"في البداية اختُرِعت الصُّور لاستحضار ما هو غائب. ولكن كان من الواضح
بالتدريج أن الصورة يمكن أن تُعَمّر بعد زوال ما تُصَوِّر".. (جون
بِرغر
John
Berger ـ طُرُقٌ للرؤية)
-1-
لأنني، مثلكم، شغوف كثيراً بالقصص والحكايات والروايات والأخبار، بل
حتى بالشائعات والأقاويل حين يتيح لي الوقت، فإني أود أن يبدأ حديثي
إليكم بسرد قصة، وهي قصة فيها من "النظريَّة" أكثر مما فيها من "إيضاح"
أو "شرح" النظريَّة التي يفترض أن أقدمها. إن سمحتم لي، إذن، سأقول
القصة، وسأعلق عليها "نظريَّاً" بإيجاز لاحقاً.
كان
يا ما كان في التاريخ الضبابي والرمادي لهذه الأرض وتلك السماء طائرة
حربية أمريكية مقرراً لها أن تهبط في محطتها الأخيرة في الإسكندرية
المصرية بسلام وأمان. وقد كان على متن الطائرة هذي طيار بريطاني متمرس
إضافة الى رجل وامرأة هما عضوان في الجيش الأمريكي. غير أن الطائرة،
عوضاً عن الهبوط في الاسكندرية، طوّر محرّكها مشكلة ميكانيكية خطيرة
وهي تحلق في مطبات هوائية عنيفة فوق العَرَبْيَا[i].
وبناء
على هذا الموقف الصعب وضروراته، فقد تبادل القبطان الإنجليزي الخبير
والمسافران العسكريان الأمريكيان الرزينان حواراً حول الأزمة
المفاجئة. ولم يخل الحوار، بطبيعة الحال، من شيىء من القلق والتوتر،
ولكنه بالنظر الى الظرف العسير في مواجهة احتمال الموت، كان حواراً
مفعماً بالكرامة، والكبرياء، ورباطة الجأش، والثقة بالنفس
والإمكانيات.
وفي
أثناء تبادل الحوار هذا اقترح أحد المسافرين الأمريكيين على الطيار
الإنجليزي عدم الهبوط على ما أسماه بـ "أرض العراق اليباب"، ثم، وبعد
أن أعرب عن هذه الحاسية "الإليوتيَّة" (نسبة، طبعاً، الى الشاعر الكبير
تي إس إليُت
T. S.
Eliot
مؤلف "الأرض اليباب" الذي لم يكن يقصد العراق على الإطلاق)، أضاف
العسكري الأمريكي في حديثه إلى الطيّار البريطاني هذه النصيحة
"المنطقيَّة" مشيراً الى البلاد التي ولدت على أرضها أقدم الحضارات
البشرية، وقدمت للإنسانية اسهامات واختراعات من قبيل القانون، ومن قبيل
الكتابة حيث تمت كتابة كلمة "حُب" للمرة الأولى في التاريخ على أرض
العراق، بالعبارة التالية: "حاول أن تجد مكاناً [للهبوط] توجد فيه بعض
الحضارة!"، غير أن هذا، لشديد الأسف، فيما يخص الأشخاص الغربيين أولئك،
وفيما يخص الحضارة البشرية أمس واليوم وغداً، وفيما يخص الكتابة
والقراءة، وفيما يخصني شخصياً كذلك بالنظر الى خلفيتي وهويتي الثقافية،
لم يكن متاحاً!.
أتمنى
ألا يدعو الأمر إلى التثاؤب خاصة لمدمني مشاهدة نشرات الأخبار التي
تبثها القنوات التلفزيونية الأمريكية اليوم. ولا أريد أن أطيل عليكم،
ولذلك سأقول أن الغربيين الثلاثة تمكنوا من الهبوط، حرفياً بالطبع، من
"الأعلى"، من السماء، من الأعالي حيث يوجد الرب، على "أرض يباب" معينة،
حيث يوجد الإنسان- أو ربما إنسان معين فحسب- في منفاه وشقائه الأزليين
بسبب ابتعاده عن مصدر الغفران والرحمة؛ لأن هذا الإنسان "الآخر"
أنْفُهُ "مُفَلْطَحٌ قليلاً" و"سُحْنَتُهُ مختلفة" إذا ما أنتم سمحتم
لي باستحضار جوزِف كونراد
Joseph
Conrad
في "قلب الظلام" .
