عندما يَعصف بك عشق عالم ما... تضع حياتك كلها بين يديه رهن المغامرة، وحين
يدهشك ويمارس سحره عليك... يغويك باكتشاف كنهه وامكاناته الكامنة، وما ان
تظن انك تنهي رحلة بحثك، حتى ينثرك بمزيد من الاسرار فيغويك للبدء من جديدة
باكتشافها، هذا حال المخرج العراقي قيس الزبيدي... وهو يتقصى اسرار السينما
تارة من خلال النقد والتحليل، وتارة اخرى عبر التجريب شكلا ومضمونا على
الفيلم السينمائي الروائي والتسجيلي منذ بداياته الاولى، بفيلم "بعيدا عن
الوطن" عام 1969، مرورا بالفيلم الروائي الطويل والتجريبي "اليازرلي"، من
ثم "شهادة الاطفال الفلسطينين زمن الحرب"، "سجل شعب" و"كابوس" حتى مؤخرا
فيلم "الوان"، وليتمكن من الاعتماد على نفسه في ترجمة تصوراته الخاصة، درس
التصوير والمونتاج السينمائي في المانيا في ستينات القرن الماضي، وكان
الطالب الوحيد من قسم التصوير الذي منحته الكلية فرصة اخراج فيلم التخرج
التسجيلي بالاضافة الى تصويره ومونتاجه وكتابة السيناريو له، بعد ذلك استمر
الزبيدي في العمل بمختلف تلك المجالات مع التركيز بالدرجة الاولى على
الاخراج، كما اضاف عدد من المؤلفات القيمة الى المكتبة السينمائية العربية
منها: "المرئي والمسموع في السينما"، "الوسيط الادبي في السينما"، "فلسطين
في السينما"...
اكتشاف اهمية التسجيلي
·
احتلت القضية الفلسطينية جل
اهتمامك، فمنحتها الحيز الاكبر في الافلام التي حققتها، ألذلك تَرجَح كفة
التسجيلي على الروائي في افلامك؟ هل الفيلم التسجيلي اقدر من الروائي على
ملامسة الواقع في مثل هذه القضايا؟
الزبيدي: اثناء مرحلة الدراسة في المانيا اخرجت فيلم مشروع التخرج، كان
تسجيليا وتناولت من خلاله حياة صياد على بحر البلطيق، حقق الفيلم نجاحا فتم
عرضه في البرنامج الالماني في مهرجان لايبزغ، بعدها بدأت ادرك اهمية الفيلم
التسجيلي، وبشكل عام التفت جيل السبعينات لاهمية السينما التسجيلية، حتى
اتذكر انه صدر في سوريا قرار من ادارة المؤسسة العامة السينما ان الاولوية
لانتاج الافلام التسجيلية.
الفيلم التسجيلي بطبيعته منفتح على الواقع اكثر من الفيلم الروائي، انا لست
ضد الفيلم الروائي، لكن الروائي غالبا لا يستطيع ان يتناول هذه القضايا
بشكل متكامل او يحيط بالموضوع من كل جوانبه، لانه طبيعة وخصوصية الفيلم
الروائي لا تسمح له بتناول ملحمي شامل، هنا تكمن اهمية الفيلم التسجيلي.
الدخول من الباب الضيق
·
اخترت صيغة الفيلم التسجيلي
والروائي التجريبي لتناول هذه القضية، في حين لا يوجد لكليهما جمهور، فكيف
يمكن ان تؤثر في المتلقي الغائب، وبالتالي من هو جمهورك المستهدف؟
الزبيدي: نعم لا يوجد للفيلم التسجيلي جمهور، فلم يعتاد على مشاهدة الافلام
التسجيلية، من ناحية اخرى هناك بعض الصعوبات في طريق عرضها في الوطن
العربي، لكن في وقتها لم افكر بمن سيحضر بقدر ان هناك قضية مهمة يجب الحديث
عنها والترويج لها ولفت الانتباه اليها دوليا، كانت مهمتي عرضها خارج نطاق
الدول العربية، وهذا بمثابة الدخول من الباب الضيق، ونحن فعلا استطعنا ان
نعرض في بعض المحافل في اوروبا والمهرجانات الدولية منها مهرجان لايبزغ في
المانيا، او ضمن اسابيع او تظاهرات سينمائية يتم تنظيمها، التي اخذت مع
الزمن تهتم بالسينما العربية، وبالافلام التي تتناول القضية الفلسطينية،
فبدأ عمليا جمهور السينما التسجيلية يكبر.
