" لقد كان انطونيوني متمردا وعبقريا. لقد اتصف بصفات كثيرة
متناقضة كغيره من العباقرة، حيث كان لديه جانب مضئ وآخر معتم." سارة مايلز
ربما كان الحديث عن مايكل انجلو انطونيوني هو حديث عن جيل
مابعد الحداثة السينمائية على صعيد السينما الأيطالية او السينما العالمية
عموما . فقد رحل عن عالمنا هذا المخرج العملاق مخلفا وراءه شوطا من تاريخ
البشرية المليء بالقلق والتحولات ، اذ هو شهد بعين راصدة مخلفات النازية
والفاشية وعاصر دكتاتورية موسيليني وهو يدرج في اكتشاف مواهبه السينمائية ،
لقد كان هذا الضجيج السياسي لوحده كافيا ليحفر عميقا في ذاكرة ووعي
انطونيوني وهو يشهد الكابوس الثقيل الذي رزحت تحته البشرية في اجواء الحرب
العالمية الثانية من جهة وافرازات الفاشية في ايطاليا من جهة اخرى .
هذا الشاب اليافع يجيء من مدينة بعيدة عن روما هي فيراري
لاليدرس السينما بل ليجد لنفسه مسارا آخر في الأقتصاد في جامعة بولونيا
وليعمل موظفا بأحد المصارف ، كان ذلك في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي
، ثم مالبث ان وجد في داخله رغبة ما في ميدان الفن السابع ولهذا دخل احد
معاهد السينما التي تمولها فاشية موسوليني ثم مالبث ان بدأ يكتب النقد
السينمائي في مجلة السينما آنذاك ثم ليتحقق تحول جديد في حياته بتعرفه على
المخرج الأيطالي الشهير روبرتو روسيليني حيث توطدت العلاقة بينهما واثمرت
عن تعاون في مجال كتابة السيناريو حيث شارك روسيليني كتابة سيناريو فيلم
(رجوع الطيار ) سنة 1943وكانت تلك البداية كفيلة بدفع انطونيوني قدما للمضي
في التعبير عن مواهبه في الكتابة للشاشة لتتجدد التجرية في فليم زوار الليل
للمخرج مارسيل كارنيه .
لكن تلك السنوات الأولى التي اسست مسار انطونيوني واعطته زخما
في التجربة مالبثت ان دفعت به باتجاه الخوض في مجال آخر وهو السينما
الوثائقية ، حيث بدأ كتابة السيناريو والأخراج ولكن بكثير من التأني ولم
تكن تجربته تلك لترضي طموحه السينمائي الذي بدأ بالظهور من خلال اخراج
فيلمه الروائي الطويل الأول (يوميات حب ) في سنة 1950 .وهي قصة تقليدية
لحياة معتادة لعاشقين .. لكن هذا الفيلم كان مؤشرا للكيفية التي ينظر من
خلاها انطونيوني للحياة والمجتمع وعلاقات الحب ..وخلال ذلك كان الأنسان
المأزوم والعلاقات الهامشية الهشة واللاجدوى من علامات تلك البداية التي
بدأ انطونيوني من خلالها تقديم شخوصه الغرباء عن ذاتهم في الغالب وهو
ماتجلى بشكل واضح في افلامه التالية "الخاسرون» عام 1952 و«الغادة دون
كاميليا» - 1953، و «الصديقات ـ 1955 وهو فيلم لفت الأنظار اليه حيث قدم
الممثلة اليانورا دراغو ثم جاء فيلمه «الصرخة» ـ 1956 من بطولة اليدا فالي
.. ومجمل هذه الأفلام كانت تدور في اجواء البرجوازية وتحولات جيل من الشباب
الذين خرجوا من الفاشية ونتائج الحرب العالمية الثانية وماخلفته من ازمات
انسانية منها ماهو ظاهر ومرئي ومنها ماهو كامن في الذات ويتجلى من خلال
سلوكيات الأفراد .
لكن التحول المميز في مسار انطونيوني تمثل في فيلمه (لافنتورا
) اي المغامرة والذي اخرجه سنة 1959 ويعد علامة من علاماته الفارقة بل كان
سببا مهما في اعادة قراءة ابداع انطونيوني والتعرف عليه بطريقة جديدة ..
واقعيا لم يكن جمهور السينما ونقادها معتادين ان يشاهدوا
ماشاهدوه في هذا الفيلم ..انها سينما الملل هذه المرة كما صرح احد نقاد تلك
الحقبة في صحيفة فرنسية ، انطونيوني يطل على جمهوره بفيلم لايحفل بمشاعر
جمهوره وامتعاعهم بل ربما استفزهم مرارا بذلك الأيقاع الغريب ..اللقطات –
والمشاهد الطويلة، المونتاج الذي لايحفل كثيرا باللحظة المناسبة لقطع وجهة
النظر الى وجهة نظر اخرى ، الحوار اليومي الأقرب الى ماهو روتيني ،
الأحاسيس والمشاعر العادية التي تتسرب في المشهد دون ان تخلف وراءها تحولات
حادة ومباشرة لدى الشخصيات ..كل هذا كان يدور صداه في اجواء مهرجان كان
السينمائي عشية عرض هذا الفيلم .