وبعد
الهبوط الاضطراري الذي تم تنفيذه بطريقة تثير إعجاب وإكبار كل من شهده،
وجد الطيار الإنجليزي وشبه مواطناه الأمريكيين أنفسهم على أرض "عَبَدَة
الشيطان"- والله، بلى، هكذا بالضبط، والذين يخبرنا عنهم السرد أكثر
بالتفصيل الحرفي التالي: هم " قبائل عربيَّة جلفة وقاسية تقطن على
تلٍّ سفحيٍّ لا تغادره إلا لأجل ارتكاب السرقة والقتل".
وبصوت
عال للغاية، "ينوِّرنا" السرد أكثر وأكثر حول خصائص وصفات تلك "القبائل
العربيَّة الجلفة والقاسية" التي كان على الغربيين الثلاثة، سيئي الحظ
والتوقيت، التعامل معها، فأفراد تلك القبائل العربيَّة "يكرهون
الأوروبيين، ويمكن أن يكونوا كريهين للغاية". وفي هذا السياق الكارثي
غير الجدير بالحسد يُرفع الأذان الذي يقول لنا السرد، وبالحرف الواحد،
انه دعوة "للقاء الشيطان".
وفي
الحقيقة، فإن "شيطانيَّة" الأمر كله يتم توكيدها فوراً عبر ظهور
امرأتين مثيرتي الجمال وملامحمها غربيَّة صريحة، على الرغم من إنهما
يفترض ان تكونا من أفراد تلك "القبائل العربيَّة الجلفة والقاسية"،
وهما تمشيان راقصتين في حالة نشوة وبُحران مسحورين (لا شك لأن سيء
الذكر في كل الثقافات البشرية، الشيطان، قد مسّهما فور رفع الأذان،
ولهذا تبدل كل شيىء بما في ذلك ملامحهما!). كما يظهر قطيع من دهماء
العرب وهم ينحنون بطريقة تبجيل وتوقير دينيين أمام ثعبان هو، وفقاً
للوثيقة التي أنا بصددها، "صورة الشيطان".
وفي
سياق هذا السرد الإبليسي المخيف ينبثق الشيخ أحمد والجلادون التابعون
له والمؤتمرون بأمره (لاحظوا هنا، من فضلكم، ان اسم "أحمد" مرادف اسمي
عربي وإسلامي منصوح به لاسم الرسول محمد في المأثور الإسلامي، حيث "خير
الأسماء ما حُمّد وعُبّد". وتذكروا كذلك، لو سمحتم، أن اسم الشخصية
العربية الرئيسية في رواية البريطانية إِدِثْ هِلْ
Edith
Hill،
"الشيخ"، التي اقتبستها السينمائية الأمريكية بنفس العنوان في الفيلم
الأسطوري الذي أسس الافتتان الغيري والغرائبي بالعربي بإخراج جورج
مِلْفُرد
George
Milford في 1921، أي منذ أكثر من ثمانين سنة من الحرب الدائرة رحاها
الآن في "الأرض اليباب"، هو "أحمد" كذلك).
والشيخ أحمد، فيما يخص الوثيقة التي أعالجها في هذه المداخلة، يبدو حسب
ظاهر الأمور، شخصاً مهيباً وجليلاً من الخارج، كما انه يزاوج بطريقة في
غاية البراعة بين المهارتين اللغويتين الإنجليزية والعربية. ولابد هنا
من ملاحظة أن انجليزية الشيخ أحمد معصومة من الخطأ النحوي أو القواعدي
وإن كان استعماله لها- وهو بلكنة أجنبية واضحة لكنها وقورة في الوقت
نفسه- يتسم بالتنميق الطنّان الرنّان الذي يبدو شكسبيريَّاً أكثر مما
ينبغي في زمن صدور الوثيقة التي أحاول محاورتها هنا، فهو متحذلق
ومتفاصح بصورة صريحة، بحيث أن طريقة استعماله للغة تصبح واحدة من أدوات
تباهيه وتصنُّعه الكثيرة. وإضافة الى ذلك، أود أن ألاحظ هنا أن الشيخ
أحمد لا يتحدث بالعربية، التي هي لغته الأم، إلا نادراً.
