مقطوعة موسيقية رقيقة من مقدمة وست حركات متنوعة ومنسجمة، هكذا
هو الفيلم الروائي المصري "منهم وفيهم" إنتاج 2007 للمخرجة ماجي مرجان،
والذي تم عرضه مؤخرا ضمن برنامج كارافان السينما العربية الأوروبية في
عمان.
ست نساء تعزف كل منهن نغمتها الخاصة، ولكنها المتآلفة في نهاية
الأمر مع باقي النغمات، ست نغمات أو أفلام قصيرة يحمل كل منها عنوان
فرعي بمثابة ثيمة وهي على التوالي: وَنَس، رايحين على فين، لوحدي،
عصفور، أمّا أنا، وسعيد يعني (هابي).
لكل
مرآته
تسأل المرأة في الحركة او اللوحة الثانية "رايحين على فين"
نفسها، لمَ عندما يرغب المرء في البكاء يذهب إلى الحمام ؟ وهي التي شكل
لها الحمام الحضن الدافئ الوحيد القادر على احتضانها، فتجيب ليس فقط
لأنه يوفر الخصوصية وإنما أيضا لانه يتمكن من رؤية وجعه في مرآته،
فتنظر هناك مليا الى آثار الكدمات التي احدثها زوجها على وجهها الذي لم
يمنعه الاعتذار والندم من معاودة الضرب مرة تلو الأخرى.
المرآة مفردة حاضرة بشكل قوي حيث كل من نساء الفيلم ترى وتتلمس
وجعها أمام مرآتها الخاصة والتي قد تتخذ أشكالا مختلفة: فمثلا تستذكر
المرأة في اللوحة السادسة عندما راح الأستاذ يعلمهن وهن يرددن من خلفه
بكلمات تخرج من الفم دون أن تعرف طريقها إلى القلب ... سعيد يعني
(هابي)، وها هي الآن على مسافة سنوات تسأل نفسها ماذا تعني كلمة سعيد
وهي تتحدث عبر شريط التسجيل إلى صديقة قديمة مقيمة في السعودية لم
تلتقِ بها لزمن منذ اجبرها أهلها على ترك المدرسة لتتزوج وتذهب إلى
القاهرة، فيغدو الشريط بمثابة مرآة ترى ذاتها من خلاله، هي التي لم تكن
قد انتبهت انها لم تقف يوما أمام المرآة قبل المقابلة التي سمعتها
للمغنية روبي، والتي تقول فيها انه ليست هناك امرأة لا تقف وتغني وترقص
أمام المرآة ... فهل يمكن أن تنسى ذاتها إلى ذلك الحد الذي تنسى فيه
ملامحها، لتمنح كل حياتها لأسرتها دون أن يبقى شيئا لها، الآن تكتشف
بألم أمام الشريط حياتها التي ضاعت ورغبتها المغتصبة في استكمال
التعليم، ربما لكانت قد أصبحت معلمة موسيقى هذا ما تراءى أمامها الآن
في حلم يقظتها.
أما المرأة في اللوحة الرابعة "عصفور" هربت إلى القاهرة بعد أن
اغتصبها خالها، فلم تجد أمامها من سبيل سوى العمل في ملهى ليلي، وهي
الآن تقف أمام مرآة غرفتها في الملهى تتلمس وجعها، وتحلم بمغادرة هذا
المكان المعتم، تحدث نفسها بأن لابد من تحقيق حلمها البسيط في الوقوف
صباحا على جبل المقطم والتدثر بخيوط شمسه الذهبية والترنم بصوت
عصافيره.
كذلك في اللوحة الخامسة "أمّا أنا" لم تعد تقوى المرأة على
النظر إلى نفسها بالمرآة بعد أن تم استئصال الورم وصدرها بالكامل،
ففضلت أن تعطي ظهرها للمرآة وهي تستبدل ملابسها، فهل يحتاج المرء بعد
إلى النظر بالمرآة ليرى الجرح مادامت صورته مطبوعة في أعماق الروح؟
وفي "لوحدي" وهي اللوحة الثالثة تقف المرأة أمام صورة عثرت
عليها بالصدفة تعود إلى أيام طفولتها وهي أمام حوض السباحة مرتديه
المايوه، تغدو هذه الصورة بمثابة مرآة ترى فيها وجعها وحريتها المفقودة
منذ زمن بعيد، حيث من غير المسموح لها الآن بعد أن كبرت أن تخرج من
البيت إلا لشراء الأغراض الضرورية، وهي لا تمتلك حتى أن تختار الأشياء
التي تحبها، لا يحق لها شيء سوى العمل في المنزل.
ولكل
خَيارُه
كل شخصية من شخصيات الفيلم تقدم نفسها عبر مونولوجها الخاص،
ولربما من هنا جاء عنوان الفيلم "منهم وفيهم"، حيث تختفي المخرجة خلف
شخصياتها وكأنها توهمنا بحيادها، حين تترك الشخصيات المجال للمتلقي أن
يطلع على عالمها الداخلي برغبتها وإدراكها فتوجه حديثها ونظرها إلى
الكاميرا بعض الأحيان، إلا انه يؤخذ على المونولوج انه في بعض الأحيان
لا يقدم معلومة جديدة وانما يشرح ما يحدث بالصورة .
تتناول ماجي مرجان هذه الحكايات بأسلوب شاعري دافئ وجميل، كما
أنها تقدم نماذج نسائية متنوعة من خلفيات متباينة بتجربة كل منهن
الخاصة، لكن يشتركن في السؤال والبحث عن الذات، الحرية، السعادة، الحب،
والدفء، وكأن كل شخصية تشكل حلقة في سلسلة غير منتهية؛ فيبقى الصوت بعد
انتهاء كل لوحة مستمرا ليمتزج ببداية اللوحة التالية، كما هي الشخصيات
في الحياة كذلك هي في الفيلم البعض يجد طريقه؛ كالمرأة في لوحة "عصفور"
حيث قررت أن تتمرد وتغني أغنيتها التي تحب (عصفور طل من الشباك) فكسرت
قيدها وغادرت الملهى لتستمتع بفجر يوم جديد، في حين يبقى البعض عالقا
في مكانه؛ كما هي المرأة في لوحة "سعيد يعني هابي" حيث تبقى أسيرة
أحلام اليقظة فتحلم بأنها استكملت تعليمها أصبحت مغنية في حين أنها
لازالت تحفر الكوسة، أما البعض الآخر يجد الطرق الملائمة للتحايل على
المجتمع والواقع؛ كالمرأة في لوحة "لوحدي" فتقرر أن تعيش نوعا من
الحرية غير المعلنه؛ فتخرج كل يوم من المنزل بحجة شراء الأغراض
اللازمة، وتذهب إلى مسبح قريب لتنتزع من خلال السباحة هامشا من الحرية
التي تحلم بها ولتشعر ولو بالسر أنها قادرة على الاختيار.
هنا على مساحة هذا الفيلم تختلط ملامحنا وأسئلتنا بملامح وأسئلة
شخصياته، ونستكشف معها أوجاع روحنا، احلامنا... ويبقى لكل خياره.
raniahaddadus@yahoo.com
سينماتك
في 9 يناير 2008