حظيت
السينما المصرية في هذا الموسم الصيفي بعددٍ لا بأس به من الأفلام الجيدة
وإن كنا ما زلنا في إطار «الأفلام الشعبية». ومن هذه الأفلام ما سبق أن
كتبنا عنه
تفصيلاً مثل: «إبراهيم الأبيض» لمروان حامد، «الفرح» لسامح
عبدالعزير، «احكي يا
شهرزاد» ليسري نصر الله. والى جانب هذه المجموعة توجد أفلام أخرى نخص ثلاثة
منها
بالذكر نركز على ما هو جديد فيها وفي كل منها إضافة حقيقية للسينما
المصرية، وهو ما
يبعث الأمل في نفوسنا في أن تسترد السينما المصرية أنفاسها.
«دكان
شحاته»: ما سيحدث في مصر
يتمثل
فيلم «دكان شحاته» - إخراج خالد يوسف وسيناريو ناصر عبدالرحمن - اسلوب
الحكاية الشعبية على نحو ما، ليحرر الأحداث والشخصيات من شروط الفعل
الواقعي،
ويمنحها بعداً رمزياً. والقصة تقارب على نحو ما قصة يوسف
وإخوته الدينية، وإن
اختلفت النهاية. فبينما نجح يوسف في جمع شمل الأسرة في النهاية، فشل شحاته
في تحقيق
ذلك.
وشحاته
(عمرو سعد) هو الابن الأصغر للأب شحاته (محمود حميدة) الذي يفضله على
اخويه سالم (محمد كريم) وطلب (صبري فواز)، ما يثير الضغينة في صدريهما
نحوه. وعندما
يموت الأب يتآمر الأخوان على أخيهما الأصغر ويزجان به في السجن
ليتقاسما معاً ثمن
بيع الدكان الموروث عن الأب. ويتم بيع الدكان بمبلغ ضخم لشخصية مجهولة ضمن
صفقة
شراء الفيلا الملحق بها الدكان، لتتحول الفيلا بعد ذلك الى منزل للسفير
الإسرائيلي.
ويتزوج سالم من خطيبة شحاته بيسة (هيفاء وهبي) رغماً عنها. وعندما يخرج
شحاته من
السجن
يبحث عن أخويه ليجمع الشمل بينه وبينهما. ويصل في ليلة زفاف ابن أحدهما
(طلب)
ويمد إليه يده مصافحاً، لكن سالماً يظنه جاء للانتقام فيطلق عليه الرصاص.
تحمل هذه
النهاية القاتمة نبوءة المخرج لما سيحدث في مصر في المستقبل القريب
ويحدد هذا المستقبل بعام 2013. وهو العام الذي يجري فيه أول مشاهد الفيلم
ونعود
إليه في آخره حيث يصور المخرج «نبوءته» على الطريقة الواقعية
حيث نرى ثورة الجياع
الذين يهجمون على القطار المحمل بأجولة القمح.
والفيلم
إذ يبدأ بمشهد النهاية يعود بنا بعد ذلك الى الخلف تنازلياً في الزمن من
خلال عناوين الصحف التي تحمل اخبار الأحداث الكارثية التي مرت بها مصر مثل:
حريق
مجلس الشورى، وغرق العبّارة، وحريق مسرح بني سويف... إلخ، حتى
يصل الى العام 1981
حيث موجة الاعتقال الكبرى التي أمر بها الرئيس أنور السادات في أيلول
(سبتمبر)
وتلاها اغتياله في تشرين الأول (أكتوبر)، وفي العام نفسه يولد شحاته الذي
نتابع
قصته، وخلال متابعتها نمر ببعض الكوارث التي ورد ذكرها في العناوين. بعض
هذه
الأحداث يدخل ضمن دراما الحدث القصصي مثل عملية تزوير انتخابات
الرئاسة عام 2005
التي يشارك في تزويرها كرم البلطجي (عمرو عبدالجليل) أخو بيسة. وبعضها يأتي
موازياً
للحدث الدرامي من دون أن يكون متفاعلاً معه، كما حدث عند نقل جثمان الأب من
القاهرة
ليدفن في الصعيد فيمر موكب الجنازة بتظاهرات الغضب على كارثة
حريق مسرح بني سويف.
