علاقة المشاهد بفن السينما، هي علاقة حب. فالحب دائما هو الذي يربطه بالسينما باعتبارها فنا يلبي رغباته الحسية والخيالية، بخاصياتها الفرجوية (القاعة المظلمة، الشاشة الضخمة..) ويأتي تنوع الأفلام، لإشباع رغباته البصرية والخيالية، بالصور التي يرتاح لمشاهدتها ويحبها. لكن تنوع الأفلام السينمائية، يذهب إلى حد يبدو فيها (ظاهريا) بعض الأنواع من الأفلام، كأنها نقيض رغبة المتفرج. ونجد ذلك في أفلام الرعب وأفلام المسوخ وغيرها.. فالمشاهد ـ بطبعه كإنسان ـ يتعامل مع الصور المرعبة لهذه الأفلام، والمثيرة أحيانا للإشمئزاز، بمنطق الرغبة في إشباع الفضول البصري. ليس بالضبط بناء على نظرية: الممنوع مرغوب. ولكن بناء على نظرية مماثلة ومشابهة لها كثيرا وهي: المُرعب مرغوب. وهذا ما يفسر حج الناس لمشاهدة هذه الأفلام. فهذه الصور المُرعبة، غير مريحة في أساسها، لا بصريا ولا نفسيا يرغب المشاهد في مشاهدتها، لسببين على الأقل، هما أولا: لأنها تثيره وتثير فضوله. ثانيا: لأنه يمرن بها نفسه على تحمل الرعب. وهذا ما يبرر المنطق الجمالي والفرجوي لهذه الصور، ويفسر منطق هذه الرغبة التي تنطوي على هذا الحجم من التناقض. لكن مع تطور فن السينما وشرط نجاح العرض السينمائي المبني على التنافسية، يندفع بعض المخرجين إلى الغلو في إثارة الرعب، مما يؤدي أحيانا إلى نتائج عكسية.

و كمثال على ذلك، أذكر أنني كنت أشاهد الفيلم الأمريكي طارد الأرواح الشريرة the exorciste وعندما بدأت ملامح الروح الشريرة تظهر على وجه الطفلة المسكونة بها، هرب من القاعة بعض من كان يشاهد الفيلم من الجالسين في الصفوف الأمامية.. الهروب من هذه الصور، يجد تفسيره في عدم قدرة النفس على تحمل هذا الترويض الزائد عن اللزوم. فالمَشاهد المفزعة للطفلة، أثارت في المشاهد الهارب منها، قدرا من الرعب، فاق طاقته، وفاق قدرته على التحمل.

وإذا كان هذا الهروب من تلك الصور، يجد تفسيره في عدم قدرة النفس على تحمل هذا الترويض الزائد عن اللزوم، إلا أنني شاهدت هروبا من الصورة، من نوع آخر، وهو الذي يهمنا.. هذا الهروب، يتخذ شكل الإنسحاب من القاعة.. إنسحاب ليس بسبب صور مفزعة. لأن الأفلام ليست أفلام رعب. ولا مسوخ، ولا غيرها. بل هروب من صور في أفلام مغربية!! أو انسحاب مشاهدين مغاربة، من قاعة تعرض أفلاما مغربية!!

هذا الإنسحاب عاينته عند مشاهدتي لفيلمين مغربيين: الأول فيلم العيون الجافة والثاني فيلم سميرة في الضيعة.

فعندما وصل المشهد قبل الأخير، في العيون الجافة، ظهر البطل في صورة أرادت منها المخرجة نرجس النجار، أن تعبر عن فقدان البطل الأمل في ربط علاقة عاطفية سوية مع البطلة. تبين لي أن عين المشاهد اصطدمت بها. وأن هذه العين لم تألف مشاهدتها في الأفلام المغربية. فانقسم الجمهور إلى ثلاث فئات: فئة انسحبت من القاعة. وفئة انفجرت بالضحك (والمشهد لم يكن كوميديا بتاتا، بل كان في غاية التراجيديا!!). وفئة بقيت تتابع الفيلم، متحملة الصدمة، وكنت أنا من بينهم. وهذا ما وقع أيضا في فيلم سميرة في الضيعة، عندما تم تقديم مشهد جنسي على طريقة تشبه كثيرا الأفلام الإباحية. (الإنارة القوية وتكبير اللقطة..).

