أصدر مركز الفنون في مكتبة الإسكندرية ضمن سلسلة دراسات سينمائية كتاب
«نجيب
محفوظ في السينما المكسيكية» للدكتور حسن عطية. ومنذ البداية
يمكن القول إن ثمة
بدايات كثيرة يمكن الانطلاق منها لدراسة عالم نجيب محفوظ الروائي وتجلياته
على
الشاشة الفضية، كمدخل للنظر في التجربة الفريدة في نقل روايتين من رواياته
الى
سينما غير مصرية. والمدهش ألا تكون تلك السينما سينما عربية،
حيث لم يفكر فارس من
فرسانها المبدعين في نقل أو استلهام رواية أو قصة واحدة من أعمال كاتبنا
الكبير،
على رغم انتشار تلك الأعمال المتكررة طباعتها بين القراء العرب، وتأسيس
وجود صاحبها
كعميد للرواية العربية ذاتها كفن وصناعة في كثير من بلدان العالم العربي.
وعلى رغم
أن هذه السينما العربية عرفت شاشاتها معالجات متعددة لأعمال
روائية وقصصية لكتّاب
مصريين آخرين بقامة نجيب محفوظ أو أقل منه، مثل توفيق الحكيم الذي قدمت
قصته «يوميات نائب في الأرياف» في السينما
العراقية باسم «وردة» عام 1975 من إخراج يحيى
فائق. كما قدمت السينما ذاتها فيلم «القادسية» عام 1981، عن
قصة للكاتب علي أحمد
باكثير، من إخراج أكثر المخرجين اتصالاً بعالم نجيب محفوظ، وهو صلاح أبو
سيف، وفيلم «مطاوع وبهية» عام 1982، عن قصة سعيد
الكفرواي وإخراج صاحب حداد. وقدمت السينما
السورية فيلم «امرأة في الهاوية» عن قصة لنوال السعداوي عام
1990 من إخراج نبيل
شميس، وفيلم «حادث النصف متر» عام 1981 عن قصة للروائي موسى صبري ومن إخراج
سمير
ذكرى، وفيلم «حتى الرجل الأخير» عن مسرحية علي سالم المعروفة «أغنية على
الممر» من
إخراج أمين البني، وفيلم «لعبة الحب والقتل» عام 1983 عن قصة
«القتلة» للكاتب محمود
دياب وإخراج محمد شاهين، إلى جانب روايات وقصص عربية أخرى انتقلت من
بلدانها الى
شاشات بلدان أخرى مثل قصة «عرس الزين» للسوداني الطيب الصالح التي قدمتها
السينما
الكويتية بالاسم نفسه من إخراج خالد الصديق، وقصة «رجال تحت
الشمس» للفلسطيني غسان
كنفاني التي قدمتها السينما السورية باسم «المخدوعون» عام 1971 من إخراج
المصري
توفيق صالح، والتي قدمت له أيضاً قصته «ما تبقى لكم» في فيلم بعنوان
«السكين» عام
1971، من إخراج خالد حمادة.
ومع ذلك لم تفكر السينما العربية في تقديم عمل من أعمال كاتبنا الكبير نجيب
محفوظ مكتفية بتقديم السينما المصرية لتلك الأعمال القصصية
والروائية. ويذكر المؤلف
أن المفاجأة كانت كبيرة حين شاهد فيلماً مكسيكياً عن واحدة من أشهر روايات
كاتبنا
الكبير، «بداية ونهاية» للمنتج والمخرج أرتورو ريبيستين أحد أبرز فرسان
السينما
المكسيكية المعاصرين، وأشهر تلامذة لويس بونيويل خلال فترة
إقامته وإبداعه
السينمائي في المكسيك في الخمسينات من القرن الماضي. ولا يقف الأمر عند
مجرد عرض
فيلم مكسيكي في مهرجان أوروبي في اسبانيا يستلهم رواية كاتبنا المصري
الكبير، بل
حصل هذا الفيلم على الصدفة الذهبية كأفضل فيلم عرض في المهرجان
في تلك الدورة، ولم
يقف التقدير هنا بل غزا الفيلم مهرجانات كبرى في العالم، من كان إلى برلين
وميونيخ
وتورنتو ولندن حتى نانت وكوبا والمكسيك، خلال عامي 1993 و 1994.