وهكذا
يسير الفيلم في خطين، أحدهما قصصي والآخر إعادة لتسجيل بعض الوقائع، يؤكد
كل
منها رؤية المخرج الكارثية التي ينتهي بها الفيلم على المستوى الرمزي
«القصصي»،
وعلى المستوى الواقعي في محاولة قد تبدو معقدة، ومباشرة أحياناً، لكنها
جديدة على
السينما المصرية وفيها من الطموح في الشكل والجرأة في المضمون
ما يستحق التقدير.
«السفاح»:
سيكولوجية مجرم
«السفاح»
فيلم من نوعية أفلام الجريمة، لكنه ليس مثل أي فيلم منها. ما يحمله من
سمات مميزة، يحفظ له مكانة خاصة بين أفلام هذه النوعية في أفلامنا المصرية/
العربية. فالمجرم في الفيلم ليس على غرار المجرم في «ريا وسكينة» مثلاً أو
في «لك
يوم يا
ظالم»، تحركه دوافع نفسية خاصة به وحده، وليس على غرار المجرم في «جعلوني
مجرماً» الذي تدفعه الى الجريمة ظروف أسرية منحرفة، ثم تلعب الصدفة دورها.
وهو ليس
على غرار مجرم «اللص والكلاب» الذي يدفعه الى الجريمة الشعور
بالفارق الطبقي
والوقوع في متاهة التضليل السياسي. وليس على غرار المجرم في «إبراهيم
الأبيض» الذي
تفرزه البيئة العشوائية في مصر. يعتبر فيلم «السفاح» دراسة نفسية اجتماعية
لتكوين
مجرم مصري معاصر بكل معنى الكلمة. وهو على هذا النحو لا
يكشف عن حالة فردية خاصة
بقدر ما يكشف عن جينات الجريمة المتجذرة في هذا العصر في هذه المنطقة من
العالم.
يجري
تكوين المجرم في الفيلم من خلال مروره بمستويات عدة من حاضنات الجريمة تتسع
حلقاتها، بدءاً بأسرة برجوازية مفككة في طفولته لا يجد فيها الحنان او من
يهتم به،
ثم إصلاحية الأحداث التي يتعرض فيها لعنف الزملاء ويرد بعنف
اشد، ثم التدريب
القتالي مع المغاوير والمشاركة في حرب العراق الأولى، وبعدها يعمل في لبنان
قاتلاً
بالأجر، ثم يتاجر بالسلاح الى جانب مواصلة جرائمه بالقتل التي
أصبح يمارسها في برود
كما يمارس التنفس أو مضغ الطعام. وهكذا تتسع حضانة الجريمة التي تشكل
«السفاح».
وتأتي الأحداث التاريخية هنا للصراع المسلح في المنطقة ملتحمة مع البناء
الدرامي
لقصة «السفاح»، ليصبح المجرم إفرازاً منطقياً لما يجري في المنطقة ورمزاً
لها. وهذا
جانب من أهمية الفيلم وقيمته الفنية والموضوعية.
في هذا
الفيلم مشهد وصل من البلاغة السينمائية والأهمية الموضوعية (بمناقشة معنى
الحياة) ما يجعله وحده مبرراً كافياً لعمل الفيلم، هو مشهد المواجهة بين
السفاح
وعالم ذرّة مصري، قيّده هو وابنه وزوجته، بعدما كان اقتحم
عليهم فيلتهم للحصول على
آخر أبحاث العالم الذرية لحساب جهة مجهولة. ولا يستجيب العالم الإغراء
المالي الضخم
الذي يعرضه عليه السفاح، كما أنه لا يضعف أمام التهديد بذبح ابنه أمام
عينيه ثم
قتله من بعد. والسبب أن العالم فعل ما فعل وتحمل من أجله
المشاق وتفاهات الآخرين
ليجعل لحياته معنى، وتنازله للسفاح عن اكتشافه يفقد حياته معناها.
وقد بلغ
المخرج سعد هنداوي من المهارة الفنية في اختيار الممثلين وقيادتهم مع
بقية العاملين معه، وبخاصة التصوير والمونتاج والموسيقى، بحيث يقنعنا بموقف
العالم
ويقنعنا بصدمة السفاح الذي وجد في العالم الصورة المناقضة له
تماماً، ما جعله
يتراجع عن محاولته، ويطلب من العالم أن يعتبر كأن شيئاً لم يكن.
