شكّل «أمريكا»، الفيلم
الروائي الطويل الأول للمخرجة الفلسطينية الأميركية شيرين دعيبس، مناسبة
لطرح
سؤالين اثنين: علاقة المُشاهد بفيلم مرتبط ببيئته الاجتماعية والثقافية
والحياتية؛
وتنامي ظاهرة متواضعة شهدتها، مؤخّراً، السينما الفلسطينية تحديداً، مرتبطة
بتقديم
ثلاث مخرجات فلسطينيات أفلامهنّ الروائية الطويلة الأولى، في
فترة زمنية قصيرة.
تناقضات
باختصار شديد، بات الأمر واضحاً: علاقة المُشاهد الفرنسي بفيلم
فرنسي مختلفة تماماً عن مُشاهدة عربي، مثلاً، فيلماً فرنسياً. للأول نظرة
وملاحظات
مختلفة ونظرة الثاني وملاحظاته، تصل إلى التناقض أحياناً.
حساسية الأول إزاء معطيات
وجماليات متعلّقة بحيّز جغرافي وامتداداته المختلفة، لا تشبه أبداً حساسية
الثاني
إزاء المعطيات والجماليات نفسها. هذا أمر طبيعي جداً، وإن لم يتدخّل في
الجانب
السينمائي البحت. التعليق عليه نابعٌ من ظهور تناقض واضح بين مشاهدين عرب
وفلسطينيين لفيلمين فلسطينيين: «الزمن الباقي» لإيليا سليمان
و«أمريكا». لا تعميم.
لكن الغالبية الفلسطينية «انزعجت» من «الزمن الباقي» وأبدت ارتياحاً ما
ازاء «أمريكا». بعضهم قال إن الجانب الصدامي في
«المرّ والرمان» لنجوى النجّار مثلاً
(إحدى
المخرجات الفلسطينيات الثلاث) أثار سجالاً في فلسطين، على مستوى العلاقات
الاجتماعية والانفعالية، لأن مشاهدين كثيرين «صُدموا» بجرأة المخرجة في
تصويرها
علاقة حب بين زوجة مناضل أسير ومدرّب رقص. مشاهدون عرب رأوا في
«الزمن الباقي» تحفة
سينمائية. انبهروا به. اعتبروه امتداداً لنبض جمالي رفيع المستوى، اشتغله
سليمان في
فيلميه السابقين «سجل اختفاء» و«يد إلهية». لكن فلسطينيين عديدين لم يأنسوا
إليه.
هناك من وجد في «أمريكا» قراءة سوسيولوجية مهمّة للعلاقة الصدامية بين
الغرب
والشرق. للحالة الفلسطينية في «أرض الأحلام» (الولايات المتحدّة
الأميركية). في حين
أن بعض المشاهدين غير الفلسطينيين منزعجون منه، سينمائياً وثقافياً وطرحاً
درامياً.
لا أخترع قضية، لنقاش غير مبرّر. أقول هذا لأن سجالاً حدث إثر مشاهدة
«الزمن
الباقي» و«أمريكا». الفيلم الأخير هذا هو الأول لشيرين دعيبس. انضمت
المخرجة إلى آن
ماري جاسر (ملح هذا البحر) ونجوى النجّار. المخرجات الثلاث منجذبات إلى
السينما،
بحثاً عن لغة قول وتعبير. جاسر ودعيبس مقيمتان في الولايات
المتحدّة الأميركية.
هناك تأثير غربي عليهما، مرتبط بكيفية التعامل مع الموضوع الفلسطيني/
العربي. بدت
هذه الكيفية خاضعة، بشكل أو بآخر، للنظرة الغربية. لم تنجٌ النجّار من هذا.
يُمكن
لمُشاهد «المرّ والرمان» تلمّس هذه النظرة المواربة في طيات
السياق الدرامي. لا
أرغب في اتهامات تشي بالتحليل السياسي والإيديولوجيا والتعاطي مع المسائل
الإنسانية
والأخلاقية، على حساب الجانب السينمائي، وهو الأهمّ. غير أن النظرة الغربية
للبيئة
الفلسطينية/ العربية واضحة. باتت أوضح، بسبب سقوط الجانب
السينمائي في شيء من
التسطيح، أو بالأحرى في معالجة عادية للغاية. جمالية «المرّ والرمّان»
كامنةٌ في
اختراق المخرجة أحد المحرّمات الخاصّة بثقافة المقاومة وسلوك المجتمع
الفلسطيني.
أساساً، هناك نقمة ونبذ لامرأة متزوّجة من دون حبّ أو شغف أو رغبة في الزوج
المختار
لها، إذا مالت إلى علاقة رومانسية متلائمة وانفعالها مع رجل آخر قبلته، في
بيئة
واقعة في قبضة ذكورية طاحنة. فكيف إذا كانت المرأة هذه زوجة
مناضل اعتقلته إسرائيل
بسبب نضاله ضدها؟ جمالية «ملح هذا البحر» واضحة في إصرار العائدة من الغربة
على
استعادة حقّ ضاع قبل سنين طويلة. الترجمة السينمائية تبسيطية، كحالة الفيلم
السابق.
