لعل مسألة
المثقافة والتنوع الثقافي والأجتماعي صارت سمة ملازمة لعصرنا الراهن في ظل
انفتاح الحدود والآفاق المفضي الى حوار انساني متعدد الأشكال ويقدم في
ثناياه الصلات التي تحكم الأفراد في هذا العصر .
ولقد كانت
السينما وماتزال سباقة في تجذير هذه الصلة مابين الأفراد والمجتمعات
والثقافات وخاصة تلك المتعلقة بنا نحن العرب وقد بقيت جل اقطارنا العربية
رازحة تحت الأستعمار قبيل عهود الأستقلال والتخلص من الأستعمار.
ويقدم
لبنان صورة واضحة للثقافة الفرنكوفونية التي كانت من مخلفات التواجد
الفرنسي على التراب اللبناني ردحا من الزمن في القرن قبل الماضي خاصة في ظل
تقاسم النفوذ .
وعلى هذا
ظلت اجيال مرت بحقب الثقافة والتعليم على الطريقة الفرنسية متأثرة بهذا
التواجد بهذه الدرجة اوتلك .
من هذه
التوطئة انطلق في قراءة فيلم الأفتتاح في المهرجان الدولي للسينما الأوربية
الذي انعقد في بروكسل مؤخرا وهو الفيلم اللبناني الفرنسي ( اغنية في الرأس
او ميلودراما حبيبي ) من اخراج هاني طمبا ، هذا الفيلم يحاول ملامسة هذا
التداخل والأتصال الثقافي اذ يقدم اسرة تتحدث اللغة الفرنسية وهي اسرة
السيد حرفوش الأرستقراطية ، وفيها الزوجة معجبة اشد الأعجاب بأحد المغنين
الفرنسيين مذ كانت شابة وطالما استمعت الى اسطواناته .
صورة
بيروت
وخلال ذلك
تتضح صورة بيروت قبيل نشوب الحرب ولكن اية حرب لاندري اهي الحرب الأهلية ام
الأجتياح الأسرائيلي ام الحرب الأخيرة مع اسرائيل ؟ المهم ان الحياة تسير
ببساطة وهدوء حيث هنالك الشابةالتي تعمل في مجال تجميل النساء( الممثلة
بيريت قطريب) وتقدم خدماتها للنساء في بيوتهن ومنهن السيدة حرفوش هذه وخلال
مشاركتهما الأستماع للمغني تنخرط الفتاة في بكاء مر بسبب تذكرها والدها
الذي قضى في الحرب وخلال ذلك يجري التذكير في الفيلم بأن جميع الشخصيات في
الفيلم ينتمون للطائفة المسيحية في لبنان من خلال ابراز الرموز الدينية
للسيد المسيح والسيدة العذراء عليهما السلام .
ويغلف
الفيلم بقالب كوميدي من خلال علاقة عائلة حرفوش بسائق الأسرة غريب الأطوار
حيث انه يتبادل مع السيد حرفوش التعليقات والنكات .
ومايلبث
الأمر ان يتطور الى اختطاف السيدة حرفوش وهي في داخل سيارتها المرسيدس
بأنتظار السائق دون ان يشكل ذلك تحولا كبيرا في مسار الفيلم ولايشكل صدمة
لأحد بقدر حنين السائق لسيارته المرسيدس ليس الا .
وهنا يجري
استقدام المغني الفرنسي ( برونو كابريس) هذا المغني الذي نشهد جانبا من
حياته وهو في فرنسا فهو انسان محبط في العمل وفي علاقاته مع الآخرين وكذلك
في الغناء الذي عرف به اذ يظهر في احد المشاهد وهو في مشادة مع زميلة له في
العمل يحاول خطب ودها ويظهر في مشهد آخر وهو يحطم الجيتار بعد رفضه العزف
لأصدقائه ولهذا وربما خروجا من ازمته يقرر السفر الى بيروت استجابة لدعوة
اسرة حرفوش الثرية .
ويجري
استقباله من لدن السائق الطريف بطريقة كوميدية ايضا ثم تنظم له زيارة
استطلاعية لمصانع حرفوش للكاكاو والقهوة ولا يتردد السائق في اطلاق الرصاص
على دجاجة وجدت في مخازن الشركة بالصدفة .
