كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

مارون بغدادي في ذكرى رحيله الخامسة عشرة

ريما المسمار

يجرّ الكلام على مارون بغدادي فتح بابٍ ليس من السهل إغلاقه. ويقود السؤال عنه والبحث حوله الى فيضٍ من الأخبار والمعلومات، متناقضٍ في كثيرٍ من الأحيان، من شأنه أن يحرك فضول السائل ويشغله لفترة طويلة من دون أن يعثر له على إجابة ناجعة. غنيٌ عن القول إن مثل هذا الغموض وهذا التناقض هما مصدر سحر الشخصيات العامة وسر الانشغال بها. وهما قبل أي شيء ما يضعها خارج إطار الاسطورة المتصلب والعصي على الأحاسيس الإنسانية. برغم ذلك، لم تمنع تلك الصورة القائمة على التناقضات كثيرين من "أسطرة" السينمائي، متخذين من صفاته تلك عذراً لذلك. فهو في عرف أصدقائه والمقربين منه وحتى في عرف من لم يحبوه ـ كان حوله بالتأكيد أشخاص لم يحبوه وما ذلك إلا مثال على ما كانت شخصيته تولده من ردود فعل حدية لا مساومة فيها ـ شخصية تمتاز بخصوصية وبفرادة وبكاريزما آسرة. مما لا شك فيه أن ميتته المفاجئة والمفجعة أضافت الى ذاك المنحى في التعاطي معه، كأن موته على تلك الشاكلة حمل خلاصة هي في الأصل نابعة من معتقد شعبي لا يخلو من تسليم قدري من أن الحياة تُسلَب غالباً من مستحقيها أو من اللائقين بها، على غرار ما ترتبط به ميتات مشاهير في التاريخ من أمثال جايمس دين ومارلين مونرو وآخرين ممن خلفوا تلك الغصة بأعمارهم المبتورة. أجل، حياة مارون بغدادي بُتِرَت ولم تنتهِ بالنسبة الى من عرفوه من قريب أو من بعيد. حياةٌ قصيرة، لم تتم ثلاثةً وأربعين عاماً ـ إذ فارق الحياة قبل عيد ميلاده بنحو عشرين يوماً ـ وإنما ثرية على الصعيدين الإنساني والمهني، انتهت بزلّة قدم، غالب الظن أن سببها حيويته الفائضة، بحسب أهله وأصدقائه، التي كانت تدفعه الى التهام الدرج المؤدية الى بيت أمه في الطبقة الخامسة من بناية قديمة بمنطقة الأشرفية بخطوتين أو ثلاث حتى في العتمة الحالكة. ولعل التمعن في تفاصيل الحادث لن يقود إلا الى مزيد من الإحساس بـ"حتمية القدر" المتربصة به والتي حاكت المواقف الصغرى في تلك الليلة ونسجتها بحيث لم يعد هنالك من مفر. من تلك التفاصيل أنه لم يكن وحيداً، بل إن سيارة من الصحافيين الأصدقاء أقلته الى البيت بعيد منتصف ليل 9 ـ 10 كانون الأول/ ديسمبر 1993 وكانت في انتظاره ريثما يأتي بكاسيت فيديو من المنزل، ولكن أحداً لم يفكر باللحاق به عندما تأخر لأنه كان ببساطة معروفاً بحبه لـ"المقالب"، يحبكها جيداً ويسوقها على الأصدقاء تحديداً. ومن مفارقات الحادث أيضاً، أن التيار الكهربائي انقطع في تلك الليلة زهاء ربع ساعة بحسب ما لاحظ أحد أصدقائه لاحقاً هي الفترة التي وصل مارون خلالها الى المبنى واجتاز الدرج المعتم وهوى. حتى الفانوس الصغير الذي اعطاه اياه صديقه سمير فرنجية قبل أيام من الحادث تحديداً لاستخدامه في ذلك الظرف، كان قد تركه على الطاولة الصغيرة قرب سريره. حدث ذلك قبل خمس عشرة سنة، هي الدافع الأساسي الى استعادة مارون بغدادي اليوم، رغبةً في تقديمه الى جيل لا يعرف عنه سوى سمعته إذ يستعصي عليه مشاهدة الجزء الأكبر من أعماله ـ بعضه مختفٍ كشريطه "تسعون" عن الأديب ميخائيل نعيمة وبعضه الآخر لا تتوفر نسخ منه محلياً ـ وفي إعادة تحديد مكانته وأعماله في ضوء المتغيرات التي شهدتها السنوات الخمسة عشرة الأخيرة على الأصعدة كافة السياسية والسينمائية وغيرها.

