يذكرك فيلم
state of play
الذي أخرجه كيفن
ماكدونالد ، وعرض في
الصالات المصرية تحت عنوان اللعبة السياسية بأفلام
المخرج المعروف
كوستاجاڤراس التي تجمع بين الحبكة البوليسية والتشويقية والابعاد السياسية
الأكثر عمقاً،
ولولا مفاجأة النهاية الأخيرة التي أعادتنا إلي المربع
الضيق بعد أن خرجنا إلي المساحة
الأوسع لكان فيلم اللعبة السياسية«
المأخوذ
عن مسلسل تليفزيوني من تأليف
بول آبوت عملاً نموذجياً في إطار تلك
النوعية التي تفجر قضايا مهمة، ولا تتنازل عن التشويق والامتاع.
في
أفلام شهيرة ومعروفة اخرجها
كوستا جارڤاس ترسخ هذا الشكل المختلف بحيث
تبدأ الأحداث بجريمة محددة لينتهي الفيلم كأن وراءها جرائم أخطر وأكبر تتعلق
بأمن وسلامة المجتمع بأكمله، في فيلم
زد
مثلاً كان مقتل رجل المعارضة
اليوناني العائد إلي وطنه
منطلقاً
لإدانة فكرة الأنظمة والعسكرية
الديكتاتورية، وفي فيلم مفقود الذي قام ببطولته جاك ليمون
وسيسي سبايسك كانت قضية فقدان صحفي أمريكي في شيلي بداية لفضح الدور
الأمريكي السياسي والمخابراتي في الانقلاب الذي أطاح
بنظام سلفادور الليندي
وفيلم اللعبة السياسية يبدأ بجريمة قتل لأفراد أو
شخصيات يتابع التحقيق
فيها صحفي نشيط هو كال ما كافري الذي يلعبه ببراعة راسيل كرو ولكن
قضية الفيلم الأوسع هي الدور الذي تلعبه أجهزة الأمن الخاصة
في أمريكا التي
كونت شركات ضخمة،
وجيوشاً مسلحة بالمعدات الثقيلة ليتم
ارسالها إلي العراق وافغانستان،
والاسقاط في الفيلم
واضح جداً علي شركة
بلاك ووتر وما ارتكبته من جرائم في العراق ضد المدنيين، ولكن الجديد
هو التحذير من تغلغل هذه الشركات والجيوش الخاصة
إلي داخل أمريكا حيث يمكن أن
يسند إليها مستقبلاً مهمة خصخصة الأمن القومي بأكمله بحيث تدير
شركة قطاع خاص جهاز المخابرات مثلاً،
وتأتي ضمن السياق معلومات
عن اسناد مهمة تدريب الشرطة
لشركة خاصة،
والدفع بعناصر من هذه الشركات، وهم
من العسكريين المتقاعدين
- بعد كوارث قومية أو حوادث ارهابية.
هذه هي قضية
الفيلم الأساسية
التي تتكشف ملامحها تدريجياً كلما توغل كال
ماكافري
وزميلاه
ديلا فراي من صحيفة جلوب لكشف غموض مصرع
شابين في أحد الشوارع، وسط شواهد عن تورطهما في تجارة المخدرات،
ثم مصرع فتاة
تدعي سونيا بيكر علي شريط مترو الأنفاق، وتكون هذه الفتاة المساعدة الأساسية
لعضو الكونجرس ستيفين
كولينز الذي يلعبه بحضور واضح بن
افليك، ويتولي
هذا العضو التحقيق في مخالفات هذه الشركات التي تحولت إلي جيوش،
وتتعامل في
صفقات بملايين الدولارات.