وتتم دعوة
المغني الى حفل يقام على شرفه وتدعى اليه العائلات الثرية لكن المغني
الموعود اذ ينتظره الناس كي يتحفهم بغنائه يكون في وضع مزر اذ لايقوى على
الغناء وهو شبه ثمل فيلقي بنفسه في بركة الفندق وسط استغراب الجمهور وصيحات
المشجعين والساخرين ، خلال هذا تكون تلك الفتاة المتخصصة في التجميل تشهد
نقل الحفل المزعوم على شاشات التلفزة فتذهل لماتشاهده .
اختطاف
ومغامرات
ويذهب
السائق لمفاوضة خاطفي السيدة حرفوش وهم عصابة تستقر في منطقة جبلية حاملا
حقيبة النقود لدفع الفدية من اجل اطلاق سراح السيدة ،ويفاجأ هذا السائق
الفكه بأن زعيم العصابة الذي خطف السيدة مع سيارتها هو صديق له ويعرفه
معرفة شخصية ولأن الخاطفين جلبوا السيارة ولم يجلبوا السيدة يعترض السائق
الطريف على عدم اتمام الصفقة ويظهر ان زعيم العصابة قد نسي جلب السيدة
لأعادتها لأسرتها .
ومن
المفارقات ان يقوم السائق بتنظيم حفلة للمطرب الفرنسي على سطح احدى
العمارات وفي وسط حبال الغسيل وفي وسط فرقة موسيقية غريبة الملامح والأطوار
.
وبعد عودة
السيدة حرفوش من الأختطاف يقوم السائق الطريف بزيارة الفتاة ودعوتها لغرض
ان تصحب المغني في جولة سياحية في ربوع لبنان وتتردد قليلا ولكنها سرعان
ماتقبل .
وتصحب
الفتاة المغني المتجهم الوجه غالبا والذي يغالب الأبتسام ولاتجد الأبتسامة
الى وجهه سبيلا الا لماما ..المهم لايظهر من جمال الربوع اللبنانية شيئا
يستحق الأشارة اليه ولاتعرف سر ذلك المشهد المفتعل بل المشاهد المصنوعة
التي تجمع الفرنسي بتلك الفتاة وحيث يوقظهما بضعة نفر يطلقون النار في
الهواء بطريقة عبثية بعد انتصاف الليل وان هم الا الطباخ ومساعدوه في
الفندق الذي نزل فيه الفرنسي والفتاة وحيث تنتهي تلك الزيارة بعلاقة غرامية
مفتعلة تماما وغير مبررة في البناء الفيلمي ولا في دوافع الشخصيات.
خارطة
فرنكوفونية
لقد سعى
الفيلم الى المزج بين مجموعة من المتطلبات لكي يجد نفسه في خريطة الدعم
الفرانكوفوني كما يبدو ، فقد لجأ لأدخال ذلك المغني في الفيلم من اجل مد
الجسر مع العالم الفرنكوفوني الذي تمثله فرنسا وتاليا ان يكون ذلك سببا
كافيا لدعم الفيلم وتغطية تكاليفه وتسويقه وصولا الى عرضه في افتتاح مهرجان
اوربي كبير كهذا ثم نيله جائزتين .
ولغرض
الوصول الى المزيد كانت اللغة الفرنسية تستخدم متوازية مع اللغة العربية من
لدن الشخصيات في الفيلم وبالرغم من ان التكلم بالفرنسية لم يغير من حقيقة
وعي وسلوك الشخصيات كثيرا الا انه كان عنصرا مضافا بل واساسيا للترويج
للفيلم .
ومن الجهة
الأخرى بدت الشخصيات وهي تعوم في عوالمها الخاصة غير عابئة بكل مايجري من
حولها وكأنها لاعلاقة لها به مطلقا كمثل عدم اكتراث الجميع بمجريات الحرب
التي تدور رحاها من حولهم دون ان تغير شيئا من رؤاهم او قناعاتهم او حياتهم
اليومية الى درجة ان القصف والأنفجارات يسمع دويها في اثناء اداء المغني
الفرنسي وصلاته الغنائية ويؤدي ذلك الى انقطاع الكهرباء ومع ذلك يلجأ
الحاضرون الى ايقاد الشموع وولاعات السجائر كي يستمر المغني في غنائه .
