سينماتك

 

كتاب المقارنات:

سينما تاركوفسكي جدل شعري متفرد

احمد ثامر جهاد

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

( لا يوجد في العالم سعادة ، لكن يوجد طمأنينة وإرادة )

( تبنى الصورة السينمائية الحقيقية على هدم الفن )

تاركوفسكي  

يرى البعض ان أفلام المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي عسيرة الفهم ، غير واضحة ، ذاتية وكئيبة إلى حد كبير ، لكنهم يعترفون أيضا إن أفلامه كالموسيقى العظيمة تترك انطباعا حسيا قاسيا لا ينسى حول معنى الحياة والموت والإنسان ، فيما يرى آخرون إن سينماه توثق شعريا لمعاناة الفرد وقلقه الروحي وجهله بجوهر نواميس الكون . سينما طليعية ادراكية وذاتية تعرض صورة التواصل الإنساني وتوقظ في الكائن بواطن مشاعره وأفكاره تجاه مصيره النهائي . وبالنسبة لمخرجين كثر اعتادوا إثارة البهجة لدى جمهورهم بأي ثمن ، يبقى اسم تاركوفسكي مقترنا بغموض آسر يجتذب النخبة على نحو خاص .

في حوارها معه تعبر الناقدة ( اولغا سوكورفا ) عن هذا الانطباع وتكتب في مقدمة كتابها ( كتاب المقارنات ) قائلة : " إن طابع صلة الفنان مع جمهوره ، ليست مقياسا نهائيا في فهم دور وأهمية إبداعه ". فتدخل عبر وجوه حوارها المختلفة والطويلة إلى عوالم تاركوفسكي الذهنية ، وتعرفه بداية للقارئ من خلال مراسلاته مع الجمهور التي تعرض جانبا من الجدل الواسع حول فيلمه الشهير والعميق فلسفيا ( المرآة ) بوصفه اكثر أفلامه تأملية وأهمية ، بعد ( طفولة ايفان ) و( اندريه روبليف ) . لنرى كيف تتفاوت ردود فعل المتلقين واستجابتهم إزاء هذا الفيلم ، كما مع باقي أفلام تاركوفسكي التي لا تلبي بشكل تقليدي رغبة من يبحث عن منطق رياضي لفهم الإنسان ومغزى حياته التي هي بالنسبة للمخرج معاشرة روحية من نوع ما بين الأحاسيس والصور والذكريات . في كتابه ( السينما والحياة ) جاء على لسان المخرج : الصورة هي انعكاس شاعري للحياة نفسها . استعارة . نحن لا يمكننا أن نلمس الرحابة الفسيحة ، لكن الصورة – الاستعارة ، قادرة على حصدها .. "

يهتم تاركوفسكي كثيرا بالصدق الفني في نقل لوحة الحياة المتناقضة بشكل رمزي ، كما يراها هو بحسه الأخلاقي الديالكتيكي الفريد ، وبما يؤهله للمس أغوار النفس البشرية ومعاينتها بحس صانع اللوحة التشكيلية الذي يتفوه الحقيقة بلغة إيحائية ساحرة ، لا تصف ولا تشرح ، لكنها تومئ حينما تسعى لترسيخ جدارتها في فك التغامض المحايث للطبيعة البشرية . لذلك نراه ينطلق من الحاجة الملحة في فهم هذا الموقف أو تلك الظاهرة وتغييرها وان كان ذلك عبر مصفاة التصورات الذاتية والتجارب الشخصية ورسم الماضي بحنين موجع . ربما يعد هذا أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت أفلامه غير مفبركة ولا مصنوعة ببريق خارجي ظاهر مثلما يدعي نقاده ، قدر انتمائها لوجهات نظر أصيلة مشفوعة باستدلالات روحية حية تعرض للعالم بوصفه معضلة ، ولتفكير الإنسان بوصفة تجريبا متواصلا لا يهادن في إيصال اعمق رغباته والتعبير عنها ، من دون أن يعني ذلك انسياقه التام مع ديماغوجية عنيدة تعتقد بصواب الحتمي دوما .

ليس فقط لانه الابن الموهوب للشاعر آرسين تاركوفسكي ، إنما لحساسية فطرية تميز بها منذ سنوات عمره المبكرة ، كان تاركوفسكي شاعرا مرهفا بما يكفي لحب الحياة والانحياز لمنطقها الخفي والأصيل ، سواء في رسم شخصياته أو في صياغة مصائرها التي تجعلها صادقة ومقنعة ، والاهم من ذلك كله في جعلها جذابة ومؤثرة في مطلق خيرها وشرها وجمالها . فالفن بالنسبة لتاركوفسكي كما هو للكاتب الروسي غوغول ، يبدو قويا بالنسبة للآخرين بقدرته على الإقناع ، وبحيويته الفريدة . ويعبر المخرج عن رؤيته قائلا : " إن الفن يصبح خطيئة عندما أبدأ باستخدامه لاهدافي واهتماماتي الخاصة . كذلك لا يجب أن انظر إلى ما أريد القيام به، على انه إبداع حر، ولكن على أساس انه فعل لا بد من تحقيقه، حيث أن العمل لا يمكن أن يوفر الراحة والمتعة، وانما يمثل واجبا صعبا ومعذبا. (السينما والحياة).