دائم القلق تسكنه الهواجس التي نجد كثيراً منها في أفلامه

سينمائي بالصدفة؟

من غرائب الأشياء التي تحيط بمارون بغدادي السينمائي أن أحداً لم يستطع تحديد كيف ومتى قرر دراسة السينما، تفصيل يغيب أيضاً عن الكتابات المتوفرة عنه من مقالات أو مؤلفات قليلة. حتى أصدقاؤه المقربون، صمتوا أمام السؤال مفكرين. ولعل منبع السؤال هي نشأة مارون في عائلة مسيحية تقليدية الى حد بعيد، الأب فيها طبيب أسنان، أما الأم التي ارتبط بها بعلاقة خاصة ومميزة فغالب الظن أنها كانت الأبلغ تأثيراً في شخصية مارون بحبها للقراءة الذي نقلته الى أولادها. ولاحقاً كتلميذ في مدرسة الآباء اليسوعيين، عُرِف بذكائه ونباهته أكثر مما اشتهر بدرجاته العالية، وبحبه للعبة كرة السلة التي يبدو أنها شغلته لفترة طويلة. صحيح أنه كان يتردد على النادي السينمائي داخل المدرسة، ولكنه لم يبدِ، بحسب المقربين منه، اهتماماً خاصاً بالسينما وقتذاك. لعل الإشارة الوحيدة في ذلك الوقت المبكر الى مستقبله السينمائي اللاحق هي شراؤه كاميرا سينمائية 8 ملم الشائعة آنذاك مناصفة مع صديقه كلود طبال وقيامهما بتصوير أفلام صغيرة معاً. ولكن برغم ذلك، تحول مارون لاحقاً الى دراسة الحقوق ثم ما لبث أن تركها منتقلاً الى العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف. لعله الجو السائد وقتذاك هو الذي دفع بكثيرين الى السياسة والحقوق برغم ميولهم الفنية والأدبية، إذ ارتبطت الأخيرة حينها بمفهوم النضال والثورة من أجل التغيير. فقد شهدت سنوات مارون الجامعية غلياناً عالمياً سواء نكبة حزيران 1967 أو أحداث أيار 1968/ مايو في باريس أو انطلاقة المقاومة الفلسطينية في النصف الثاني من الستينات أو بما جسدته الأخيرة عموماً من أحلام عالمية في التغيير والثورة، ناهيك بالصراعات الاجتماعية والسياسية التي كانت تعتمل في لبنان منذ أواخر العقد... في هذه الأجواء، بدأ مارون اكتشافاته التي تتعدى محيطه المسيحي الصرف حتى دخوله الجامعة. وليس مستغرباً أن يرتبط ذلك بوعيه على بيروت، كما لم يعرفها من قبل. لعله يمكن بشيءٍ من التحليل الربط بين وعي مارون الجديد لمحيطه وبين بداية تراكم الصور في مخيلته الى طبيعته الشغوفة بالحياة. في معنى ما، شكل ذلك المثلث الخطوة الأولى على طريقه السينمائية ربما من دون أن يدري. ولعله من المهم أن نورد هنا تجربته في الصحافة التي كانت بدورها أشبه بمؤشر الى مستقبله السينمائي من بعيد. كانت كتابات مارون بحسب المقربين منه آنذاك وصفية بامتياز، تنفرد بحس نقدي، ساخر في بعض الأحيان. فقد كتب بالفرنسية التي اتقنها جيداً واختار التحقيقات المصورة التي يُجمع بعض أصدقائه على أنها كانت الأولى من نوعها على صفحات الصحف الفرنسية في لبنان (لوجور، لوريان ولاحقاً لوريان ـ لوجور بعد اندامجهما) كالتحقيق المصور الذي أنجزه في بداية تجربته عن منطقة عكار وأهلها. ليس اكتشافاً القول إن هذه الصفات يمكن إسقاطها على عمله الوثائقي بين 1976 و1980 الذي أثمر ثمانية أفلام موقعة باسمه، متفاوتة المستوى والمقاربة والمعالجة. ولكنها تتشارك بيئة وصفيّة، تقوم الكاميرا بنقلها بتفاصيلها كما فعل القلم في وقت سابق في تحقيقاته، وإنما بدون براءة، إذ ضمنها بمواربة في معظم الأحيان نظرته النقدية الى العالم من حوله. وبالعودة الى بيروت التي سحرت مارون حتى أيامه الأخيرة، فقد كانت هي، أو الأحرى رؤيته لها، جواز دخوله الى معهد الدراسات السينمائية العليا في باريس (ة). فقد قام مارون بتحضير ملف عن بيروت بالصورة والكلمة وقدمه الى الجامعة وقُبِل على أساسه في دراسة السينما، متخلياً عن دراساته العليا في مجال الحقوق التي كان قد بدأها بجامعة السوربون. مثل هذه الواقعة من شأنها أن تعزز مصدر علاقة مارون بالصورة وعلاقة الأخيرة بحسه الاكتشافي الى ما عُرف عنه من شغفه بوجوه الناس وميله الى تصوير من يحب.