وقد بلغ
نبيل الحلفاوى الذروة في أداء دور العالم. أما هاني سلامة في دور
السفاح، فكان صاحب حضور مؤثر لم يبلغه في أي فيلم من أفلامه السابقة.
وتحولت نظرات
عينيه، الشاردة في ما سبق، الى نظرات حاسمة نافذة قاتلة في
برود تام... وكان في
جملة أدائه في الفيلم إبداع جديد، وكشف جديد لمواهبه.
ويحسب
للبناء الدرامي للفيلم احترامه للجذور الثقافية الاجتماعية السياسية التي
شكلت شخصية المجرم، الذي على رغم تراجعه عن ارتكاب هذه الجريمة التي تكشف
عن جانب
من إنسانيته المدفونة، لم يتوقف عن مواصلة ارتكاب جرائمه التي
يرتكبها بدم بارد بعد
ذلك حتى وصل الى حبل المشنقة. وبذلك استطاع صنّاع الفيلم وفي مقدمهم المخرج
وكاتبا
السيناريو خالد الصاوي وعطية الدرديري إبداع فيلم فيه من الفن
والمعنى ما لا تتسع
له
القصة الواقعية لسفاح المهندسين التي أخذ الفيلم عنها.
«ألف
مبروك»
في فيلم
«ألف مبروك» نواجه طريقة في السرد غير معهودة بالمرة في السينما
المصرية. الفيلم عن أحداث اليوم الأخير في حياة أحمد جلال عبدالقوي (أحمد
حلمي).
وتتكرر أحداث هذا اليوم أكثر من عشر مرات مع إضافة أو تغيير بعض التفاصيل
الجزئية
في
كل مرة. ولكن على رغم هذه التكرارات، لا يتسرب الملل الى نفس المشاهد،
ويرجع
الفضل أساساً في هذا الى المهارة الحرفية للمخرج أحمد نادر
جلال وأداء الممثل النجم
أحمد حلمي.
في الصباح
يستيقظ أحمد جلال عبدالقوي من نومه مفزوعاً بسبب الكابوس الذي ينتابه
في
آخر حلمه حيث تصدمه سيارة نقل ضخمة تقضي عليه، وهو في طريقه الى حضور حفل
زفافه.
ويواصل حياته حتى نهاية اليوم حيث تصدمه السيارة نفسها في اللحظة نفسها،
فنفاجأ به
يقوم من
نومه مفزوعاً لتتكرر الأحداث مرة أخرى.
وخلال
تكرار أحداث هذا اليوم يكتشف أحمد عبدالقوي، ونكتشف معه، مدى أنانيته
وانشغاله بطموحه الذاتي وغفلته عما يعانيه غيره من أفراد أسرته. وفي
التكرار الأخير
يتحول الى الإشفاق على أمه المريضة التي كان يتهمها بتعاطي
المخدرات بينما كانت
تتناول بعض الأدوية المخدرة لمقاومة مرض لعين لم تشأ أن تزعج الآخرين به،
ويعيد
الأموال التي حصل عليها والده بطريق غير مشروع نتيجة ضغطه عليه ليوفر له
شقة
ومصاريف الفرح، ويرحب بطلب صديقه الزواج من أخته. وبينما هو في
طريقه الى حضور
زفافه كالمعتاد في كل مرة يلمح من سيارته قدوم أمه وبقية أفراد أسرته
وسيارة النقل
الضخمة تكاد تدهمهم فيندفع بسيارته وهو داخلها أمام سيارة النقل وينقذ أمه
وأسرته
وتتحطم به سيارته وهو في داخلها. بينما يعلو صوته بشعار: «من
الأفضل أن تكون غائباً
حاضراً من ان تكون حاضراً غائباً».
وفي
الحقيقة لم يكن الفيلم بحاجة الى هذه الموعظة التي يختتم بها أحداثه. كما
لم
يكن في حاجة الى الإعلان في بدايته أن القصة مأخوذة عن أسطورة سيزيف
اليونانية،
فأنا شخصياً لم أجد بين الفيلم والأسطورة أي علاقة غير مسألة
التكرار.
الحياة اللندنية في
14/08/2009 |