وفي
بادرة سخية من مبادرات الغرائبية المتعمَّدة ذاتيَّاً
(self-exoticization)
يبوح الشيخ أحمد لـ "ضيوفه" الغربيين الثلاثة أن: "الدين الذي يدين به
قومي كان دوماً ديناً بدائيَّاً". وعلاوة على ذلك، فإن الشيخ أحمد
يعترف بصراحة قلبية غامرة ان "تطرّف" دين أمته لتطرُّف "خارج امكانية
التحكم به". ثم لا يبخل في عبارة أخرى تالية بإيضاح أكبر فيما يخص
الدين الذي يدين به شعبه والذي هو، كما نعلم جميعاً خارج هذه الوثيقة،
أحد أديان العالم الثلاثة التوحيديَّة الكبرى وأسرعها وأكثرها
انتشاراً: إنه، ببساطة شديدة، كما يخبرنا الشيخ أحمد، دينٌ "وثنيٌّ
وذو معتقدات خرافيَّة".
وكما
لو أنه كان يقرأ من وثيقة أنثروبولوجيَّة، أو سياسيَّة، أو
سوسيولوجيَّة، أو ثقافيَّة كلاسيكيَّة من الإرشيف الكولونيالي
والإمبريالي للقرن التاسع عشر فإن الشيخ أحمد يتبرع، على نحوٍ ببغائيٍّ
للغاية، بقول التالي: "إننا نعلم جيداً اننا برابرة!". ولِمَ لا،
فالتعليق العجيب الغريب هذا تتبعه أحداث "بربريَّة" للغاية!.
ما
حدث، إذن، هو انه بعد عدد من اللمسات "الكيِّسة" التي تتمتع وتشتهر بها
الضيافة العربيَّة "المخادعة"، بما في ذلك عدة محاولات إغواء قام بها
الشيخ أحمد للإيقاع جنسياًَّ بالمرأة (العسكرية) الأمريكية، فإن الشيخ
الجليل هذا يقرر أخذ "الضيوف" الغربيين الثلاثة رهائن لديه. وبهذا
يتحول الأمر إلى صراع وتناحر عام، ولهذا يصرح أحد كبار القادة
العسكريين الأمريكيين بعزم وثبات شديدين: "إن سياسة الحكومة الأمريكية
هي عدم المساومة مع رجال العصابات أبداً".
ولإطلاق سراح الرهائن الغربيين، ومن أجل جلب نهاية لهذه القصة
"الشيطانيَّة" حقاً، تقوم الطائرات الحربيَّة الأمريكية بقصف المكان
العربي "اليباب"- العراقي تحديداً- الذي "بلا حضارة". ولهذا فإن الشيخ
أحمد، ما أن يشاهد "الصدمة والرعب" في القصف الرهيب، حتى يبادر
بالإعلان في استسلام ممسوس: "إنني أنحني لقوَّتكم المتفوقة"، وهذه
كانت النهاية.
بالتأكيد، ضمن نوع معين من الإحتمال الواقعي
(verisimilitude)
بالمعنيين التقني والعام، فإن السرد الذي ذكرتُ يبدو انه قد ألهمته
الحرب الأمريكية السابقة أو الحالية (اللاحقة أيضاً؟) في الخليج، لكن
الأمر ليس كذلك أبداً. فالسرد هذا ملخص لـ "بروفة" معينة ومبكرة لما
يدور الآن في العراق، وقد أجريت "البروفة" هذي في العام 1943، في فيلم
"مغامرة في العراق" الذي أنتجته السينما الأمريكية بإخراج ديفِد روس
ليدرمَن
David
Ross Lederman،
وقد تم عرضه للجنود الأمريكيين في المعسكرات أثناء الحرب الحاليَّة
الدائرة رحاها قي العراق.
حقاً،
إن الخيط الدقيق الذي يفصل "الحقيقة" من "الخيال" و"التاريخ" من
"السينما" يتضاءل ثم يغيب. لقد كان غرِغُري لوكو
Gregory
Lukow وستيفن رِتشي
Steven
Ricci
محقّين تماماً في دراستهما للنوع
(genre)
السينمائي من زمان حين ابتدعا مفهوم السباق الإبدالي متداخل النصوص
(intertextual relay).