الفيلم الخام

على هذا النحو من الفطرية إذا جاز التعبير، جاء فيلم بغدادي الأول "بيروت يا بيروت" عام 1975 صوراً متراكمة من حياته، بدءاً من وعيه الأول على محيطه المسيحي وتربيته اليسوعية وحتى دخوله الجامعة واتساع رؤيته لمحيطه ومعرفته به، وتالياً وعيه التناقضات التي تلفه. بهذا المعنى، كان "بيروت يا بيروت" فيلماً خاماً بمشاعره الأولى المحتدمة وكتلة من الأفكار والأحاسيس المتداخلة والمرتبكة. عاد مارون الى بيروت عام 1973، وقبل أن يصور مشروعه، خط بداياته في تلفزيون لبنان مع صديقه وزميل دراسته السينمائية فؤاد نعيم من خلال التحقيقات المصورة التي سوف تضع الأساس لعمله الوثائقي في ما بعد. أبصر "بيروت يا بيروت" النور وقُدِّم في عرض خاص للأصدقاء والصحافيين قبيل اندلاع شرارة الحرب الأهلية الأولى في 13 نيسان 1975 بأيام قليلة وقبل أن تضيع نسخته السالبة في استديو بعلبك. ولئن ارتبط الحديث دائماً عن الفيلم بعلاقته بالحرب، فذلك لأنه كان يقوم على حالة من الغليان، واضحة المعالم في الفيلم، فُسِّرت لاحقاً على أنها بمثابة توثيق لإرهاصات الحرب المقبلة، لا سيما من خلال إعلانه انتماءات شخصياته الدينية والطائفية والسياسية، أي هويتها في معنى ما، على نحو لم يكن موجوداً في الأفلام اللبنانية السابقة. كما أن الفيلم بوقوفه على ذلك الحد الرفيع الفاصل بين السلم والحرب، شكل حالة خاصة لجهة تأسيسه لما يمكن وصفه بسينما الحرب اللبنانية. كذلك تعدى الفيلم كونه فيلماً عن الحرب أو متنبئاً بها كما يحلو للبعض وصفه، إذ أن ظهوره في تلك الحقبة، جعله موضع النقاش السينمائي المتداول آنذاك. فقد جاء الفيلم في المرحلة الفاصلة بين محطتين شهدهما الانتاج السينمائي في لبنان: مرحلة الستينات التي شهدت الانتاج المشترك مع مصر بسبب تأميم قطاع السينما والتي امتدت حتى العام 1971 الى حين العودة عن القرار وبين مرحلة الأفلام التجارية منذ اواخر السبعينات وحتى منتصف الثمانينات مع رائدها المخرج الراحل سمير الغصيني. وجاء "بيروت يا بيروت" كذلك في أعقاب التنظير لـ"السينما البديلة"، نظرية أطلقتها مجموعة نقاد وسينمائيون عرب خلال مهرجان دمشق الأول لسينما الشباب عام 1972. بهذا المعنى، كان الفيلم ـ مع شريط برهان علوية "كفر قاسم" وإن بدا الأخير بحكم أحداثه وشخصياته أكثر انتماءً الى السينما السورية والفلسطينية منه الى سينما لبنانية في طور التشكل ـ انطلاقة لسينما جادة، سوف تكمل متقطعة لنحو عقدين مقبلين مع برهان علوية وجان شمعون وجان كلود قدسي وهيني سرور ورندة الشهال وآخرين. على أن "بيروت يا بيروت" سيظل حاملاً لملمحين أساسيين: الأول عكسه المجتمع اللبناني من خلال شخصيات نماذج في ظل التطورات السياسية والاقتصادية المحلية والعربية والثاني ارتباطه الوثيق بحياة المخرج الخاصة وبهواجسه المستمرة.