49
جائزة في عامين
ثم جاء العام التالي لتقدم شركة أفلام «ألاميدا» التي يمتلكها «ريبيستين»
فيلماً
من إخراج «خورخى فونس» عن رواية أخرى للأديب المصري العالمي
صاحب جائزة نوبل وهي «زقاق
المدق». وقد دُعي الفيلم إلى أكثر من أربعين مهرجاناً دولياً ومحلياً
محققاً
سبقاً متميزاً في تاريخ السينما المكسيكية، إذ حاز الفيلم اهتماماً عالياً
كما نال
أكثر الجوائز التي حصل عليها فيلم مكسيكي من قبل فوصل بها إلى
49 جائزة خلال عامي 1994و1995
حيث حصل من لجان تحكيم المهرجانات على جوائز الأفضل على مستوى الفيلم
والإخراج والسيناريو والتصوير والمونتاج والتأليف الموسيقي والأزياء
والماكياج
والممثلين، إلى جانب جوائز النقاد والجمهور كأكثر الأفلام
مشاهدة. ودخل عام 1995 في
أكثر من دولة من دول أميركا اللاتينية.
ويتناول الفصل الأول من كتاب حسن عطية رؤية نجيب محفوظ للعالم على مدى تطور
فكره
وإبداعه واحتكاكه بالعالم الذي يعيشه، عبر رحلته الطويلة منذ
مولده
يوم الإثنين 11
كانون الأول (ديسمبر) عام 1911 حتى يومنا هذا، غير أن الأساس لهذه الرؤية
المتكاملة
للعالم قد صيغ مع بدايات نمو وعيه بالعالم المحيط به انطلاقاً من بيت أبيه
الذي ولد
فيه في ميدان «بيت القاضي» في حي الجمالية ثم انتقاله وهو في
التاسعة من عمره مع
أسرته للسكن في بيت ذي كهرباء في حي العباسية عام1920، ومع ذلك فقد ظل الحي
الشعبي
ذو العبق الصوفي الأصيل ساكناً وجدانه.
ثم ينتقل بنا الكاتب إلى الفصل الثاني الذي يتحدث فيه عن رواية «بداية
ونهاية»
قبل الانتقال الى الأعمال الأخرى.
ويتحدث الكاتب عن العوامل التي أثرت في الرواية المحفوظية وأهمها عاملا
الزمان
والمكان، فيقول الكاتب عن حضور الزمان إنه معاد صوغه من منظور
الروائي ومعاد بناؤه
داخل نسيج الرواية، فهو حاضر داخلها يمثله من خلال أحداثها وشخصياتها وهو
ما يفرق
بين الوقائع التاريخية في سياقها (الواقعي) عند المؤرخ، وتلك الوقائع
التاريخية
نفسها عندما تدخل في سياق روائي. فلا تستهدف ذاتها بقدر ما
تحضر لتلعب دوراً فكرياً
محدداً داخل البناء الروائي، وهو ما يفسر على ما يبدو خللاً بنائياً ما
أصاب
الرواية لسبب غير معروف، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإطارها الزمني، حيث إن
الوقائع
التاريخية الحقيقية المذكورة خلال الرواية تدور خلال عام واحد،
بينما يشار دوماً
الى جريان تلك الوقائع داخل الرواية خلال عامين.
وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى حضور المكان، فيقول إن المكان في الرواية أيضاً
معلق
في الفراغ أو هو مساحة جغرافية تجرى داخلها وقائع الأحداث
وإنما هو حاضر في علاقة
عضوية ذات بعد جدلي من الشخصيات والوقائع وزمانها داخل البناء الروائي، إذ
ينغلق
على شخصياته فيصنعون داخله عالمهم الخاص ويحددون وجودهم في سلّم القيم داخل
هذا
العالم من دون أي مقارنة مع عالم أكبر لا يعرفون عنه شيئاً،
فأسرة كامل أفندي عاشت
طوال حياتها الأولى في الدور الثاني في بيت صغير غير متميز بين البيوت
القديمة في
عطفة نصر الله المتفرعة من شارع شبرا الرئيس، ذلك الشارع الذي كان بعد
جديداً
ومتميزاً.
وبينما كان نجيب محفوظ يهتم في روايته بالمحافظة على الكيان الأسري كاشفاً
عن أن
الخلل الذي يصيب هذا الكيان الصغير الممثل للكيان المجتمعي
الأكبر ينبع أساساً من
الرغبة الجامحة للصعود الفردي، مما يدمر البيان بأكمله، نجد أن الفيلم
المكسيكي
يحرص على السخرية من هذا التمسك البرجوازي الأجوف بمفهوم العائلة المقدسة
والكيان
الأسري المتماسك في شكل مظهري. وتتجلى هذه المفارقة الدرامية
روائياً في السعي
المضني للمحافظة على تماسك الأسرة، ونتيجة هذا السعي الزائد تنقلب عليه بل
تؤدي إلى
تفكك الأسرة وانهيارها، وعبقرية الرواية تكمن في أن بنيتها الروائية تعبّر
في ذاتها
عن هذا المحتوى الدرامي حيث تتحرك الشخصيات داخل كون روائي
يبدو للوهلة الأولى أنه
متماسك وأنهم جميعاً يتحركون في انتظام داخله بينما يكشف التحليل الدقيق عن
تباعد
حركة الشخصيات ومصائرها وانغلاقها على ذاتها.