-2-
لقد
حاجج سِغِفرِد كرَكاوَر
Siegfried Kracauer، الذي لم يكن ميتافيزيقيَّاً ولا خرافيَّاً على الإطلاق،
بكفاءة وضراوة في كتابه التشريعي "من كاليغاري إلى هتلر: تاريخ
سايكولوجي للسينما الألمانية" بأنه حين تتم مشاهدة الأفلام بوصفها
مشروعاً جمعياً، وليس فردياً، فإنها تكف عن كونها نتاجاً صُنْعْيَّاً
بحد ذاته، بل تصبح تسجيلات دقيقة تتضمن آثار سياق أكبر لأن الأمر
ببساطة هو "ان الأفلام التي تنتجها أمّة ما تعكس عقليتها بطريقة مباشرة
أكثر من أي فن آخر".
وأطروحة كرَكاوَر الكبرى في هذا الكتاب التشريعي هي أن أفلام ألمانيا
الفيميريَّة عكست صعود النازيَّة قبل وصولها الى سدة الحكم، فحتى قبل
وصول الفاشيين إلى السلطة كانت السينما الألمانية تحدس وترهص بمجيئهم،
كما في فيلم "م" لفرِتز لانغ
Fritz
Lang
الذي تم انتاجه في 1931 . ويضيف كرَكاوَر أن السينما لا تعكس روح
وشعور ووجدان الأمَّة
(zeitgeist)
في الفترة التي انتجت فيها تلك الأفلام فحسب، ولكنها توفر كذلك متنفساً
للرغبات والأمزجة المقموعة لتلك الثقافة.
وبصورة مشابهة (تقريباً) لما قاله كرَكاوَر فإن المؤرخ الفرنسي مارك
فيرو
Marc
Ferro
معنيٌّ في كتابه الشيّق "السينما والتاريخ" بأسئلة من قبيل: كيف
تستطيع السينما أن تعكس "عقليَّة" حقبة ما؟. وفي هذا الصدد يذهب فيرو
الى التساؤل عما اذا كانت الأفلام وثائق "تاريخيَّة" مُغْفَلَة. ولهذا
فقد انكبَّ فيرو على دراسة السينما السوفييتية المبكرة واستنتج أن
السينما يمكن أن تكون "مصدراً" أو "أداة محركة" للتاريخ أو الاثنين
معاً.
فالسينما يمكن أن تكون مصدراً للتاريخ لأنها ترينا التجليات الخارجية،
بما في ذلك المظاهر الأيديولوجية والمواقف الاجتماعية لبرهة تاريخية
معينة. دعوني، من فضلكم، أضرب هذا المثال البسيط: إننا نستطيع الآن،
في القرن الواحد والعشرين، التعرف الى الأزياء التي كان يرتديها الناس
في بلاد ما في القرن السابع عشر حين نشاهد فيلماً تدور أحداثه في تلك
البلاد خلال القرن السابع عشر.
لكن
السينما، وهذا هو الأهم في أطروحة فيرو، يمكن أيضاً أن تحل محل
التاريخ، فمثلاً، أصبح فيلم عبقري السينما السوفييتية سيرغي آيزنشتاين
Sergei Eisenstein
"المدمرة بوتِمكِن" (1925) صنواً ثقافياً للثورة الروسية بحيث إننا
نتذكر الفيلم تلقائياً كلما تذكرنا ما حدث في روسيا في 1917، هذا على
الرغم من أن فيلم "المدمرة بوتِمكِن" احتوى على مشاهد لم "تحدث" أبداً
خلال تدفق الأحداث التي أدت الى قيام الجمهورية الاشتراكية الأولى.
ويُذَكِّرنا فيرو أن الأفلام الأوروبية التي أنتجت قبيل أو بعيد 1940
عملت بوصفها أداة محركة للتاريخ من حيث أنه على ضوء سرديات تلك الأفلام
قام أفراد وأقوام باختيار أصدقائهم وأعدائهم في الحرب الغربية الطاحنة
التي دارت في الأربعينيات وحتى قبل اطلاق الرصاصة الأولى في ذلك المجون
الدموي الشنيع.
أعلم
جيداً أن محاججة فيرو هذه ستسبب مقداراً لا بأس به من الحرج للماركسيين
الحنبليين منكم. علينا دوماً أن نرحب بالحَرج، وعلينا أن نتذكر ان
العلاقة بين "البنية التحتية" و"البنية الفوقية" سيطرت عليها قراءات
دوغمائية في الفكر الماركسي لوقت طويل. وعلينا أيضاً أن نتذكر انه في
المجموعة الكاملة لمراسلات ماركس
Marx
وانغلز
Engels
ثمة إشارات إلى أن العلاقة بين البُنْيَتين يمكن أن تكون تبادليَّة
ومشتركَة، وليست بالضرورة دوماً علاقة ذات اتجاه واحد.