انفق مارون السنوات الخمس التالية (1975 ـ .198) في العمل الوثائقي، على الرغم من تأكيده غير مرة أن السينما الروائية هي اختياره الأول وأن التسجيلية وسيلة تعبير محدودة (الحلم المعلق، ابراهيم العريس 1994). على الرغم من أن هذا الوصف الأخير لم يعد صحيحاً في ظل التطور الكبير الذي شهدته السينما الوثائقية في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا أنه ارتبط وقتذاك بميله الى تسجيل الواقع وبافتقاره الى التقنية والجماليات الفنية. الحرب إذاً التي أجلت المشاريع السينمائية، بحسب مارون، كانت دافعه الى تحقيق مجموعة من الأفلام الوثائقية: "الأكثرية الصامدة" (1976)، "الجنوب بخير طمنونا عنكم" (1976)، "كفركلا" (1976)، "تحية لكمال حنبلاط" (1977)، "تسعون" (1978)، "اجمل الامهات" (1978)، "كلنا للوطن" (1979)، "حكاية قرية وحرب" (1979) و"همسات" أو "حنين الى أرض الحرب" (1980). كان لهذه المرحلة تأثير كبير على عمل مارون اللاحق لأنها شكلت ما يشبه المختبر للمخرج، جرب فيه واتقن علاقته بالعناصر الفنية لا سيما الكاميرا وبالناس ـ الوجوه الذين سينعكسون لاحقاً في ممثليه.