السيناريو الذي اشترك في كتابته ثلاثة يبني
بدأب وبذكاء شبكة واسعة من العلاقات تبدأ من دائرة صغيرة
هي جرائم القتل
لتكشف لنا تدريجياً عن قضايا أكبر حيث يختلط البيزنس بالسياسة،
وحيث تكتسب
شركة الأمن الكبري التي تحمل في الفيلم اسم بوينتكور
شرعية عابرة للقارات
وداخل أمريكا. بحيث تخترق لجنة التحقيق معها،
وتوجد
في الفيلم أيضاً
اشارات واضحة إلي اختراقها لأجهزة
الميديا
من خلال التأثير علي عملية نشر
الحقائق التي يتم التوصل إليها،
وافضل ما نجح فيه السيناريو النموذجي باستثناء
مفاجأة النهاية - إنه قدم شخصيات من لحم ودم،
هناك
حيوية
حقيقية
في رسم شخصية الصحفي كال ورئيسته كاميرون (هيلين ميرين) والصحفية
الشابة ديلا التي تكتشف قدراتها وهي تكتشف أبعاد الجريمة، ونجح السيناريو
أيضًا في رسم شخصية عضو الكونجرس الشاب
ستيڤن كولينز بنزواته وعلاقاته مع
مساعدته سونيا بيكر، وأزمته الخاصة مع زوجته
آني
التي تسانده فقط أمام
عدسات المصورين، وعلاقته المركبة والمعقدة مع صديق دراسته كال
الذي ارتبط في فترة سابقة بعلاقة جنسية مع الزوجة
آني ، وهناك سلاسة كاملة
في الانتقال من كواليس الصحيفة التي تذكرك بما شاهدناه في فيلم مثل كل رجال
الرئيس إلي كواليس لجنة الاستماع في الكونجرس لنكتشف تدريجيًا تورط عضو آخر
في
الكونجرس هو چورچ فيرجيس
في التعامل مع بوينتكور التي تحاول الحصول علي
عقود داخل أمريكا تصل قيمتها إلي
40 مليار دولار، لا توجد لقطة واحدة يمكن
حذفها، فكل التفصيلات لها أهميتها، والخيوط الضعيفة
- مثل الأفلام الجيدة -
تجمع لتصنع خطًا بوليسيًا قويًا،
والشخصيات تتصرف وفق طبيعتها لتمتزج الدوافع
الشخصية بالطموحات المهنية كال
مثلاً
يريد أن يساند صديقه عضو الكونجرس
كولينز ولكنه يريد انفرادًا صحفيًا مميزًا،
وكولينز يريد الكشف عن
مخالفات بوينتكور ولكنه يريد - أو ينجح في الادعاء -
بأنه يريد أن
يعرف من قتل مساعدته وعشيقته،
وينجح المخرج كيڤن ماكدونالد في تحويل هذا
البناء إلي شريط طويل مليء بالتوتر والترقب، كاميرا مهتزة طوال الوقت،
وزوايا
غير تقليدية تعطيك انطباعًا طوال الوقت أنها تتلصَّص علي الشخصيات من خارج
النوافذ.
هنا نفس الطابع التسجيلي الذي أراده ماكدونالد في فيلمه
آخر ملوك اسكتلندا،
هنا أيضًا مونتاج شديد الحيوية
يختزل التفاصيل،
ويمنحك
شعورًا ضاغطًا بالزمن، وإحساسًا حقيقيًا بالوحشة تضاعف من تأثيره الموسيقي
والتلاعب بمساحات الظل والنور علي الوجوه،
التي تصل إلي إظلام الجسد تمامًا في
بعض مشاهد الشوارع الليليَّة،
باختصار..
نحن أمام مخرج يفهم طبيعة
أفلام التحقيقات والجرائم الغامضة،
ولكنه
يدرك كذلك أنه يقدم ما هو أبعد من
فكرة لعبة اللغز والحل لأنه
يرسم خريطة واسعة لها أساس من الواقع تحذر من هذه
الجيوش الخاصة القادمة.
سونيا بيكر هي الفتاة التي نجحت من خلال
بوينتكور
من اختراق لجنة
الكونجرس التي تفحص أنشطتها والتلاعب في عقودها، استغلوا وقوعها في الديون وطلبوا
منها الدخول إلي عالم ستيڤن كولينز، ولكنها تورطت معه في علاقة حب وحملت
منه، وخوفًا من هذا التحوّل، وبسبب امتناعها عن التعاون
يتم التخلص منها،
هذه هي النهاية الكافية تمامًا التي كانت جديرة بأن يكون الفيلم قطعة نموذجية في
إطار نوعه، ولكن الاستمرار في اللعب
أعجب صنّاع الحكاية فجعلوا
ستيڤن
كولينز هو المحرض علي قتل مساعدته بعد أن اكتشف خداعها له،
وجعل
القاتل وراء كل هذه الجرائم شاب باهت الملامح حارب مع السيناتور في الكويت،
وحفظ
له الجميل بإنقاذ حياته، وهكذا أعادنا كتاب السيناريو من الدائرة الواسعة
إلي
دائرة الانتقام الشخصي الضيقة،
ربما أرادوا الانحياز نهائيًا إلي الصحافة اليقظة
وإلي كال ماكافري
الصحفي الماهر بعد أن كان
ينازعه طوال الوقت عضو الكونجرس
عدو الفساد، ولكنهم لم يتنبهوا إلي أن لعبة الألغاز تكون في هذه الأفلام في
خدمة المغزي السياسي وتنتهي بالكشف عنه،
وما فعلوه يشبه
إذا أردت
التبسيط - أن تُغني أغنية للأطفال ثم تنتقل منها لغناء الأطلال
ثم تعود فجأة
لتغني من جديد ماما زمانها جايَّة
مجلة روز اليوسف في
20/08/2009 |