كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

يوسف شاهين قرن اسمه باسم خالد يوسف في تحية لتلميذه

«هي فوضى» فن المعلم والخطيب

نديم جرجورة

تبدأ، بعد ظهر اليوم، العروض التجارية المحلية لـ«هي فوضى» ليوسف شاهين وخالد يوسف (تمثيل: خالد صالح ومنّة شلبي وهالة صدقي وهالة فاخر)، في صالات «أريسكو بالاس» (الصنايع) «سينما سيتي» (الدورة) و«أمبير دون» (فردان) و«لاس ساليناس» (أنفة) و«إسباس» (الزوق) و«أمبير سوديكو» و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون) و«ستارغايت» (زحلة).

بعد أعوام عدّة أمضاها إلى جانبه مساعداً إياه في تحقيق أفلام روائية متفرّقة، بات خالد يوسف مخرجاً يوضع اسمه إلى جانب اسم القدير يوسف شاهين في تحقيق أحد أفلام صاحب «باب الحديد» و«الأرض» و«العصفور» وغيرها من العناوين السينمائية المصرية، التي شكّلت تاريخاً متكاملاً للسينما العربية ولارتباطها بالتحوّلات التاريخية والاجتماعية والثقافية والفردية. ذلك أن خالد يوسف، أحد تلامذة شاهين المستمرّين في العمل معه لغاية اليوم، لم يعد ذلك السينمائي «المتورّط» في تنفيذ أعمال شاهينية منذ بداية التسعينيات المنصرمة، لأن يوسف شاهين ارتضى، عند إنجازه «هي فوضى»، أن يُكتب اسمه إلى جانب اسمه كمخرجَين للفيلم الجديد المنسلّ من عمق أزمة التسلّط الفردي، الناتجة من أزمة نظام جماعي متكامل، في السياسة والاجتماع وأنماط السلوك الحياتي والعيش اليومي.

خطوة شاهينية

لا يعني هذا أن خالد يوسف لم يخرج من ظلّ المعلّم، أو أنه بقي مساعداً عادياً يتولّى قيادة السفينة الشاهينية في رحلاتها الفنية والثقافية والوجودية في هذا العالم العربي الخاضع للألم والقلق والتمزّق. فقد أنجز أفلاماً خاصّة به بدت منسجمة والسلوك الإبداعي للمعلّم، ومتلائمة والثقافة السياسية السجالية التي أتقنها شاهين في مواجهته مآسي شعبه العربي وتحوّلات مجتمعه وقضاياه. غير أن وضع اسمه إلى جانب اسم شاهين في «خانة» الإخراج الخاصّ بالفيلم الأخير لهما «هي فوضى» أدّى إلى التساؤل عن مغزى هذه الخطوة الشاهينية التي لا تعني شيئاً، ربما، بالنسبة إلى محبّي السينما الشاهينية ونتاج تلامذتها، في مقابل إمكانية تفسيرها بأنها تحيّة المعلّم لتلميذه. وإذا تمكّن التلامذة السابقون لشاهين من أن «يتحرّروا» (بشكل شبه مطلق) من سطوته الإبداعية والإنتاجية إلى حدّ بعيد، وبات لكل واحد منهم أسلوبه وشخصيته وسلوكه الإبداعي المستقلّ والمتأثّر به في آن واحد، فإن يوسف خالد، على الرغم من تحقيقه أفلاماً خاصّة به (تناولت مواضيع سياسية ورومانسية واجتماعيّة متفرّقة)، لا يزال عاملاً فاعلاً في الآلة الإبداعية (فناً وإنتاجاً وفكراً وجماليات) الشاهينية المستمرّة في رفد السينما العربية بعناوين متفاوتة الأهمية الدرامية والجمالية والتقنية، ومؤثّرة (في الوقت نفسه) في حركة الإبداع السينمائي العربي.

تقدّم خالد يوسف خطوة جديدة في عالمه السينمائي، عندما وُضع اسمه إلى جانب اسم يوسف شاهين مخرجاً للفيلم المشترك بينهما «هي فوضى». من ناحية أولى، حافظ الفيلم على النمط الإبداعي السجالي والصادم الخاص بهما، بتوغّله في متاهة الواقع المصري والعربي على المستوى الإنساني أولاً، قبل أن يُسقط سجاليته على السياسة والمجتمع والعلاقات القائمة بين الناس والأنظمة المتفرّقة التي تتحكّم بآليات العيش اليومي. ومن ناحية ثانية، توافق المخرجان على النقاط العامّة التي أسّست تاريخهما المشترك (والتاريخ الخاصّ بيوسف شاهين، الذي انطلق قبل أكثر من نصف قرن عاشها المخرج شاهين في التمرّد والمواجهة والنقد السجالي الحادّ)، والتي تمثّلت في البحث الدرامي في شؤون الفرد الخاضع لابتزاز نظام متكامل من العيش والتسلّط والخيبات والآلام والتشرّد. وإذا اعتبر نقّادٌ سينمائيون أن الأفلام الأخيرة لشاهين، التي بدأت مطلع التسعينيات المنصرمة مع «المهاجر»، عرفت تراجعاً واضحاً في ثنائية المعالجة الدرامية والشكل الفني، فإن «هي فوضى» قدّم هذا المخرج العريق، صاحب الالتباسات الأقوى في كيفية تحقيق الأفلام إنتاجاً وفكراً وجماليات درامية متفاوتة المستويات إلى حدّ التناقض الفظيع بين جمال أقصى وبؤس أسوأ، معلّماً حقيقياً في كيفية سرد الحكاية البصرية من دون التخلّي عن لغة سينمائية حافظت، في «هي فوضى» تحديداً، على نكهتها المؤثّرة والجميلة، على الرغم من حاجتها الماسّة إلى بعض التشذيب على مستوى التنظير والتوليف تحديداً.