العودة

جاء فيلمه الأخير في تلك المرحلة "همسات" عن الشاعرة ناديا تويني مغمس الطرف بالسينما الروائية ومنبئاً بأن الوقت قد حان للعودة اليها بعد سبع سنوات. هذه المرة جاء "حروب صغيرة" (1982) في خضم الحرب وليس قبلها، ولكنه أثار كسابقه، وإنما على نحو أكثر حدة، النقاش حول ما إذا كان فيلماً عن الحرب أو من خارجها. ولئن تخطينا اليوم هذا النقاش بحكم التجربة ومعرفتنا بأن الحرب ليست مجرد أحداث على الأرض بل ذاكرة أيضاً، ستنطبع بطبيعة الحال في أعمال من عاشوها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إلا أنه، أي النقاش، كان حقيقياً وقتذاك أولاً لارتباطه برفض ضمني لأن تكون الحرب واقعاً مهيمناً وتالياً مطبوعاً في كل شيء، وثانياً لأن أحداً لم يكن ليقدّر أن "الحوادث"، كما كانت تُسمى، ستمتد الى حرب ضارية لثلاث عشرة سنة أخرى. فضلاً عن أن نقل الحرب الي السينما، من وجهة النظر السائدة في حينه، كان يعني في شكل ما تقويمها ووقوف صاحب العمل غالباً في موضع تبرئة نفسه وإدانة الآخرين. بهذا المعنى، واجه الفيلم انتقادات وردود فعل سلبية، ودافع مخرجه عنه بنفي تهمة الحرب عنه، واصفاً اياه بأنه فيلم عن الحروب الصغيرة التي يخوضها أشخاص على هامش الحرب. بعيداً من هذا النقاش اليوم، يبدو "حروب صغيرة" فيلماً عن الحرب، كما هي حال كافة الأفلام التي صُنعت خلال الحرب أو بعدها في زمانها ومكانها من دون أن تتقصد ـ على غرار ما فعلت أفلام الغصيني ويوسف شرف الدين ورضا ميسر وآخرين ـ أن تنأى بنفسها عن أجوائها. ولا ينفي كونها أفلاماً عن الحرب أن تتناول الأخيرة بنظرة خاصة بعيداً من المعارك أو ناسها الهامشيين. فالحرب حرب على الجميع وليس فقط على المقاتلين فيها بالسلاح. لعل هذا الفيلم الذي سيُعرض لاحقاً في صالات بيروت مطلع العام 1983 وفي مهرجان "كان" من العام نفسه في تظاهرة "نظرة ما"، حمل للمرة الأولى وبوضوح ثنائية رفض الحرب والافتتان بها والتي ستتعززأكثر بعد نحو عشر سنوات في "خارج الحياة". يظهر الاتجاه الأول في صوغ أحداث الفيلم وشخصياته على هامش الحرب ويبرز في الشخصية الأساسية (ثريا خوري) التي تسعى طوال الفيلم الى الحب والإنجاب بصرف النظر عن الحرب. ولكنها هي نفسها في أحد المشاهد تراقب المقاتلين بافتتان. لعله من المفيد هنا أن نورد نظرته الى الحرب وعلاقتها بالموت وبالهوية باعتبار الأخيرين شغلا تفكيره دائماً، كما وردت في إحدى مقابلاته عام 1979 والمنشورة في كتاب ابراهيم العريس "الحلم المعلق". في المقتطف، نعثر أيضاً على سبب لتفضيله السينما الروائية على الوثائقية:

"في السينما بإمكانك أن تعيد تركيب الحياة: تكرهها، تخلقها.. ومن الواضح أن هذا لا يعني الهروب من الواقع، بل إعادة تركيبه. فأنت كإنسان لا تهيمن على الحاضر، إلا عندما يصبح ماضياً وتعيد تركيبه، لهذا كله أحب السينما التي تحتوي على عنصري اللون والزمن. في النهاية، الزمن هو الذي يعيدنا الى السؤال الأساسي: متى الموت وكيف نموت؟ الشيء الوحيد الذي تعرفه في الحياة هو الموت. وفي رأيي أن اهمية السينما تكمن في قدرتها على طرح هذا السؤال. يمكن أن أقر بأن كل أفلامي إنما هي تساؤلات حول يقين واحد هو الموت. هناك دائماً سحر الموت، الموت بوصفه الشيء الوحيد الذي نحن أكيدون منه لكننا لا نعرف شيئاً عنه... أصارحك بأنني من خلال الحرب، من خلال الموت، عرفت للمرة الأولى انني انتمي الى هوية معينة. عرفت ان بإمكان الناس أن يموتوا بسبب هويتهم."