الحرب هنا
لاتملك من حضور غير دوي الأنفجارات وبالرغم من ان الفيلم محصور ومقتصر على
الطائفة المسيحية اللبنانية كما تبين من خلال الرموز والأيقونات المسيحية
التي تستخدمها الشخصيات ، الا ان هؤلاء ايضا كانت لهم حصتهم في جميع حروب
لبنان الداخلية والخارجية فهم كمجتمع صغير كانت لهم ردود افعالهم وانخراطهم
في مناصرة هذا الطرف ومجابهة ذاك الطرف على مر الحقب في التاريخ اللبناني
بينما نجد ان الفيلم قد تغافل او همش كل ذلك بل وابعده عن دائرة الأهتمام.
كوميديا
ولهو بريء فقط
وبالرغم
من المسحة الكوميدية التي لجأ اليها الفيلم كبديل للتأثر بالأحداث التي
تضرب لبنان والأزمات التي تحيق به ، الا ان هنالك تناسيا لمعطيات تتعلق
بالشخصيات ذاتها التي بدا اغلبها وكأنه بلا دافع حقيقي يحركه للتفكير
والتعبير عن نفسها ، فالشخصيات تعيش في اطار شبه مفرغ من التأسيس للحاجات
والدوافع وهو امر مرتبط بسيناريو الفيلم بكل تأكيد من جهة تجذير بناء
الأفعال والدوافع ، لكن من الواضح ان الفيلم سعى الى اصابة اهداف عدة في
ضربة واحدة : فهو اراد تقديم فيلم كوميدي يعتمد على المفارقات وعلى مواقف
بعض الشخصيات واللهو البريء بالأخص السائق وعميد اسرة حرفوش وهما شكلا ركنا
مهما في هذه المعادلة مع ان مخرج الفيلم لم يؤسس موضوعه ليكون كوميديا بل
جعل الكوميديا اداة واحدة من ادوات اخرى قد تغفر الكثير من هنات البناء
الدرامي وقد انسحب ذلك على حدث كبير وهو اختطاف السيدة حرفوش اذ تمت
معالجته هو الآخر كوميديا وبدا موقفا عابرا لايستحق كثيرا من الجدية ومشاعر
الصدمة او القلق من اختطافها وحتى صفقة الفدية تمت في جو من الكوميديا
واللامبالاة ولم يكن هنالك من تعليق الا من السيد حرفوش ذاته بقوله ان
الفلوس يمكن ان تحل كل شيء .
المغني
المتجهم الحزين
المسألة
الأخرى التي استند اليها الفيلم في معالجته وبناءه هي استخدام اغاني المغني
الفرنسي ( برونو غابريس ) عنصرا اضافيا لأضفاء مسحة من المتعة لاسيما ان
المغني فرنسي الجنسية والأسرة في غالبيتها ذوو ثقافة فرنسية مع انهم
لبنانيون ، وبدت تلك الصلة مجرد قشرة خارجية غلفت اداء بعض الشخصيات ،
ويبدو انها توليفة اراد من خلالها صانعوا الفيلم المزج مابين الكوميديا
والغناء وتقديم فيلم ترفيهي كهدف اول واساس ممتع للجمهور مهما كانت درجة
هذه المتعة ومدى اتقانها فيما يخص دوافع الشخصيات وحاجاتها .
ولعل هذا
الجانب يقودنا الى التساؤل عن صورة تلك المثاقفة وكيف تجسدت واقعيا ؟
لم يكن
غير المغني واسطة ووسيلة لتحقيق هذا الغرض وهو انسان فاشل في علاقاته
الأجتماعية حيث كان يعيش قبل قدومه الى لبنان كما انه محبط بعد فقده عمله
في احد الفنادق وهو محبط ايضا من جهة يأسه من ان يكون كما يريد على صعيد
الغناء ، ولهذا يقبل مثلا ان يغني وكأنه مستأجر ، يغني على سطوح المنازل ثم
يثمل ويلقي نفسه في البركة وماالى ذلك .
