دراما موسيقية وفنون أدائية تحكي السيرة الذاتية
لأسطورة الغناء الأمريكي والعالمي "راي تشارلز"، الذي توفي منذ أشهر.
هذا العمل الرائع من إخراج "تايلر هكفورد"، الذي عمل جاهدا لخمسة عشر
عاماً من أجل نجاز هذا المشروع، وتعاون مع الفنان الراحل حتى في أيامه
الأخيرة ليأتي الفلم مليئا بالصدق الفني والواقعية. يلعب الفنان الشاب
"جيمي فوكس" دور تشارلز بطريقة مذهلة ومقنعة الى ابعد الحدود، مازجاً
الكوميديا والدراما في أدائه لهذه الشخصية الغنية، ويشاركه البطولة
الفنانَين "ريجينا كينغ" و"كيري واشنغتن". ولد تشارلز في مدينة ألباني
عام 1930، في ولاية جيورجيا في الجنوب الأمريكي، ثم انتقلت عائلته
الفقيرة جداً الى فلوريدا. فقد نعمة البصر وهو في السابعة من العمر،
بعد وقت قصير من مقتل شقيقه الأصغر في حادثة أمام عينيه. وبتأثير
والدته القوية، ذات الشخصية المستقلة، التي أصرّت على ان يشق طريقه
الخاص في الحياة … اكتشف "راي" دعوته وموهبته خلف مفاتيح آلة البيانو،
حينما كان يدرس في مدرسة لأصحاب الحاجات الخاصة (المعاقين). و قبل ان
يبلغ العشرين من العمر، كان قد جال في معظم الدوائر والحلقات الموسيقية
في الولايات الجنوبية، حيث اكتسب سمعة وشهرة كبيرة، بفضل ريادته في مزج
الأنواع الموسيقية المختلفة والشائعة في الجنوب الأمريكي؛ ونقصد "الكونتري"
و"الجاز" و"البلوز" مع "الموسيقى الكنائسية السوداء" و"الأداء
الأوركسترالي" الحديث … خالقاً بذلك نمطاً موسيقياً فريداً، أكثر عصرية
وأكثر تعبيراً، ممهداً الطريق للموسيقى الغربية الحديثة، وخصوصاً
موسيقى "السول" و"الروك أند رول". هذه الإنجازات لم تمر بسهولة وواجهت
الكثير من المعارضة وخصوصا بين المتدينين من السود والمحافظين من
البيض. وفي الوقت الذي عمل على تثوير الطريقة التي يستقبل بها الناس
الموسيقى ويستمتعون بها، حارب مظاهر الفصل العنصري في نفس النوادي
والصالات التي أطلقته نحو الشهرة المحلية والعالمية فيما بعد، كما دافع
عن حقوق الفنانين ببسالة في عالم شركات التسجيل الموسيقي في تلك
الأوقات الصعبة في الخمسينات. ان الفلم يقدم أصدق صورة عن عبقرية
تشارلز الموسيقية، وهو يتغلّب على إدمانه على المخدرات وعلى عوقه
الخاص، ليصبح واحداً من أهم الموسيقيين في أمريكا والعالم. في العالم
العربي، يذكرنا "راي تشارلز" بالموسيقي والمغني الراحل "الشيخ إمام"،
الذي عاش صعوبات كبيرة بسبب فقدانه البصر وفقره وسلوكه خطاً سياسياً
معارضا لنظام عبد الناصر مع رفيق دربه الشاعر "أحمد فؤاد نجم". ان سيرة
"الشيخ إمام" بقلم الأستاذ والمفكر"شاكر النابلسي"، تنتظر من يحولها
الى السينما منذ سنوات. كما يذكرنا تشارلز بالموسيقي العراقي الضرير
الراحل "الملاّ عثمان الموصلّي" … إمام والموصلّي وتشارلز، تغلّبوا على
عوقهم الفيزياوي وظروفهم الاجتماعية، ومزجوا الموسيقى والانشاد الديني
بموسيقى وغناء الناس العاديين، ليقدموا فناً شعبياً عظيما، غير قابل
للنسيان او التجاهل.
ان فلم "راي" واحد من أهم واجمل أفلام هذا العام،
وبانتظاره ترشيحات لجوائز رفيعة عديدة في حقول التمثيل والموسيقى
والإخراج. ويجمع النقّاد على عظمة وتفوّق أداء فوكس وتفسيره الذكي
والمتقن للشخصية؛ وعلى حد قول الذين عاصروا تشارلز لسنوات طويلة :" لا
يخطر بالبال أبداً، ان هناك ممثلاً يؤدي دور تشارلز طوال وقت الفلم …"،
وبعض النقّاد يعتبرون أداء فوكس او تفسيره للشخصية بمثابة العمود
الفقري للفلم ككل. لقد تحول "جيمي فوكس" خلال سنوات قلائل، من ممثل
كوميدي خفيف الظل الى ممثل درامي متمكِّن من حرفته، يلعب أعقد الشخصيات
وأغناها، بفضل التزامه ومثابرته واقترابه العميق من الأدوار والشخصيات.