بملاحظة مشوار مارون السينمائي، يتبين بوضوح أن كل عمل هو محطة في ذاته، بداية محطة أو نهايتها. "حروب صغيرة" كان ايذاناً بمغادرته لبنان الى باريس لنحو تسع سنوات مقبلة، ستصنع سمعته العالمية وسيتزوج خلالها من "ثريا" بطلة "حروب صغيرة".

المرحلة الفرنسية

اتسمت المرحلة الفرنسية بصعود وهبوط وتناقض رهيب، أسفرت في نهاية المطاف عن تحقيق سمعة عالمية للمخرج من خلال ما أثاره من ردود فعل سلبية بدايةً. تجربته السينمائية الفرنسية الأولى "الرجل المحجب" (1987) التي أدار فيها ممثلين فرنسيين كان ميشال بيكولي أحدهما، قلبت الجمهور والنقاد ضده ممن اعتبروا أنه حوّل الحرب اللبنانية حرب عصابات ومواقف مفتعلة في قصة متشابكة الخيوط والشخصيات. كان طبيعياً أن يتحول ذلك الموقف اتهاماً لبغدادي بصنع الفيلم لكسب رضى الفرنسيين. ومهما يكن، فإن تأثير الحرب كان هو مرة أخرى الدافع الى ذلك. الحرب التي كانت قد أصبحت في سنتها الثالثة عشرة، أثار مارون بنقلها الى باريس ومع شخصيات فرنسية ردود الفعل ضده عندما حولها مجرد لعبة قذرة في الوقت الذي كانت حاجة المنضوين تحت لوائها أمس ما تكون الى تصديق أهدافها الكبرى وليس مواجهة عبثيتها ولا جدواها. في حين أن تحقيقه لفيلم فرنسي خالص، "فتاة الهواء"، عام 1992 لم تثر نقاشاً حاداً حول تقربه من الفرنسيين.

بصرف النظر عن صحة ذلك، تبين أفلامه اللاحقة في فرنسا أن رهانه كان خارج تلك النقطة وبعيداً من شن التهم وردها. فهو في أفلامه التلفزيونية الثلاثة اللاحقة، تنقل بين تجربة الأطباء الفرنسيين، "أطباء بلا حدود"، خلال الحرب اللبنانية في "لبنان أرض العسل والبخور" (1987) وسيرة الثوري الفرنسي "مارا" (1989) وحكاية بوليسية لا تمت بصلة الى عالمه في "الفزاعة" (1989). ثلاثة أفلام، صقلت مع "الرجل المحجب" أسلوبه السينمائي ومتنت علاقته بالتقنية التي فتحت عيونه على أهميتها فترة تمرينه في استديو "زويتروب" أوائل الثمانينات بإشراف المخرج فرانسيس فورد كوبولا، وقدمت مثالاً لم يكن موجوداً بين المخرجين اللبنانيين على مراكمة التجربة وتنوعها. في الأول، عاد مارون الى الحرب من خلال تجربة طبيب فرنسي ونظرته بما يذكر بجزء من تركيبة "الرجل المحجب". ولعل