هذا اذا
اضفنا انه يقبل تلك العلاقات الطائشة وغير المنطقية وغير المبنية جيدا
كعلاقته بفتاة التجميل التي لايربطه بها اي رابط يذكر لا من جهة السن فهي
في سن حفيدة من حفيداته ولا من ناحية الأهتمام ، فبينما الفتاة تفكر في
الزواج والأستقرار نجدها في وسط تلك العلاقة غير المبررة والعابرة ، كما ان
لاسمة ايجابية يمكن تلمسها من ردود افعال المغني فهو انسان محبط كما قلنا
وبسبب ذلك ربما تجده دائم التجهم .
يبقى ان
اشير الى المشهد الأخير من الفيلم الذي هو من اغرب مافي الفيلم على الأطلاق
اذ كان مشهدا مصطنعا وملصوقا بالفيلم بشكل لايقبل الشك ، اذ تقف اسرة حرفوش
باسمة ودون ان يرف لها جفن وسط الحرائق ويبدون انهم في وسط ساحة معركة اذ
يتنقل جنود مدججون بالسلاح وتمر عربات عسكرية بين تقف سيارة التاكسي وسط
دخان هذه الحرب تنتظر السيد المغني لغرض ان يعود الى بلده .
عن الفيلم
ومخرجه
وكما سبق
واشرت ان للفيلم عنوانان هما : اغنية في الرأس و ميلودراما حبيبي ومخرجه هو
هاني طمبا المولود في بيروت عام 1961. درس التصميم الغرافيكي في لندن سنة
1977 ، ثم عمل لمدة عشر سنوات كرسام مستقل للرسوم التوضيحية. و إشتغل كمصصم
للإعلانات التجارية، وأفلام الرسوم المتحركة. أخرج عدداً من الأفلام
الوثائقية من بينها "
entitled Beyrouth: les barbiers de cette ville"
عام 1988. ثم تبعه بعدة أفلام قصيرة " مبروك ثانية " 1999، و "
Du poil de
la bête " 2002، و " بيروت بعد الحلاقة " 2004. فاز فيلمه "
" Milleur
court Métrage
بجائزة السيزار الفرنسية عام 2006. يقول طامبا في احد اللقاءات
الصحافية معه " هناك أفلام ترتضي على نفسها الذهاب في مغامرة الترفيه
والتجارة. فيلمي هذا هو بين فيلم المؤلف والفيلم الجماهيري. أحب صنع افلام
مسلية. أصنعها لنفسي اولاً. ولكن السؤال محق حول توجه المال المحلي الى
السينما التجارية فقط والجمهور كذلك. لا ننسى ان هذا الجمهور، أُحيط لسنوات
طويلة بأفلام هوليوود وبات يطالب الفيلم اللبناني ان يقوم على معادلة
مماثلة بينما يستبعد ذلك كأنه يساوي بين النوعية والفيلم الهوليوودي. المهم
ان يعي المشاهد ان ذلك لا يمثل وحده السينما وما يجب ان تكون عليه. لذلك
نعود الى نقطة البداية وهي ضرورة فتح المجال لافلام مختلفة لتعبر عن نفسها.
في لبنان اليوم نوعان من الأفلام: الافلام العميقة المركبة والافلام
التجارية البحتة. ثمة شيء ناقص لكي تكتمل السلسلة وليعتاد المشاهد ان
التنوع امر طبيعي وضروري وان الفيلم اللبناني هو أكثر من فيلم عن الحرب او
من عمل تجاري خالص. وثمة شق آخر لمسألة علاقة الجمهور بالفيلم اللبناني هو
ما ذكرناه سابقاً عن رفضه مواجهة الحقائق والاتجاه الى اللهو والنسيان. في
حين ان الموضوعات الحساسة مثل الحرب لن تتوقف عن الظهور في السينما لأنها
اساسية وهي جرح مفتوح"..
الفيلم :
اغنية في الرأس او ميلودراما حبيبي
سيناريو
واخراج : هاني طمبا
تمثيل :
باتريك شيسنيس ، بيريت قطريب ، غابريل يامن ، جوليا قصار
سينماتك في
15 نوفمبر 2008
|