لقد كانت قصة الأيقاع الفيلمي هي احدى ملامح هذه التجربة
الجديدة ، فالشخصيات التي تعيش في كنف البرجوازية الطالعة في ايطاليا هي
التي صارت تنتج شخصيات من هذا النوع الذي لم تألفه السينما من قبل ، السرد
الذي يعتني به انطونيوني اقرب الى تداعيات خاصة بالشخصيات اكثر من كونه
دراما متصاعدة وصراعات حادة وعميقة ..ولادة هذا الفيلم كانت كفيلة بولادة
نجمة سينمائية ظلت ترافق انطونيوني في اغلب اعماله وهي الممثلة (مونيكا
فيتي ).
لقد كانت هذه الأفلام مواكبة لأصداء مدرسة عالمية مهمة في مسار
الأبداع الفلمي وجماليات الفن السابع وهي المدرسة الواقعية الأيطالية التي
خرجت من اجواء الحرب الكونية وازمات المجتمع الأيطالي من خلال جيل العمالقة
: دي سيكا ، فيسكونتي، روسيليني ،بازوليني وفيلليني وبالطبع كان انطونيوني
ركنا مهما من اركان هذه المدرسة . فأذا كانت هذه المدرسة قد عنيت بالحياة
الأنسانية وازماتها وتفصيلاتها في اعمال فيسكونتي وروسيليني ‘ فأنها تجلت
في اعادة قراءة الأسطورة والشعر والتاريخ والفلسفة والشعر والسايكولوجيا
البشرية من خلال اعمال جريئة لبازوليني ثم كانت اكثر تعبيرا عن الكائن
الحالم الذي يعيش فصاما لاينتهي مع واقعه واحلامه كما هي اعمال فيليني ..
اما في تجربة انطونيوني فثم تهشم غريب لكثير من المعطيات :
للأحساس بالحياة والذات والآخر ، تفرد في عرض اللاجدوى واللامبالاة من خلال
تلك الشخصيات المأزومة المستنفدة عاطفيا وانسانيا .
كان هذا حاضرا في فيلمه التالي المهم وهو فيلم الصحراء الحمراء
الذي اخرجه سنة 1964 والذي شكل التجربة الأولى بالنسبة له في الأنتقال من
الأبيض والأسود الى الألوان ، ونال عنه جائزة الأسد الذهبي في مهرجان
فينيسيا السينمائي. وهو انطلاقة اخرى في تجربته السينمائية لاسيما وهويواكب
التحول في مسار واحدة من اهم التجارب السينمائية في العالم وهي السينما
الفرنسية وهي تطلق جيلا جديدا من المخرجين من امثال تروفو وجودار والن
رينيه وغيرهم ولهذا جاء فيلمه ذائع الصيت «بلو اب» (اللقطة المكبرة
)1966،ليواكب جيلا جديدا من السينمائيين ورؤية اخرى من الواقعية الممزوجة
بأسلوب سردي غير مألوف ولا معتاد كثيرا في اوساط السينمائيين والفيلم كان
قد صور في بريطانيا ويحكي قصة احد المصورين الذين يواكبون معارض الأزياء
، ولكنه وهو يستغرق في رصد الحياة البرجوازية الصاعدة فأنه وبلا قصد ولا
دراية يكتشف انه قد صور جريمة ..والقصة على طرافتها الا انها كانت كفيلة
بتعريف جمهور فن الفيلم بأسلوب ومخرج مختلف ولهذا كان حظ هذا الفيلم نجاحا
مشهودا في حينها اينما عرض وقد نال الفيلم سعفة مهرجان كان الذهبية ..
وبهذا الفيلم بدأت المرحلة الأمريكية في مسيرة انطونيوني حيث
سافر الى الولايات المتحدة وواصل منجزه السينمائي و اخرج هناك فيلمه «زابريسكي
بوينت» (1970) وقد ابتعد فيه عن بيئته الأيطالية تماما ليقدم صورة اخرى
ووجها آخر من الحياة في امريكا من خلال الشباب المحتجين المتطلعين الى افق
آخر في حقبة كانت فيها موسيقى الروك اند رول علامة فارقة في هذا الوعي
المأزوم ، ثم جاء فيلمه التالي من امريكا ايضا بعنوان المهنة مخبر 1975.
وهو من بطولة جاك نيكلسن وماري شنيدر ، ولم يحقق الفيلمين نجاحا تجاريا
كبيرا لكن كثيرا من النقاد عدوا الفيلم الأخير احد افلام كلاسيكيات السينما
الجديرة بالدرس والأهتمام .
اما حقبة الثمانينيات فقد عادت بأنطونيوني مجددا الى الواجهة
في الحياة السينمائية الأيطالية والحياة الأيطالية عموما حيث قدم فيها
فيلمه (تحديد هوية امرأة ) وذلك في سنة في 1982
ثم ليصاب يعدها بالجلطة التي اقعدته عن العمل السينمائي لحوالي
عشر سنوات و حتى العام 1995 حيث عاد مجددا للسينما ليقدم فيلمه وراء الغمام
ثم جاء فيلمه الروائي الأخير ايروس سنة 2002 .
وخلال هذه المسيرة الحافلة، حضي منجزه بعدد من الجوائز من
ابرزها جائزة الدب الذهبي في مهرجان
البندقية عام 1964 عن فيلمه «الصحراء حمراء»، إضافة إلى السعفة
الذهبية في مهرجان كان عام 1967 عن فيلمه «بلو أب»، ثم جائزة لجنة التحكيم
الخاصة «تحديد هوية
امرأة» عام 1982 ، وأوسكار في هوليود سنة 1995 عن مجمل أعماله، وأخيرا
الأسد
الذهبي عن كامل منجزه السينمائي سنه 1997 بالبندقية.
http://dimension4future.blogspot.com/
سينماتك
في 1 سبتمبر 2007