عمل لافت

في المقابل، قدّم «هي فوضى» الممثل خالد صالح في دور لافت للانتباه، بعد نحو عامين على مشاركته المهمّة كممثل في «عمارة يعقوبيان» لمروان حامد. هذه واحدة من ميزات الفيلم، إذ بدا صالح متمكّناً من فرض حضور أدائي قادر على الإبهار لأنه متقن الصنعة وعاكسٌ مقنع للشخصية. بالإضافة إلى هذا، فإن السيناريو محبوك بطريقة سوية، وإن احتاج إلى اختزال دراميّ في بعض مشاهده، وإلى تحرير بعض حواراته من وطأة الخطابية الإيديولوجية التي اعتاد شاهين ويوسف استخدامها في أفلامهما الخاصّة. هناك أيضاً إدارة جيّدة للممثلين، ومتابعة مشوّقة للأحداث مشغولة بحرفية لافتة للنظر، لأنها جعلت قصّة الحبّ واجهة رومانسية خفّفت حدّة القراءة النقدية والسجالية التي صنعها شاهين ويوسف في معاينتهما الواقع المزري والمؤلم في شؤون البلد وأحوال ناسه وخيباتهم وتوقهم الشديد إلى الانعتاق من ربقة التسلّط الأمني البوليسي، كمقدّمة للتحرّر الإنساني من سطوة البؤس الاجتماعي والمعيشي والسياسي.

في الجانب الرومانسي، تُغرم المُدرِّسة الشابة بابن الناظرة الذي يعمل محقّقاً نزيهاً في ظلّ أجواء مشحونة بالفوضى والفساد والقمع واللامبالاة والمصالح الشخصية. غير أنه مخطوب لشابة ابنة رجل أعمال ثري وفاسد، ما يدفعه إلى التعرّض لضغوط متفرّقة، لأن والدته لم توافق على خطوبته منها، ولأن خطيبته تهتمّ بنفسها ولا تأبه بشيء أو بأحد. أما المُدرِّسة الشابة فتعاني، يومياً، تحرّش أمين الشرطة الفاسد المغرم بها بهوس جنوني، هو المتسلّط على أبناء الحيّ، والقامع شباناً يُلقي القبض عليهم ويُعذّبهم بطرق غير مشروعة. يفسخ المحقّق خطوبته، ويخرج من منزل الوالدة، قبل أن يشعر بقوة الحب النابع من قلب المُدرِّسة تجاهه. ما إن يبدأ علاقة جديدة بها، حتّى تتعرّض المدرِّسة لاغتصاب أمين الشرطة لها، الذي بلغ مرحلة هستيرية جرّاء جريمته هذه، وجرّاء تمرّد الناس عليه الذين أزالوا الأقنعة عن عيونهم وباتوا يُطالبون بحقوقهم الطبيعية.

لا شكّ في أن تشريح المجتمع بالطريقة الشاهينية أفضى إلى اتّهام النظام المتكامل المسؤول عن فوضى الحياة اليومية في السياسة والأمن والاجتماع. وإذا عجز المواطنون عن تحمّل مزيد من الضغوط الناتجة من هذه الفوضى، فإن الفضل في إشعال غضبهم وفي قيادتهم إلى مقرّ الشرطة لإعلان صرختهم المدوّية من أجل الحقّ والعدالة والحرية، عائدٌ إلى بهيّة، والدة المدرّسة الشابة.

لم يخرج «هي فوضى» عن خطابية شاهين المطعّمة، هذه المرّة، بدفع جديد من لغة خالد يوسف المتأثّرة بها (الخطابية) والمضمّخة بحيوية شبابية مستمدّة من المعلّم نفسه، أكثر السينمائيين الشيوخ شباباً وحركة وإنتاجاً. ولم يخل الفيلم من هنات عابرة ظهرت في الحوار (الخطابيّ أحياناً) وغياب التكثيف الدرامي وإطالة مشاهد أو لقطات غير مبرّرة. هذا كلّه لا يلغي أهمية العمل، ليس لأنه «جريء» كما قال نقّاد وصحافيون، بل لكشفه أن يوسف شاهين لا يزال يتمتّع بحرفية واضحة في استخدام التقنيات، مع أنه مهووس بنبرة خطابية عالية. الفيلم واضح في تشريحه الحالة المصرية المقيمة في البؤس، من خلال سرد حكائي احتاج إلى تكثيف وتشذيب لم يؤثّر غيابهما، كثيراً، على براعة النصّ في تسليط ضوء انتقاديّ حادّ على معالم الفوضى، وعلى جمالية الشكل البصري في المعاينة والتحليل.

السفير اللبنانية في 14 فبراير 2008