هذا الشبه هو الذي جعل كثيرين يعتبرون أن "لبنان بلد العسل والبخور" إنما هو رد اعتبار للناس والبلد وربما الحرب. تكمن أهمية الفيلمين الآخرين في إبراز موهبة مارون في التعاطي مع ممثليه وأدواته وقدرته على أن يكون مخرجاً بعيداً من الحرب. كما أثار اهتمام الفرنسيين بقدرته كأجنبي على نقل صورة حية لثوري فرنسي في "مارا" واهتمام المطلعين على تجاربه السابقة بقدرته بث روحه الخاصة وتجربته الشخصية في فيلم لا يمت بصلة اليه، بل لا يزيد في الأصل عن مشروع "كُلِّف" به.
يحضر هنا كلام المخرجة جوسلين صعب في حوار سابق الى "المستقبل" حول هذه النقطة. فالمخرجة التي تنتمي الى جيل بغدادي نفسه، كشفت عن هاجس تملّك بعض مخرجي جيلها حول اثبات أنفسهم بعيداً من الحرب بسبب انطباع أعمالهم الأولى بها أو تزامن انطلاقة مسيرتهم السينمائية مع اندلاعها. بهذا المعنى، أثبت مارون أنه مخرج بالحرب أو بدونها. ولعل في حديث صعب نقطة مفصلية أخرى، تطال أبناء جيلها أيضاً ممن صوروا الحرب هي حاجتهم الى الابتعاد منها لفترة زمنية قبل العودة اليها بفيلم. وعلى الرغم من أن كثيرين، وجدوا في أفلام مارون في باريس حتى الفرنسية منها استكمالاً لأفلامه السابقة، إلا أن تلك المرحلة، لا سيما مرحلة الأفلام التلفزيونية، كانت بمثابة الفاصل بين حرب وأخرى في سينما مارون بغدادي وإيذاناً ببدء مرحلة جديدة لم يكن يعلم أنها ستكون الأخيرة. ولكنه من المفيد قبل الحديث عنها، التعريج على بعض ملامح شخصيات مارون السينمائية الذي سيصل حده الأقصى مع فيلمه اللبناني الأخير "خارج الحياة". فمن ملامحها أنها شخصيات تحيا بقوانينها الخاصة، كمارون نفسه. وهو لذلك لا يحاكمها إنما يترك مصائرها مفتوحة، ربما لأنه كان لا يملك أجوبة بحكم ظروف المرحلة التي نضج خلالها، أي الحرب. بهذا المعنى، عكست أفلام مارون، عبر شخصياته، ارتباكاته وشكوكه أكثر مما عكست آراءه النهائية والواضحة. ولعل ذلك يجد صداه في حياته الشخصية، إذ عُرف بعدم انتمائه النهائي والفعلي لأي من الأحزاب السياسية التي كانت فاعلة برغم ميله الواضح الى مبادئ أحدها. ويصفه اصدقاؤه المقربون بأنه كان دائم القلق، تسكنه الهواجس التي نقع على شيءٍ منها في أفلامه.