حتى عالميا لم يكن هناك جمهورا للسينما التسجيلية، باستثناء كوبا فقد كانت
الدولة الاشتراكية الوحيدة التي فيها عروض الافلام التسجيلية مثل عروض
الافلام الروائية، وكان المخرج الكوبي الكبير سانتياغو الفاريس في مختلف
المهرجانات الدولية سواء موسكو او لايبزغ ...، يناشد الجميع بان يمنحوا
الاهمية للفيلم التسجيلي كما الروائي؟ وان يتم عرضه في صالات العرض
التجارية؟
الابن اللقيط
·
من المسؤول عن غياب جمهور
الفيلم التسجيلي؟ هل طبيعة المادة التسجيلية غير جذابة للجمهور؟ ام ان
معالجة الفيلم التسجيلي للان لم تصل للمعادلة التي يمكن من خلالها استقطاب
الجمهور؟ ام ان الجهات المنتجة هي المسؤولة عن ذلك؟
الزبيدي: الجهات المنتجة تتحمل قدر من المسؤولية لانها غالبا ما تكون تابعة
لدولة او جهة تمثل ايدويولوجية الدولة وسلطتها... فتتخوف كثيرا من عكس صورة
الواقع، وبشكل خاص الحاضر، لهذا دائما حتى في الافلام السوفيتية العظيمة
التي تناولت التاريخ بشكل عظيم وساحر، عندما حاول مخرجيها تناول اي موضوع
له علاقة بالحاضر كان يجد دائما مشاكل وصعوبات.
من جهة اخرى الفيلم التسجيلي كالابن اللقيط، لا احد يرغب بان يعترف بأبوته.
بدأت التلفزيونات في السبعينات بالاهتمام بالفيلم التسجيلي، لكن حصل انحراف
وتشويه له ان كان في موضوعه او في صيغته الفنية، فاما يتخذ التاريخ كملاذ
على مستوى الموضوع، او على المستوى الفني اصبح اقرب للروبرتاج، ففقد بذلك
صفته كفن اصيل وراقي مثل الفيلم الروائي.
الان في المحطات الفضائية بدأ نسبيا الامر يتغير، بشكل خاص في محطة الجزيرة
الوثائقية، فلديها اهتمام كبير ومنهج لتطوير الفيلم التسجيلي ليس
بالمواصفات المعهودة، انما بمواصفات جديدة، من خلال التركيز على اهمية
الصورة، والتعبير البصري في الفيلم، كما تسعى لتغيير التصور السائد عن
الفيلم التسجيلي بان عليه ان يكون طويلا، واقرب الى الاخباري، ومصحوبا
بمساحة تعليق كبيرة، يتناسب مع طبيعة المشاهدة التلفزيونية التي لا تعتمد
على التركيز الكبير وتضع في اعتبارها الوقت الميت الذي من الممكن مثلا ان
يرد المشاهد فيه على الهاتف وهذا يقطع المشاهدة، كما تحرص هذه الفضائية ان
لا يبقى موضوع الفيلك التسجيلي ان يبقى محصورا بما هو مقبول ومتوافق فكريا
وايدولوجيا مع الجهات المنتجة والمسؤولة والمشرفة عليه اعلاميا.
الرؤية المستقلة
·
هذا يقودنا للسؤال من
المسؤول عن الرؤية التي يحملها الفيلم؟ ...فهل يحمل الفيلم تصور جهة
الانتاج ام تصور المخرج؟
الزبيدي: هناك مشكلة في السينما العربية، وواقع حالها ان الفيلم/الصورة هي
خليط بين رؤية المخرج وجهة الانتاج، وبالذات بعد ان دخل فيها جهات تمويل
غير عربية، حيث اي جهة انتاج ترغب بان لا يتعارض الفيلم مع مصلحتها او وجهة
نظرها، واذا ما اخذنا هذا كمفتاح وراقبنا اي المواضيع التي تم طرحها في
السينما العربية، وتحديدا تلك التي تتناول القضية الفلسطينية، نكتشف التصور
الثتائي او موالمة عمل الفيلم بحيث لا يتعارض مع الجهة الممولة.