المتفرج باعتباره مغربيا وحج إلى قاعة السينما، لمشاهدة الفيلم الذي ينتمي إليه. ويبحث فيه عن الصورة التي تشبهه وتحاكيه، المفروض منه أن يستمتع به لا أن ينسحب منه! أو يضحك في مشهد في غاية التراجيديا! وهذا ما أثار لدي تساؤلات قوية: ما الذي يجعل المتفرج المغربي يرفض مشاهدة صور في فيلم مغربي؟ أين يكمن سبب صدام الصورة المعروضة، مع عين المتفرج؟ هل العيب في المتفرج أم في المخرج؟ هل نتهم المتفرج بأنه لم يفهم رغبة المخرج؟ أم نتهم المخرج بعدم معرفة كيف يلبي رغبة المتفرج؟

هذه الصدمة وما أثارته من رد الفعل لدى جمهور المشاهدين، بينت أن هذا الجمهور لا يتحمل مشاهدة جسد مغربي في تلك الصورة.... لأن الفئة المنسحبة من الجمهور، إذا كانت قد وضحت موقفها بالإنسحاب من القاعة، فإن الفئة التي كانت تضحك، إنما كانت ضحكتها وسيلة للتغطية على الإحراج الصادم الذي أحدثته الصورة. فمنطق الرفض هنا قائم، ولكنه مستتر وراء الضحك. وهذا هو التفسير الوحيد الممكن للضحك أمام مشهد تراجيدي للغاية. وبما أن الفئتين عبرتا عن الرفض، فلا يمكن أن تكون الفئة الثالثة راضية ومرتاحة.

السؤال هنا في نظري، ليس: لماذا لا تنطبق نظرية (الممنوع مرغوب) على صورة فيلم العيون الجافة، وفيلم سميرة في الضيعة؟ أو لماذا لا يحرك الفضول المشاهد المغربي لمشاهدة جسد مغربي في تلك الصورة؟ وإنما السؤال هو: لماذا لا يقبل المشاهد المغربي مشاهدة جسد مغربي في تلك الصورة؟ أو بصيغة أدق: لماذا لا يقبل المشاهد المغربي مشاهدة جسده في تلك الصورة، أمام الملأ؟.. أعتقد أن الأمر سيكون طبيعيا، ويكون المشاهد قادرا على تحمل هذه الصورة، لو ظهرت في فيلم أجنبي (غربي تحديدا).

إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية، يبدو كأنه نفاق ..(أقبل مشاهدة الأخر في تلك الصورة، ولا أقبل مشاهدتي أنا). لكن إذا نظرنا إليه من زاوية أخرى، تعتمد التحليل المبني على فهم الإختلاف الثقافي. نجد أن رد فعل الجمهور تجاه تلك الصورة، طبيعي ومتوقع. فلا علاقة لهذه الصورة بمعيار التقدم والتخلف (..عالم متقدم يقبل تلك الصورة، وعالم متخلف يرفضها) وكثيرا للأسف الشديد ما نظلم أنفسنا ونصفها بالتخلف، عندما نرفض التبعية.

إن رفض أو قبول هذه الصورة، مرتبط بالخصوصيات، فالخصوصيات الثقافية هي التي تحدد للمجتمع منظومة القيم، وإنتاج الصورة واستهلاكها، خارج هذه المنظومة لا يمكن أن يعتبر سوى شذوذ.

وتحدد له كيفية التعامل والتفاعل مع هذه الصورة أو تلك. ففيلم العيون الجافة وسميرة في الضيعة على سبيل المثال، (لأنهما الفيلمان الوحيدان اللذان يتضمنان تلك الصور، وأتيحت لي مشاهدتهما مع الجمهور)، مشكلتهما أن كتابتهما لم تكن على قدر كاف من الوعي بالخصوصيات المغربية، ليتم تسجيلها في الرواية والسرد، أو أخذها بعين الإعتبار في الكتابة السينمائية، على أنها هي التي تميز الفيلم المغربي وتحدد هويته. وهذا يبين أن الصور التي لا تعمل على تقوية الهوية المغربية، لا تقبلها العين المغربية. ثم إن التعامل مع الجسد عامة، وتعامل الصورة مع الجسد خاصة، يختلف من ثقافة إلى أخرى. وهذا التعامل، تحدده خصوصيات كل ثقافة على حدة.

فوعي المخرج المغربي بالخصوصيات المغربية، هو الذي يحرر كاميراته من التبعية
عندما يحمل المخرج المغربي الكاميرا ليتعامل مع الجسد على نحو مخترق للحدود التي وضعتها خصوصيات الثقافة المغربية، كما هو في أفلام العيون الجافة، وسميرة في الضيعة، ولحظة ظلام الذي منعته الرقابة من العرض في القاعات لنفس السبب (وفي أفلام أخرى، لكنها أقل حدة) تكون الكاميرا غير متحررة.

التحرر هنا، ليس بذلك المفهوم الذي نتداوله كثيرا بيننا، والذي مفاده أننا بقدر ما تحررنا من قيود مجتمعنا التقليدي، وتحررت الكاميرا (تخلصت) من القيود في تعاملها مع الجسد، بقدر ما نسير نحو التحرر. بل العكس.. التحرر هو أن نستطيع فرض موقفنا الجمالي عندما نحمل الكاميرا لنصور أجسدنا، لنقدمها للجمهور في الصورة التي يستمتع بها لا الصورة التي يصطدم بها ويهرب منها.

elhamedd@hotmail.com

القدس العربي في

12/08/2009