ثم يتناول الكاتب الرواية الأخرى لنجيب محفوظ وهي «زقاق المدق» فيبدأ بعرض
بنائها الروائي، فيقول: «يصعب فصل البنية المكانية الحاضرة
بقوة في هذا البناء
الكاتدرائي للرواية المحفوظية حتى ولو من باب الفصل الدراسي من دون أن نخل
بالمدلول
الكلي لهذا البناء. غير أنه ليس أمامنا غير الفصل والتقطيع الفني لدراسة
الحركة
الداخلية الكامنة في أعماق هذا البناء الفسيفسائي العبقري
وروحه الخاصة من دون أن
نجور لحظة على عبقريته. فالزقاق الذي يصفه لنا الراوي مع الأسطر الأولى
للرواية
وبعد التحديد السريع لموقعه الجغرافي المحدد المسار في حي الجمالية القديم،
يقول
عنه إنه يكاد يعيش في شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا،
إلا أنه على رغم ذلك
يضج بحياته الخاصة، حياة تتصل في أعماقها بجذور الحياة الشاملة وتحتفظ بقدر
من
أسرار العالم المنطوي ومن ثم يتجلى هذا الزقاق وكأنه كون صغير تتقوقع
مجموعة من
البشر داخله لا لكي تمثل الكون الأكبر أو المجتمع الأشمل وإنما
لتصنع من ذاتها
كوناً بشرياً كلياً ذا اتصال بطبيعة البشر كبشر ولتصنع في الوقت ذاته
مجتمعاً ذا
وجود محدد الأبعاد جغرافياً وتاريخياً».
ويبدأ الكاتب في استعراض حضور الزمان والمكان في الرواية فيبدأ بالزمان،
ليقول:
«تدور
وقائع الرواية في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية بداية من شتاء
الأشهر الأخيرة من عام 1944 وحتى نهاية نيسان (أبريل) عام 1945 مع إعلان
انتحار
أدولف هتلر وبداية المشهد الأخير في الحرب العظمى، فالأيام
تمضي بطيئة ومتثاقلة من
دون مرور سريع للزمن، وخروج «عباس الحلو» للعمل في معسكرات الجيش الإنكليزي
في التل
الكبير وفي غيبته ينقلب حال الحارة ويحدث لها ما لم يحدث طوال وجود عباس
داخلها».
وينتقل إلى المكان فيقول إن الرواية تبدأ باستهلال رائع يحدد مكان الأحداث
فيقول
الراوي من أول سطر في روايته: «تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق
المدق كان من تحف العهود
الغابرة، وأنه تألق يوماً في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري، لكن
الزمن أناخ
بكلكله على هذا الزقاق فتحول الى عالم مصغر للفقر والفساد والقيم الخاصة».
ويذهب بنا الكاتب إلى البناء السينمائي لرواية «زقاق المدق» كما قدمت
مكسيكياً،
فيقول: «التقط كاتب السيناريو الأديب بيثينتي لينييرو من كمّ
الشخصيات الرئيسة
والثانوية الحافل بها الزقاق المحفوظي، مجموعة محددة من الشخصيات يبني بها
فيلمه
بناء سينمائياً متداخل الحكايات، متعدد الزوايا كل حكاية على حدة. فالزقاق
عنده
وعند مخرج الفيلم ليس خاصاً بالحلاق الطيب ومعشوقته الجميلة
الفقيرة، وإنما الزقاق
هو بانوراما كاملة لشخصيات إنسانية تبحث عن الخلاص من واقعها الرتيب.
فالفقر ليس
مدقعاً كما في الرواية المحفوظية ولا هو الباعث الرئيس لحركة الشخصيات
وأفعالها
الحياتية، بل هو ان حياة هذه المجموعة من البشر التي نراها في
الفيلم هي حياة
اقتصادية عادية لا حرمان فيها أو شعور بضغط مكاني يحبس الأفكار والمشاعر
داخله، فهي
تحيا في شارع ضيق نوعاً ما لكنه غير مغلق على ذاته كالزقاق المصري ويبدو
على
امتداده مع أول مشهد في الفيلم مفتوحاً على شوارع واسعة من
ناحية ومتصلاً من
الناحية الأخرى بساحة توصل بدورها الى ميدان وسط المدينة العام وتقع على
أمته (ناصيته) كنيسة».
الحياة اللندنية في
14/08/2009 |