا، يتضرر منها كل
الأطراف إذا لم تكن هناك معايير ثابتة وواضحة يتم على أساسها الكتابة
والإخراج لأعمال سينمائية يمكن أن تخدم الهدف.
البيان الإماراتية في
06/11/2009 |