اما بالنسبة لي فمنذ البدايات الاولى كنت اسعى لان امتلك الادوات التي
تمكني من تجسيد رؤيتي الخاصة بالاعتماد على نفسي، لذلك كانت البداية في
دراسة التصوير والمونتاج لاحصل على التمكن في الجانب التقني، ومنذ بدأت
مشواري العملي وانا احرص على حماية استقلالية رؤيتي، وبالتالي ان تعبر عن
تصوري انا وليس عن تصورات الجهات المنتجة اي كانت، لذاك عندما عملت في
البداية مع المؤسسة العامة للسينما في سوريا، لم اخرج اي فيلم يتناول
سوريا، وعندما دعيت عدة مرات كي اعمل افلاما عن العراق اعتذرت لان جميع
المشاريع المقترحة كانت تعبر عن تصور الجهة المنتجة وليس عن تصوري انا،
بالتالي لم انجح في عمل اي فيلم عن العراق.
لهذا اخذت القضية الفلسطينية حيزا كبيرا من اعمالي من ناحية لاهمية الموضوع
باعتباره بؤرة القضايا الاجتماعية والسياسية العربية، ومن ناحية اخرى كي
ابتعد عن اي موضوع قد يهدد استقلالية رؤيتي، فكنت اقدم افكار افلامي للجهة
المنتجة سواء اكانت المؤسسة العامة للسينما، ام لمنظمة التحرير، او اي جهة
اخرى، فاذا وافقت على رؤيتي نفذتها، غير ذلك اعتذر عن عمل اي فيلم
باملاءات.
الذات والوله بعالم التشكيل
·
منذ "بعيدا عن الوطن"،
"الزيارة" وانت في سعي دائم نحو التجريب لاكتشاف شكل واسلوب جديد لتقديم
المضمون... فكيف قاربت مؤخرا في فيلمك التسجيلي "الوان" اللون في تجربة
التشكيلي العراقي جبر علوان سينمائيا؟
الزبيدي: لا اعلم لماذا يأسرني عالم الفن التشكيلي، فمنذ كنت في المعهد
عملت فيلما ادخلت فيه الرسم، ثم في فيلم "الزيارة" الروائي التجريبي القصير
استخدمت الصور الفوتوغرافية والرسومات، وفي "شهادة الاطفال الفلسطينين في
زمن الحرب" تناولت رسوم الاطفال الفلسطينين، ثم فيلم "كابوس" كان عن
الكولاج لرسام الماني، والان عن الاعمال التشكيلية لجبر علوان.
لا شك ان جبر علوان رسام مهم عنده طريقة خاصة في استعمال الالوان، والطريف
اني سميت الفيلم "الوان" لاني اردت ان اعمل الفيلم عن اللون عند علوان
واسمه هذا يلفظ باللاتينية الوان وهو اسمه لكنه ايضا يشير الى اللون.
فيما اذا التقى فن السينما كوسيط، بالرسم كفن ووسيط مختلف، ثمة هناك اشياء
مشتركة بينهما واشياء متضادة فما ينتج عن ذلك يعتمد على معرفة ومهنية وقدرة
صانع الفيلم على ايجاد هذه العلاقات المتجانسة والمتفارقة. فمثلا من
الاشياء المختلفة ان اللوحة ثابتة سكونية واطارها متنوع في شكله وحجمه؛
مستطيل او مربع صغيرة او كبيرة، بينما السينما صورتها متحركة واطارها
محدود...
عمليا ليس المهم اللوحة بقدر ما هو اعادة تفكيك اللوحة واعادة بنائها
وربطها كلون وايقاع وملامح وموضوع باللوحة الثانية بمعنى اعادة تفكيكها
واعادة انتاجها سينمائيا، وهنا يعطيك المونتاج فرص بالتشكيل لا حدود لها.
وحاولت هنا ببناء مونتاجي ان اتطرق لعملية ابداع اللون عند هذا الرسام.