الكلمة الأخيرة

عندما أنجز مارون بغدادي "حروب صغيرة" عام 1982، اعتبره بمثابة العودة الأخيرة الى موضوع الحرب. وعندما عاد الى بيروت عام 1991 بمشروع فيلم "خارج الحياة"، وصفه بأنه "كلمته الأخيرة" عن الحرب اللبنانية. وسنجد أنه لاحقاً مع سيناريو "زوايا" الذي عاد به الى بيروت عام 1993 ورحل قبل تحقيقه كان ينوي كما قال "تحقيق فيلم يكون هو الأكثر ذاتية بالنسبة الي وبه اختم علاقتي مع ذاكرتي ومع الحرب وانطلق من جديد". ولأن الأخير لم يُنجز، يبقى "خارج الحياة" الفيلم الأكثر اكتمالاً في مسيرة بغدادي، ربما لأنه كان الأخير في بيروت أو لأنه حمل رؤية رجل بلغ الأربعين واستطاع أن يقف على تخومها وأن للحظات خلال إقامته في فرنسا. أو ربما لأن "خارج الحياة" جمع عناصر من افلامه السابقة كافة وصهرها في بوتقة واحدة يحكمها هذه المرة ليس شكوك المخرج وارتباكه بل ثقته بأن الأخيرة هي القادرة على صنع سينما مثيرة للجدل. من حكاية صحافي فرنسي أُسِر في بيروت ابان الحرب، خرج فيلم "خارج الحياة" فيلماً شخصياً من عالم المخرج. ولكنه جعل الشخصية الفرنسية الأساسية (هيبوليت جيراردو) مصوراً صحفياً لقربها منه، وكأنه يشبه الشخصية به، إنما يعلن انتقاله من خلف الكاميرا الى أمامها تماماً كمصور الحرب الذي يتحول في لحظة مشهداً فيها حين يُجر الى الأسر. بهذا الفيلم رد مارون التهم التي طالت أعماله السابقة من إدانة فئة من اللبنانيين وتحميلها وزر الحرب. فهو في الفيلم يعلن ارتهان اللبنانيين كافة، مقاتلين وهامشيين، للحرب، ويصورهم مبدلاً الأدوار بين القاضي والجلاد في العلاقة بين المصور الفرنسي "الأسير" وبين سجانيه. لعل مارون أراد من خلال التغيير الذي رسمه في شخصية الصحفي الفرنسي إبان أسره أن يثبت للعالم الخارجي أن الصورة الحقيقية موجودة في الداخل وليس ما ترونه. فالمصور عرف الحرب عندما أصبح جزءاً منها، وليس مهماً في أي موقع ما دام الكل هم في معنى ما، رهائن تلك الحرب الطاحنة. وفي حين لم يسلم الفيلم من الاتهام عينه عن تقربه من الفرنسيين، اتهام احتدم أكثر لدى البعض بعد فوز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان كان مناصفة مع "اوروبا" للارس فون ترير، لم يثنِ المخرج ذلك عن تحضير سيناريو جديد، "زوايا"، عن الحرب لا تغيب عنه تجربة المخرج في فرنسا، إذ يدور عن طبيب لبناني في فرنسا، يقرر العودة بعد توقف الحرب للانتقام لوالده الذي قُتِل امام عينيه. لعله من المثير ان نحاول تصور تأثير المشروع في ما لو قُدِّر لمارون تنفيذه. لعله كان سيولد النقاش المستشري منذ عقد حول ضرورة الخروج من دوامة الحرب. ولكن الأهم أنه كان سيكون فاتحة لسينما تنظر الى الحرب وتناقشها والتي تأخر ظهورها حتى العام 1997 مع "أشباح بيروت" لغسان سلهب وتبعته تجارب أخرى لجان شمعون وخليل وجوانا جريج ورنده الشهال وآخرين ولكنها تبدو غير قادرة على الاستمرار في ظل مشكلات السينما المتراكمة.

زاوية الموت

قبل وفاته، وعلى اثر انتهائه من فيلمه الأخير الفرنسي "فتاة الهواء"، كان مارون على موعد مع مجموعة مشاريع أبرزها اثنان: اللبناني "زوايا" الذي وضعه مع الكاتب حسن داود و"القواد الأخير" الذي كان سيُدخِل المخرج الى هوليوود كما حلم دائماً منذ حلم بالسينما.

يصعب التكهن بما كانت ستسفر عنه أي من التجربتين غير المكتملتين: هل كان "زوايا" سيقفل ذاكرة الحرب فعلاً لدى مارون؟ هل كان "القواد الأخير" سيعلنه مخرجاً وحسب ويحوله الى سينما أخرى؟ لعل هذه التساؤلات التي لا تنتهي هي الدافع الى احساس من عرفوه بخسارة لا تُعوَّض، بخسارة شخص يختزن آمالاً ووعوداً مقبلة يصعب التنبؤ بها او الجزم بما ستسفر عنه. ولكن يمكن الجزم يقيناً بأن بغدادي يقف حتى هذه اللحظة من بين المخرجين اللبنانيين القلائل، ولعله الأوحد في شكل ما، الذي استطاع أن يراكم تجاربه السينمائية باستمرارية لم تُتَح لغيره ربما من أترابه على الأقل بذلك التنوع والكم وهو الأمر الذي اعتبره بغدادي متصلاً بنضوج اللغة السينمائية لدى المخرج.

في سيناريو "زوايا"، تموت إحدى الشخصيات بوقوعها من أعلى الدرج تماماً كما قضى بغدادي وكما اقترح أن تكون نهايتها. لعلها زاوية موته تلك التي كان يكتبها من دون أن يدري، مختتماً حياة قصيرة أثرت في المحيطين به على الصعيدين السينمائي والشخصي وحركت الجدل حول شخصه في كليهما.

المستقبل اللبنانية في 19 فبراير 2008