ورغم تمسكه به حتى في اشد لحظات حياته حلكة ، تعرض تاركوفسكي في موطنه السوفيتي إلى سوء فهم وضغوطات كبيرة من السلطات البيروقراطية ، وقد برع خصومه في صياغة تهم مبتذلة تشكك بمواطنته ورجاحة عقله ، فيما حاول نفر من دعاة الالتزام المتفائل بمصير الأمة الجبارة وسعادة مواطنيها الأنقياء اتهامه بخيانة مبادئ الثورة . لذلك يبدو تاركوفسكي في مسيرته الفنية كمنشق انه لم ينجو من تهمة تحريف الديالكتيك التي كانت خطرة على اغلب إبداعه على قدر خطورة عبقريته السينمائية الفذة . فمن كان بوسعه أن يخاتل العقيدة السوفيتية ليبرر لهذا المخرج اعتقاده القائل : " إن الفنان المفكر سيصبح آيديولوجيا ومدافعا عن المعاصرة ، وعاملا محفزا ومحتما للتغيرات . فيما تكمن عظمة وجلاء الفن المرتبط بالهزات الأخلاقية والمعنوية في انه لا يبرهن ولا يفسر ولا يجيب عن الأسئلة . انه ليس إلا نقوش محذرة ومهددة ". من كان بوسعه في ظل شبح الكرملين مجرد التفكير بذلك ؟

تذكر ( اولغا سوكورفا ) في نص حوارها المسجل مع المخرج حول المبادئ العامة الفن : إن تاركوفسكي لا يستطيع إلا أن يقف ضد ذلك النظام الحيواني المتوحش لتلك الدائرة من الناس ضيقي الأفق ، في اكثر أشكاله قسوة وحسما ، لان كل أفلامه في نهاية المطاف هي عن شئ واحد .. عن ذلك العطش الإنساني للانسجام الرائع والسامي ، والذي يرفع إلى الأعلى الروح الإنسانية ، ويسعى إلى الحقيقة الإنسانية . إن أفلامه تتحدث عن الثمن الدرامي القاسي الذي يدفعه الإنسان نتيجة لسعيه هذا نحو الانسجام . ولكن بمقدار ما يرتفع ثمن القهر الممارس ، بمقدار ما يكون العقاب اكثر إيلاما .

هكذا يقدم (كتاب المقارنات ) شهادات نظرية ذات أهمية فائقة في فهم سينما تاركوفسكي من خلال حوارات مطولة وشروحات فكرية وفنية تمتلك خصوصيتها في إضاءة إبداعه السينمائي. ورغم أن الكتاب لا يعرض لحياة المخرج الشخصية والتي لعبت دورا كبيرا في تكوينه الفني والأخلاقي، إلا انه يطرح صورة شاملة عن أفكار المخرج وتصوراته حول الفن والثقافة ونظريات الفيلم وأسس العملية الإبداعية وقضايا الالتزام والحرية. وفي لجة الأجوبة الذكية والجريئة التي تعبر عن رؤياه الفلسفية والفنية للعالم ، لا يسعك النظر إلى تاركوفسكي إلا بوصفه مثقفا روسياً من طراز خاص ترك للعالم إبداعا سينمائيا إشكاليا يزخر بالأسى الشعري . ولم تغير حقيقة أن معظم أفلامه كانت ممنوعة من العرض في روسيا من حجم هذه العبقرية السينمائية في شتى أرجاء العالم ، بل زادته شهرة ومكانة بين مجايليه ، فقد تجاوز المخرج ببساطة تقاليد التفكير السائد ، وتحدث بلغة شعوره الخاص بالعالم .

تاركوفسكي الذي احب أفلام بيرغمان وروايات دستويفسكي وموسيقى موتزارت وباخ كان يحلم بصنع فيلم دون أبطال ، معتبرا انه لكي تكتب بشكل جيد ، يجب أن تنسى القواعد . ويقول واصفا الغاز تجربته السينمائية : " إن تجربتي تبرهن على عدم إمكانية التعلم بان تكون فنانا بواسطة معهد دراسي ". فعقب تشربه بالثقافة والفن والشعر والتقاليد الكلاسيكية في صناعة السينما كرس تاركوفسكي جل حياته لمتابعة تحقيق حلمه ذاك ، عبر خلق أفلام مغايرة ذات طابع تحليلي، أفلام بطيئة ، مضادة للنوازع التجارية وخالية من الجاذبية الرخيصة للدراما السينمائية .

هامش :

كتاب المقارنات – حوارات مع تاركوفسكي : اولغا سوكورفا – ترجمة : يونس كامل ديب . منشورات وزارة الثقافة – سلسلة الفن السابع ( ع 68 ) 2003

القصة العراقية في 07 أبريل 2007