فيلمي ليس فيلم بورتريه عن جبر علوان العراقي، انما بحث في جذور اللون الذي
يستخدمه جبر علوان، اهو من دمشق (المدينة الشرقية) التي يقيم فيها بعض
الوقت ام من روما (المدينة الغربية) التي يقيم فيها البعض الاخر من الوقت،
ام من الذاكرة من بلده الام العراق.
نراه في الفيلم يرسم في روما، ويرسم في دمشق، اردت ان اكتشف من اين ياتي
باللون في كل مكان منهما، من شمس روما ام من شمس دمشق الاقوى والاكثر دفئا؟
وهل هناك فرقا في اللون ودرجته بينهما؟ ماذا نوع الموسيقى التي يسمعها
عندما يرسم في كل منهما؟
اضافة الى اني استخدمت مقطع من مسرحية جواد الاسدي "حمام بغدادي" التي رسم
جبر لها لوحة الخلفية وعبر حديثه عنها وعن تجربته هذه دخلت في موضوع العراق
هنا استرجعت اللوحات الذي رسمها عن العراق التي تختلف تماما عن اللوحات
التي يعرضها في الوقت الحاضر، بهذا الفيلم اول مرة اقترب من الموضوع
العراقي لكن بشكل تجريبي.
·
اين تظهر ذات قيس الزبيدي
في افلامك واين تتقاطع مع شخوصها؟
الزبيدي: الذات تتجلى بالتصور او رؤيتي للعمل وبالسينماتوغرافيا، فاي
موضوع هو موجود بالواقع، المهم كيف هؤلاء ينتقلوا من العالم الواقعي الى
العالم السينمائي، وضمن كيفية معالجة بصرية وصوتية سينمائية هذا هو انا
عمليا وهنا تظهر ذاتي.
شباب حاضر... مشروع غائب
·
قيس الزبيدي من شاب في
بداية عطائه والمشارك في افلام مهرجان دمشق الاول لسينما الشباب 1972، الى
عضو لجنة تحكيم في عدة مهرجانات عربية، عبر هذا المشوار الطويل كيف ترى
الافلام التي يقدمها الشباب الان مقارنة مع الافلام التي كان يقدمها جيلكم
في بداياته؟ اين يلتقيان واين يختلفان؟
الزبيدي: ما لاحظته بشكل خاص في مهرجان افلام من الامارات، حيث عدد
الافلام المشاركة حوالي 110، وعدد العاملين في المجال السينمائي يقترب من
ال 900 شخص، ان هؤلاء احبوا ان يعملوا سينما لكن ليس لديهم لا المشروع ولا
الحرفة اي غير مؤهلين ان يعملوا مشروع، الا ان ما يحدث بشكل عام شيء جيد،
اضافة الى اهمية محاولات التجريب في الفيلم التي يخوضها البعض. لكن عملنا
في المهرجان توصية بان يهتم الشباب بالفيلم التسجيلي لانه مهم لكن اهتمامهم
فيه للان قليل.
في حين ان ابناء جيلي لم يصل الى هذا العدد الكبير من العاملين الان في
السينما، لكن كان اغلبهم محصنا اكاديميا ومؤهلا كي يشتغل في السينما،
بالاضافة الى امتلاك مشروع واضح.
·
حدثنا عن طبيعة الفيلم الذي
تعكف على اخراجه الان؟
الزبيدي: حاليا اعمل على فيلم قد يمتد الى سلسلة افلام تتناول سكان
المناطق الحدودية والعلاقات بينهما، وفي هذا الفيلم اتناول القاطنين
السوريين على الحدود اللبنانية والقاطنين اللبنانيين على الحدود السورية،
والعلاقات التاريخية بينهما، العمل المشترك، الاسر المشتركة، والزيارات
المشتركة، لنكتشف كأن ليس هناك حدود يمكن اثباتها بشكل واقعي وموضوعي. كذلك
التعرف على ما يفرضه الوضع السياسي عليهم من صعوبات وكيف يتجاوزن تلك
الصعوبات.
*كاتبة في الصحافة السينمائية/الاردن
raniahaddadus@yahoo.com
سينماتك في 5
سبتمبر 2008
|