متابعة التفاصيل اليومية للمرأة العائدة
وعلاقتها بشابين بدت منقوصة ومسطّحة. يُمكن
القول إن العنوان الأصلي في «أمريكا» مهمّ (صدام الشرق
الفلسطيني بالغرب الأميركي،
اجتماعياً وثقافياً). لكن المأزق سينمائيٌ. النية قد تكون سليمة وإنسانية.
لكن
الاشتغال الإبداعي محتاج إلى تأهيل في النصّ والاشتغال الحرفي. إنه الفيلم
الأول.
هذا صحيح. والفيلم الأول يحتمل الخطأ الجمالي. هذا صحيح أيضاً. لكن، لا
التغاضي عن
المضمون إذا لم يبلغ مستوى جمالياً، وإن متواضعاً على الأقلّ؛ ولا تتخلّى
عن قناعة
مفادها أن الحركة السينمائية في فلسطين وخارجها باتت أقرب إلى فعل تأسيسي
جديد
لسينما مختلفة.
مشاكل
مشكلة «أمريكا» متعدّدة الجوانب. السيناريو محتاج إلى
تكثيف درامي. إدارة الممثلين غير موفّقة. الاكتفاء بالقول إن «صدام
الحضارات» قائمٌ
بين الفلسطينيين والأميركيين بسبب جريمة الحادي عشر من أيلول فقط، أمر مناف
للواقع.
الإشارة إلى أن الشخصية الأميركية
الإيجابية الوحيدة هي ليهودي نجا من المحرقة،
تأكيدٌ على نظرة غربية، أو رغبة في إرضاء النظام الإنتاجي
الأميركي. لا مشكلة لديّ
في هذا الأمر. يهود ناجون من المحرقة باتوا إنسانيين، مسألة لا نقاش فيها.
لكن وضع
شخصية يهودية كهذه في سياق المواجهة الحادّة بين طرفي النزاع، وتناولها
بصفتها
أميركية إيجابية وسط أميركيين متنوّعين وسلبيين، في مقابل
تعميم طال هذين الطرفين
(الفلسطينيون
ضحايا والأميركيون جلاّدون)، مسألة مثيرة للانتباه والسجال. لكن، إذا
تمّ تجاوز التركيز على التعاطف الوحيد، الذي تلقّته العائلة الفلسطينية
المهاجرة
إلى إيلنوي من قبل هذا اليهودي البولوني الأميركي، فإن
«أمريكا» لم يبلغ مرتبة
درامية مهمّة، ولم يصنع من الصراع الفلسطيني الغربي (الأميركي هذه المرّة)
عنواناً
إنسانياً قادراً على فرض حضوره، سينمائياً على الأقلّ. هناك ضعف في حواراته
الساذجة
والمباشرة أحياناً عدّة. هناك تركيبة درامية غير متماسكة. مع
أن إحدى الميزات
القليلة للفيلم، كامنةٌ في سرد المخرجة سِيَر أفراد، بعيداً عن إيديولوجية
الخطاب
الجماعي. هذا أمر مهمّ. لا أعرف إلى أي مدى استلّت شيرين دعيبس مادتها
الدرامية من
سيرتها الشخصية، أو من سيرة عائلتها، أو من سِيَر أناس قريبين
منها. هذا أمر مهم
وجميل، درامياً وإنسانياً. التجارب الشخصية مهمّة وضرورة سردية، إذا تمّ
التعامل
معها بمنطق إبداعي سليم. ما فعلته شيرين دعيبس، هنا، منضمّ إلى سلسلة أفلام
فلسطينية وعربية قليلة تتعامل مع القيم الإنسانية والأخلاقية
والثقافية للأفراد،
بعيداً عن ضجيج النضال والجماعة والخطابات الجوفاء. لذا، في مقابل سقوط
الحوارات في
شيء من المباشرة والخطابية، فَقَد الفيلم بعض جمالياته.
عندما بلغتها الموافقة
على السفر إلى الولايات المتّحدة الأميركية، كادت منى (نسرين فاعور) تتراجع
عن
قرارها الذهاب إلى شقيقتها رغدة (هيام عباس) وعائلتها، لولا بشاعة الممارسة
اليومية
للجنود الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، ولولا سعيها الدؤوب إلى حماية وحيدها
فادي
(ملكار
معلم) من أي سوء قد يتعرّض له في بلده. لكن الواقع الأميركي لا يقلّ قسوة
عما يعانيه الفلسطينيون في بلدهم المحتلّ بسبب الممارسات العنيفة
للإسرائيليين، لأن
مناخاً مناهضاً للعرب والمسلمين يخيّم على الغالبية الساحقة من
الأميركيين، ويدفعها
إلى «اضطهاد» هؤلاء.
يُعرض «أمريكا» في صالة سينما «متروبوليس/ أمبير صوفيل» في
الأشرفية.
السفير اللبنانية في
05/11/2009 |