-3—
نلاحظ اليوم أن اثنين من الألقاب الإزدرائية الأثيرة التي
يطلقها جنود الإحتلال الأمريكيين على العراقيين اليوم هما
“Sheiks”،
صيغة الجمع في الإنجليزية لـ "شيخ" و
“Hajies”
صيغة الجمع لـ"حاج" أو "حاجي"، وذلك في اتكاء ببغائي تحقيري على شخصيتي
الشيخ والحاج، السينمائيتين، المنمطتين، اللتين كرستهما هوليوود، ضمن
شخصيات أخرى، في تصوير العرب والمسلمين خلال قرن ونيف من الزمان.
كما
نلاحظ أن صفات من قبيل "الشيطانيَّة" و"الدمويَّة" و"الإرهاب" و"العنف"
و"عدم احترام الحياة البشرية" و"التخلف" "والبدائية" هي غيض من فيض
المفردات والعبارات التحاملية والإتهامية المُهينة التي تسبغها
المؤسسات السياسية والفكرية والثقافية على العرب والمسلمين اليوم.
-4-
اسمحوا لي، من فضلكم، أن أتوقف عند هذه النقطة، لسبب بسيط هو اني أريد
أن أضطلع بمسؤوليتي الأخلاقية بصفتي أحد مواطني هذا العالم، وذلك من
خلال مطالبتي بأن يضع القتل المجاني والشيطاني والدموي والإرهابي
العنيف الذي لا يحترم الحياة البشرية لـ "الآخرين" من أطفال ونساء
ورجال (ما دام هذا ليس مجال الحديث عن الحياة "غير البشرية" في أمثلة
من قبيل المخطوطات، والقطط، وأشجار النخيل، ومياه الأنهار التي صارت
الأسماك فيها تتغذى على الجثث البشرية)، والدائر في العراق الآن،
أوزاره فوراً، حتى يتمكن المرء، في مناسبة قادمة، من قول أشياء أكثر
جدارة بوقتكم واهتمامكم عن العلاقة بين السينما والتاريخ وعن فيلم
"مغامرة في العراق" الذي أنتجته الولايات المتحدة الأمريكية في 20 مارس
2003 ولا زالت مستمرة في انتاجه حتى الآن. عفواً، قصدت أن ذلك الفيلم
قد أُنتج في 1943!.
وما
دمت أتحدث عن العلاقة بين السينما (وهي أداة إعلامية) والتاريخ فإني
أود، ختاماً، أن ألاحظ أن وسائل الإعلام الأمريكية- بما فيها بعض
مؤسسات الإعلام البديل للأسف الشديد- قد دأبت على وصف الحرب الدائرة
رحاها في العراق اليوم، والتي قد تمتد بشرورها الجهنمية منها إلى بلدان
أخرى في المنطقة.. دأبت وسائل الإعلام تلك على وصف هذه الحرب، إذن، بـ
"حرب الخليج الثانية". وهذه التسمية تفترض بداهةً ان الحرب التي
اشتعلت في المنطقة في 1991 على اثر قيام العراق باحتلال الكويت هي "حرب
الخليج الأولى." إن هذه التسمية تتناسى بصورة تبعث على الارتياب ان
العراق وإيران قد انخرطا في حرب ضروس دامية لمدة ثماني سنوات منذ 1980
على اثر تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد خسر أكثر من مليون
إنسان حياتهم في تلك الحرب، ناهيك عن عدد الجرحى والمعاقين والخسائر
الاقتصادية وغيرها من خسائر. لقد كانت تلك هي حرب الخليج الأولى
حقاً. غير ان إسقاطها من ترقيم "حروب الخليج" في وسائل الإعلام
الأمريكية ليس إلا إفادة عنصرية جديدة وصريحة للعقلية الكولونيالية
والإمبريالية القديمة التي تقرن "صناعة التاريخ" بموعد وصول الرجل
الأبيض إلى الموقع الذي يفترض أن "يُصنَعَ" فيه التاريخ. وما دامت حرب
الخليج الأولى فعلياً لم تَدُرْ "بيننا" و"بينهم" مباشرة، بل "بينهم"
و"بينهم"، فإن عليها أن تسقط من التاريخ!.